نداء إلى مشايخ المذهب المالكي في البلدات السورية النائمة
ـ قال حافظ المغرب ابن عبد البر في كتابه الكافي في فقه أهل المدينة: [وسأل العمريُّ العابد وهو عبد الله بنُ عبد العزيز بنِ عبد الله بنِ عمر بن الخطاب رضي الله عنه مالكَ بنَ أنس فقال: يا أبا عبد الله أيسعُنا التخلفُ عن قتال مَن خرج عن أحكام الله عز وجل وحكم بغيرها؟. فقال مالك: “الأمر في ذلك إلى الكثرة والقلة”].
تأمل قوله “مَن خرج عن أحكام الله عز وجل وحكم بغيرها”، ففي هذا السؤال دلالة على أن قتال الإمام الفاسق الجائر مرتبط عندهم بخروجه عن أحكام الله عز وجل وحكمه بغيرها وإن لم يظهِر الكفر.
ثم قال ابن عبد البر: [جواب مالك هذا يجمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول مالك هذا يشبه عندي ما رواه سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس أنه قال “من فرَّ من رجلين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فلم يفرَّ”. يعني في القتال. قال سفيان: فحدثت به ابنَ شبرمة فقال: “هكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”].
فلم يجِزِ الإمامُ مالك رحمه الله التخلفَ عن قتال من خرج عن أحكام الله عز وجل وحكم بغيرها في كل حال، وبيَّن أن الأمر في ذلك يرجع إلى الكثرة والقلة، وبنحو قول مالك يقول عبد الله بن شبرمة الفقيه الكوفي المتوفى سنة 144.
ـ وفي المدونة: [قال ابن القاسم: قال مالك في الحرورية وما أشبههم: “إنهم يُقاتلون إذا لم يتوبوا إذا كان الإمام عدلا”. وهذا يدلك على أنهم إن خرجوا على إمام عدل يريدون قتاله ويدْعون إلى ما هم عليه دُعوا إلى الجماعة والسنة، فإن أبَوا قـُوتلوا].
فقف عند قول مالك “إذا كان الإمام عدلا” وقولِ ابن القاسم “إن خرجوا على إمام عدل” لتعرف موقف مالك وتلميذه ابن القاسم من الخروج على الإمام الجائر.
ـ قال الشيخ عليش في تسهيل منح الجليل: [وقال مالك فيمن بايعه الناس بالإمارة فقام آخر وتبعه بعضهم: “روى معاوية قتـْلَ الثاني، وهذا إن كان الأول عدلا، وإلا فلا بيعة له تلزم”].
وقال الشيخ عليش في منح الجليل: [قال سحنون: “إن كان الإمام غير عدل فإن خرج عليه عدل وجب الخروج معه ليظهر دينُ الله تعالى، وإلا وسِعك الوقوفُ، إلا أن يريد نفسك أو مالك فادفعه عنهما، ولا يجوز لك دفعه عن الظالم”]. أي: وإذا لم يكن الخارج عدلا وسِعك الوقوفُ، إلا أن يريد هذا الخارجُ غيرُ العدلِ نفسَك أو مالك فادفعه عنهما، ولا يجوز لك مع كونه غيرَ عدل دفعُه عن الظالم.
ثم نقل الشيخ عليش في منح الجليل عن ابن عرفة عن الصقلي محمد بن عبد الله بن يونس المتوفى سنة 451 أنه قال: روى عيسى عن ابن القاسم عن مالك أنه قال: “إن كان مثلَ عمر بن عبد العزيز وجب على الناس الذبُّ عنه والقيام معه، وإلا فلا، دَعْه وما يُراد منه، ينتقم الله تعالى من ظالم بظالم ثم ينتقم من كليهما”.
كأن المعنى المراد هو وجوب الدفاع عن الإمام إذا كان عدلا، وليس المراد أنه لا يجب على الناس أن يدافعوا عنه إلا إذا كان في درجة عمر بن عبد العزيز، لتتفق معاني النصوص المروية عن مالك رحمه الله. ثم إذا لم يكن الإمام الذي يخرج عليه الناس ولا الخارجون عليه عدولا فلا ينبغي في قول مالك الدفاعُ عنه والقيام معه، وهذه حالة قيام الظالم على الظالم التي ورد فيها “فاعتزل تلك الفرق كلها”، ولذا فإنه يقول فيها “ينتقم الله تعالى من ظالم بظالم ثم ينتقم من كليهما”.
ـ قال ابن عبد البر في الكافي: “ولو خرجتْ على الإمام باغية لا حجة لها قاتلهم الإمام العادل بالمسلمين كافة أو بمن فيه كفاية، ويدعوهم قبل ذلك إلى الطاعة والدخول في الجماعة، فإن أبَوا عن الرجوع والصلح قوتلوا”.
ـ وروى ابن عبد البر في التمهيد بسنده إلى ربيعة بن يزيد أنه قال: قعدت إلى الشعبي بدمشق في خلافة عبد الملك، فحدَّث رجل من التابعين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “اعبدوا ربكم ولا تشركوا به شيئا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأطيعوا الأمراء، فإن كان خيرا فلكم وإن كان شرا فعليهم وأنتم منه براء”. فقال الشعبي: كذبتَ، لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف.
ـ ثم قال ابن عبد البر مبتعدا قليلا عن مذهب الإمام مالك: “وإلى منازعة الظالم الجائر ذهبت طوائفُ من المعتزلة وعامةُ الخوارج، وأما أهل الحق وهم أهل السنة فقالوا: هذا هو الاختيار، أن يكون الإمام فاضلا عدلا محسنا، فإن لم يكن فالصبر على طاعة الجائر من الأئمة أولى من الخروج عليه، لأن في منازعته والخروج عليه استبدالَ الأمن بالخوف، ولأن ذلك يحمل على هِراقة الدماء وشن الغارات والفساد في الأرض، وذلك أعظم من الصبر على جوره وفسقه، والأصول تشهد والعقل والدين أن أعظم المكروهين أولاهما بالترك، وكل إمام يقيم الجمعة والعيد ويجاهد العدو ويقيم الحدود وينصف الناسَ من مظالمهم بعضَهم لبعض وتسكن له الدهماء وتأمن به السبل فواجب طاعته في كل ما يأمر به من الصلاح أو من المباح”. وكأنه أراد أن يقول: “استبدالَ الخوف بالأمن”.
ـ ثم روى من طريق عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة عن عبد الله بن عمرو بن العاصي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يمينه وثمرة قلبه فليطعْه ما استطاع، فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا عنق الآخر”. قال عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة: فخرجت في الناس فقلت: أنت سمعت هذا من رسول الله؟. قال: سمعَتـْه أذناي ووعاه قلبي. قلت: إن هذا ابنَ عمك معاويةَ يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا والله يقول {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} {ولا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}!. فضرب بيده على جبهته وأكبَّ طويلا ثم قال: “أطعه فيما أطاع الله واعصه فيما عصى الله”. [وهذا الحديث بهذا التمام هو كذلك في صحيح مسلم وعدد من مصادر السنة، وعبد الرحمن الراوي عن عبد الله بن عمرو وثقه العجلي وذكره ابن حبان في الثقات].
ـ نقل الشيخ عليش في تسهيل منح الجليل عن القاضي أبي الحسن أحمد بن عبد الرحمن الحصائري المتوفى في أوائل القرن الخامس أنه قال: “يجب قتال أهل العصبية إن كان الإمام عدلا وقتالُ من قام عليه، وإن كان غيرَ عدل فإن خرج عليه عدل وجب الخروج معه ليظهر دينُ الله تعالى، وإلا وسعك الوقوفُ”. أي إذا كان الإمام عدلا فيجب قتال من يقوم عليه، وإن كان غيرَ عدل فإن خرج عليه عدل وجب على الناس الخروجُ مع هذا العدل الخارج عليه، وإن كان الإمام هو والخارج عليه ليسا من أهل العدالة فلا ينبغي مساعدة أحدهما، فهو قتال ظالم لظالم.
ـ قال ابن عطية عبد الحق بن غالب المتوفى سنة 546 في المحرر الوجيز عند قوله تعالى {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر}: “والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزْله واجب، هذا ما لا خلاف فيه”. ونقله عنه أبو حيان في البحر المحيط والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن والحطاب في مواهب الجليل والشيخ عليش في منح الجليل دون اعتراض عليه.
ـ قال الحطاب محمد بن محمد بن عبد الرحمن المتوفى سنة 954 في مواهب الجليل: “وعُلم أنه لو خرجتْ فِرقة لا لمنع حق بل لمنع ظلم كأمره بمعصية: ليست بباغية”.
ـ قال الدسوقي محمد بن أحمد بن عرفة المتوفى سنة 1230 رحمه الله تعالى في حاشيته على شرح الدردير على مختصر خليل في حالة ما إذا كان الإمام غير عدل: “إلا أن يقوم عليه إمام عدل فيجوز الخروج عليه وإعانة ذلك القائم”.
ـ ونحا بعض المالكية منحى آخر، مبتعدين عن قول إمام المذهب بما فيه تسويغ الواقع مهما كان فساده وفجوره، فوجدنا المواق محمد بن يوسف الغرناطي المتوفى سنة 897 يقول في كتابه التاج والإكليل: [قال ابن يونس: قال أبو محمد: “كل من ولي أمر المسلمين عن رضا أو غلبة فاشتدت وطأته من بَر وفاجر فلا يُخرج عليه جارَ أو عدلَ ويُغزى معه العدو”]!.
ووجدنا قول الدردير والخرشي في شرحيهما على مختصر خليل: “إذ لا يُعزل السلطان بالظلم والفسق وتعطيل الحقوق بعد انعقاد إمامته، وإنما يجب وعظه، فللإمام العدل قتال الخارجين عليه وإن تأولوا الخروج عليه لشبهة قامت عندهم، ويجب على الناس معاونته عليهم، وأما غير العدل فلا يجوز له قتالهم لاحتمال أن يكون خروجهم عليه لفسقه وجَوره وإن كان لا يجوز لهم الخروج عليه!.
ووجدنا أحمد بن أحمد زروق المتوفى سنة 899 يقول في شرح رسالة ابن أبي زيد: “لا يجوز لأحد اليوم أن يتعرض للأمور العامة، بل يقتصر بالإنكار على عياله وخاصته بقدر ما يقتضيه العرف، وينكر في العموم ما لا يُتوهم فيه بأمر يغير قلوب الأمراء”!!.
يا مشايخ المالكية المؤتمنين على دين الله تعالى:
أين أنتم عن فقه الإمام مالك وكبار فقهاء المذهب رحمهم الله؟!.
لم يقل الإمام مالك لعبد الله بن عبد العزيز العمري يسعُنا التخلفُ عن قتال من خرج عن أحكام الله عز وجل وحكم بغيرها في ديار المسلمين، بل نبَّه إلى أنه إذا كان في الناس قوة وجب عليهم قتاله، وأشار إلى أن الخوارج الذين يخرجون على الإمام ويكفـِّرونه ومن معه والذين هم من شر البرية لا يُقاتلون إلا إذا كان الإمام الذي خرجوا عليه عَدلا، وتابعه على ذلك تلميذه عبد الرحمن بن القاسم، وأوضح مالك أن الإمام إن لم يكن عدلا فليس له بيعة لازمة في أعناق الناس.
وهذا سحنون تلميذ تلاميذ مالك والذي توفي سنة 240 يقول إن كان الإمام غير عدل فإن خرج عليه عدل وجب الخروج معه ليظهر دين الله تعالى، فرحمه الله رحمة واسعة.
ثم مشى على نحو ذلك القاضي أبو الحسن الحصائري والحطاب والدسوقي.
وعلى قريب من ذلك النهج مع تعديل طفيف مشى ابن عبد البر، فقد قال بأن الصبر على طاعة الجائر من الأئمة أولى من الخروج عليه، ولم يقل بتحريم الخروج عليه بإطلاق، كما لم يقل بوجوبه عند القدرة كما هو مذهب إمامه، لكنه أشار إلى الإمام الذي يُطاع رغم جوره وفسقه بقوله “كل إمام يقيم الجمعة والعيد ويجاهد العدو ويقيم الحدود وينصف الناس من مظالمهم بعضَهم لبعض وتسكن له الدهماء وتأمن به السبل فواجبٌ طاعته في كل ما يأمر به من الصلاح أو من المباح”. ثم أشار إشارة ثانية إلى أن الإمام الذي يُقال فيه “أطعْه فيما أطاع الله واعصه فيما عصى الله” هو من كان على شاكلة الخلفاء الذين يجاهدون العدو ويقيمون الحدود ومع ذلك فهم دون الخلفاء الراشدين.
يا مشايخ المالكية المؤتمنين على دين الله تعالى:
إن بشار الأسد وزمرته الذين يحكمون سوريا الآن خارجون عن سمت العدالة، معلنون بالفسق والظلم والجَور والحكم بغير ما أنزل الله، ولا يجاهدون العدو، ولا يقيمون الحدود، وقد خرجت عليهم الجموع التي تنادي برفع الظلم والجور، ومعظمهم يخرجون من المساجد بعد الصلوات، فلا شك في أن الخروج على زمرة الطغيان واجب على كل مستطيع، ليظهر دين الله تعالى، ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز.
وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 1/ 11/ 1432 ، 29/9/2011 .
تنبيه: هنا أمر هام يعلمه المشتغلون بالفقه، وهو أن العدالة ـ عند التطبيق على الواقع ـ لا بد أن يُنظر فيها إلى حال معظم أفراد الأمة، فالحد الأدنى من العدالة في القرن الهجري الخامس عشر هو غير ما كان عليه في القرن الهجري الأول.
ففي عهد السلف كانوا يتشددون في أشياء يرون أن المتساهل فيها كأنه يريد أن يتحلل من الدين، أما اليوم فمن كان محافظا على الفرائض والواجبات ومجتنبا للمحرمات المتفق عليها فهو عدل، ولا يُشترط فيه أن يكون في الورع والتقوى كالخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
والله الموفق.