حوار حول حديث من يجدد لها دينها 1

حوار حول حديث من يجدد لها دينها 1:

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه تعقيبات على ما علق به بعض الإخوة جزاهم الله خيرا عما كتبته في بيان تضعيف وإعلال حديث “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها” فأقول:

أيها الإخوة الكرام: جزاكم الله خيرا وحياكم الله جميعا وتقبل منكم صالح الأعمال وجعلنا جميعا من عباده الصالحين.

اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

أيها الإخوة الكرام:

الذي يتكلم في مسائل العلم والأدلة والترجيح يجب أن يكون مجتهدا فيما يتكلم فيه، فيناقش في المسائل التي بلغ فيها رتبة الاجتهاد، وإلا فهو على خطر عظيم.

المجتهد إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، أما الذي يتكلم في دين الله في مسألة لم يبلغ درجة الاجتهاد فيها فإنه إن أخطأ فوزره عظيم، لأنه يتكلم فيما لم يُؤذن له فيه.

فقد روى النسائي في السنن الكبرى وأبو داود وابن ماجه وغيرهم عن بُريدة بن الحصيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “القضاة ثلاثة، اثنان في النار وواحد في الجنة، رجلٌ عرَف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرَف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس عن جهل فهو في النار”.

أيها الإخوة الكرام:

إذا كنتم تريدون الرد فمرحبا بالردود العلمية، والعلم هو الصادر من مجتهد، لا من مقلد.

قال الفقيه الحنبلي القاضي أبو يعلى في كتاب العُدة في أصول الفقه: “التقليد لا يفضي إلى المعرفة، ولا يقع به العلم“. [العدة في أصول الفقه: 4/ 1218].

وقال الإمام الغزالي في المستصفى: “التقليد لا يفيد العلم، فإن الخطأ جائز على المقلـَّد، والمقلـِّد معترفٌ بعمى نفسه، وإنما يدَّعي البصيرة لغيره“. [المستصفى للغزالي: 1/ 384. وفي طبعة أخرى: ص 162].

وقال الزركشي الشافعي: “التقليد لا يفيد العلم”. [تشنيف المسامع بجمع الجوامع: 4/ 623].

ونقل السيوطي عن القاضي عبد الوهاب من أئمة المالكية رحمهما الله أنه قال في كتابه المقدمات في أصول الفقه: “التقليد لا يثمر علما ولا يفضي إلى معرفة”. [الرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي: ص 47 ـ 48].

هل دخول كثير من الناس اليوم في مسائل العلوم الشرعية هو مجرد فضول منهم؟:

قال الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة: “شرْط المقلد أن يسكت ويُسكت عنه، لأنه قاصر عن سلوك طريق الحِجَاج، ولو كان أهلا له كان مُتـَّبَعا لا تابعا وإماما لا مأموما، وإن خاض المقلد في المحاجَّة فذلك منه فضول“. [ونقله السيوطي مع الإقرار في كتابه الرد على من أخلد إلى الأرض: ص 88. وفي الحاوي للفتاوي: 2/ 139، وفي طبعة أخرى: 2/ 110].

قد يقول قائل: أنا مقلد لأقوال من تعلمت منهم من أهل العلم.

أقول: يمكنك أن تنقل أقوال من يغلب على ظنك أنه من أهل العلم وتعمل بها، لكن ليس من حقك أن تتكلم في المفاضلة بين أقوال أهل العلم إذا لم تكن أنت في ذلك على علم، وإلا فستأتي يوم القيامة وقد أمسك من سفـَّهت أقوالهم بتلابيبك يخاصمونك لأنك تكلمت فيهم بغير علم، أما المجتهد فمعذور، وأما المقلد فموزور.

* ـ يقول بعض الإخوة المقلدين هكذا سمعت من شيوخي ويبني على ذلك ترجيح قول شيوخه على غيرهم!، وربما كان شيوخه أقصى ما عندهم دراسة الفقه على مذهب فقهي واحد، أو مع المقارنات الفقهية بين الأدلة التي يجدونها في الكتب أمامهم.

لكن: هل هم يعرفون الحديث بأسانيده وطرقه ويوازنون بينها؟!، وهل يعرفون علل الأسانيد ويميزون بينها؟!. الله أعلم.

* ـ ضمني لقاء قبل سنوات مع أحد كبار المشتغلين بالحديث الشريف في هذا العصر، من المشهود لهم بالتقدم في علم الحديث من كافة شرائح أهل العلم اليوم، وتدريسُه في عدد من الجامعات الإسلامية وكتاباته في علوم الحديث وإشرافه على الرسائل العلمية في غاية الاشتهار.

قرأ لي نبذة مما كان يكتب واستشارني ـ تواضعا منه ـ في ذلك.

كان كتابي منهج الإمامين البخاري ومسلم في إعلال المرويات الحديثية في يدي وكنت قد أهديته نسخة منه قبل ذلك، فقلت له: هل تسمح لي أن أقرأ نبذة من كلام الإمام البخاري في كتابه التاريخ الكبير؟!. فأذن لي، ففتحت الكتاب وقرأت منه فقرة، فاستغرب، واستوقفني وقيدها عنده في كراسة المهمات.

قلت له: هل تسمح لي أن أقرأ نبذة أخرى من كلام الإمام البخاري من كتاب العلل الكبير للترمذي؟!. فأذن لي، فقرأت منه فقرة، فاستغرب مرة أخرى، واستوقفني وقيدها عنده كذلك في كراسة المهمات.

هذا الشيخ الذي يُعد اليوم من كبار علماء الحديث ـ على الرغم من كثرة قراءاته وسعة اطلاعه ـ فاتته أشياء فيما يتعلق بعلم علل الأسانيد!، فما الظن بمن هم دونه وربما بمراحل كثيرة؟!.

أيها الإخوة الكرام:

المقلد إذا كان عاميا صِرفا فلا اعتداد بظنه أصلا، فقد قال الفقيه الحنفي ابن الهمام في فتح القدير: “العامي لا عبرة بما يقع في قلبه من صواب الحكم وخطئه، لأن ميله وعدمه سواء”. [فتح القدير شرح الهداية: 7/ 257].

وقال الفقيه الحنفي محمد بن حمزة ابن الفَنَري المتوفى سنة 834: “أما المقلد فلا اعتداد بظنه”. [فصول البدائع في أصول الشرائع لابن الفنري: 2/ 328].

وقال الفقيه الشافعي المعمَّر أبو الطيب الطبري المتوفى سنة 450: “ليس للعامي استحسان الأحكام فيما اختلف فيه الفقهاء، ولا أن يقول قولُ فلان أقوى من قول فلان، ولا حكْمَ لما يغلب على ظنه ولا اعتبار به”. هكذا نقله عنه الزركشي في البحر المحيط مع الإقرار. [البحر المحيط للزركشي: 8/ 366، وفي طبعة أخرى: 4/ 591].

* ـ

ـ قال أحد الإخوة المعترضين على تضعيف الحديث: للإمام السيوطي رسالة في هذا الحديث، والحافظ ابن حجر تكلم عنه في الفتح وتكلم عن شروط المجدد.

أقول: لم يذكر الأخ الناقل هل صرح هذان العالمان بصحة الحديث أو جرى ذكره في كلامهما فقط.

وإذا ألف السيوطي رحمه الله في هذا الحديث رسالة فهذا لا يعني أن الحديث قد أصبح بذلك صحيحا، وكذا إذا تكلم عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري أو تكلم عن شروط المجدد.

قال ابن حجر في فتح الباري في شرحه لحديث “لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون”: قال النووي: يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين ما بين شجاع وبصير بالحرب وفقيه ومحدث ومفسر وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وزاهد وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد.

ثم قال ابن حجر: [ونظير ما نبه عليه ما حمل عليه بعض الأئمة حديث “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها” أنه لا يلزم أن يكون في رأس كل مئة سنة واحد فقط، بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة، وهو متجه، فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يُدعى ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه كان القائمَ بالأمر على رأس المئة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها، ومن ثَم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده فالشافعي وإن كان متصفا بالصفات الجميلة إلا أنه لم يكن القائمَ بأمر الجهاد والحكم بالعدل، فعلى هذا كل من كان متصفا بشيء من ذلك عند رأس المئة هو المراد، سواء تعدد أم لا].

لكن يوجد فرق كبير بين الحديثين الواردين في كلام ابن حجر، فالحديث الصحيح في الطائفة المنصورة ليس فيه أن لهم ارتباطا زمنيا برأس المئين من السنين، أما الحديث الضعيف فيمن يجدد لهذه الأمة أمر دينها فإنه يربط التجديد برأس كل مئة سنة، ومن آثاره السيئة أنه يجعلنا نربط مسألة المجددين برأس كل مئة سنة، فنقول عمن كان له تجديد وكانت وفاته على رأس المئة أو نحوها إنه المجدد أو هو أحد المجددين ونستبعد من تلك اللائحة مَن لم تكن وفاته كذلك.

ـ قال أحد الإخوة: أشار البخاري إلى ضعفه في التاريخ الكبير.

أقول: لم أجد كلام البخاري عن هذا الحديث.

ـ قال أحد الإخوة: ضعف الحديث لا ينفي نسبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

أقول: ما الذي تريد أن تقوله؟!، كلامك يفيد أن كل ما لدينا من الأحاديث الصحيحة الأسانيد والضعيفة الأسانيد تُنسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم على تفاوت بينها في الدرجة، وكأن كل ما عمله المحدثون من جهد في غربلة الأحاديث جهد ليس له كبير فائدة.

جهود أولئك الأئمة الأعلام التي كانت محط تقدير وإعجاب كل الفضلاء والمنصفين يأتي أناس اليوم يهونون من شأنها، وهي التي ميز بها الله عز وجل أهل هذا الدين عن أتباع سائر الأديان.

ولا أدري لمَ يقع اليوم نوع من الإشادة بالأحاديث الضعيفة وإلحاقها بمرتبة الأحاديث الصحيحة؟! ولمصلحة من؟!.

ـ قال أحد الإخوة عن كلامي: فيه وهَم ويحتاج إلى دراسة!.

أقول: كيف عرفتَ أن فيه وهَما قبل أن تتم الدراسة؟!.

ـ قال أحد الإخوة عن هذا الحديث: المعول عليه هو كلام الأئمة المحققين في صحة رفعه ونسبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

أقول: مَن هم الأئمة المحققون عندك؟!، هل يُعد الإمام أبو داود منهم؟!، وهل تقبل بمنهج الإمامين البخاري ومسلم ومعهم أبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني وسائر أئمة علم الإعلال؟!، أو عندك من هو أعلم من هؤلاء جميعا؟!.

ـ قال أحد الإخوة: الحديث الضعيف قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أقول: أظن أن الأخ الكريم لو فكر في كلامه هذا لمَا قاله، لأنه لو جاءك إنسان خاطبا ابنتك أو أختك فضعَّفه الناس بأنه لا يصلح لمَا قبلت الموافقة عليه، ولو جاءك إنسان بعد دفن والدك وقال لك إن والدك قال لي إذا أنا مت فائت ولدي فلانا ـ الذي هو أنت ـ فقل له بأنني لست راضيا عنه حتى يعطيك ألف دينار وكان هذا الإنسان يثني عليه جماعة ويضعفه جماعة لمَا وثقت بقوله ولمَا أعطيته شيئا، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نقل لك إنسان عنه رواية وضعفه علماء الجرح والتعديل فأنت تقبل روايته؟!!، بل تقول إنها حديث؟!، بل صار هذا عندك حجة تحتج به في أمور الدين وأحكام الحلال والحرام؟!، ما هذا؟!!. أتحتاط لنفسك في أمور دنياك ولا تحتاط لدينك؟!.

من الممكن أن تقول: إذا روى هذا الراوي الضعيف رواية فيها شيء من فعل الخير المندرج تحت أصل من أصول الشريعة فأنا سأعمل بهذا الأمر احتياطا، ولا يقع بهذا خلل في أحكام الشريعة، كقراءة آية الكرسي بعد الصلاة.

فإذا صحح حديثها بعض العلماء وضعفه بعضهم وقرأتَها فهذا الذي قال به العلماء من العمل بالضعيف في فضائل الأعمال ووضعوا له شروطا.

أما الحلال والحرام والروايات التي ينبني عليها أشياء تمس حال الأمة وأوضاعها وتصوراتها فالأمر مختلف جدا.

ـ قال أحد الإخوة: الحديث الشديد الضعف يُعمل به في فضائل الأعمال خلافا لابن حجر.

أقول: من حق العالم أو الباحث أن يخالف ابن حجر إذا كان عنده علم وأبدى سببا مقْنعا للمخالفة، أما أن يقوله وليس عنده سبب مقْنع فهذا نوع من العبث، فليته بين لنا لمَ يخالفه في تلك المسألة. وإذا كانت المخالفة لبعض أقواله مع الأخذ ببعضها ليس مبنيا على علم فهذا يعني أن الذي يفعل ذلك يمشي مع الهوى.

ـ قال أحد الإخوة: ضعْف الحديث لا يعني رده وعدم قبوله.

الحديث الصحيح الإسناد يُعمل به ويُحتج به، وذلك بغلبة الظن في ثبوته، وليس بالجزم والقطع، إلا إذا تواتر نقله بالأسانيد الصحيحة بشرطها فإنه يُحكم له في هذه الحالة بالجزم والقطع على صحته.

أما الحديث الضعيف فليس ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بغلبة الظن، بخلاف الموضوع، فإنه ليس ثابتا على سبيل الجزم والقطع بذلك، وهذا هو الفرق بين الضعيف والموضوع، وليس الفرق بينهما ما تخيله بعضهم من أن الموضوع ليس ثابتا عن نبينا صلى الله عليه وسلم فينبغي أن يكون الضعيف ثابتا عنه!!.

ـ قال أحد الإخوة: هذا الحديث رُوي بطرق موصولة ضعيفة وهذا لا يعني أنه أصبح موقوفا، وقد حكم له المحققون من المحدثين بالرفع، وكلامهم أولى بالاتباع.

أقول: حديث “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها” رواه الأئمة من طريق واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس له طرق، ومن ادعى أن له أكثر من طريق عنه فليأت ببينة، فهل يجوز الكلام في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهوى والتشهي؟!.

ومن العجيب دعوى أن المحققين من المحدثين قد حكموا له بالرفع!، وأن كلامهم أولى بالاتباع!، فمن هم المحققون من المحدثين الذين حكموا لهذا الحديث بالرفع؟!، ألا تبرز أيها الأخ الكريم أسماءهم وكتبهم؟!، أو ترى أن تقديم الدعوى دون دليل ولا برهان كافٍ للحكم بقبولها؟!.

ـ قال أحد الإخوة عني: أغفلَ اعتماد الحديث من قبل علماء الحديث وتصحيحهم.

أقول: لم يذكر الأخ الكريم أقوال علماء الحديث الذين يرى أنهم اعتمدوا هذا الحديث وصححوه، فإذا وجد بعض من يقولون بصحته من المتأخرين المقلدين الذين جاؤوا بعد عصر الاجتهاد فهل يرى أن قولهم مقدم على منهج كبار الأئمة المجتهدين في الحديث الشريف كالبخاري ومسلم وسائر أئمة علوم الحديث؟!.

ـ قال أحد الإخوة عني وعن هذا الحديث: أبسط الأمور أنه ضعَّفه لأجل شراحيل بن يزيد المعافري ولم يعتبر توثيق ابن حبان له توثيقا معتبرا.

أقول: هذا الكلام فيه خلل، لأني ضعفت الحديث لهذا ولأنه معلول بعلة الوقف على أحد الرواة، وهذا ما أعله به الإمام أبو داود.

وأما أنني لا أعد الراوي الذي ذكره ابن حبان مجرد ذكر في كتابه الثقات ثقة فعندي أدلة على ذلك، ويكفيك أن تقرأ في كلام الحافظ ابن حجر قوله في كتاب النكت على كتاب ابن الصلاح عن أحد الأحاديث: “أخرجه ابن حبان في صحيحه، وهو المعروف بالتساهل في باب النقد”.

ـ ثم قال الأخ الكريم عن شراحيل بن يزيد: ذكره الدارقطني فيمن صحت روايتهم عن الثقات عند البخاري، ووثقه الذهبي في الكاشف وقال ابن حجر صدوق، وأخرج له البخاري في أفعال العباد، وروى له مسلم في المقدمة.

أقول: أما ما ذكره الباحث عن الدارقطني فقد غره العنوان الذي وجده على النسخة، وهو “ذكْر أسماء التابعين ومَن بعدهم ممن صحت روايته عن الثقات عند البخاري ومسلم”، وهذه التسمية للنسخة خطأ، والصواب هو: “ذكْر أسماء مَن اشتمل عليه كتاب محمد بن إسماعيل البخاري الجامع للسنن الصحاح من التابعين فمَن بعدهم إلى شيوخه على حروف المعجم”، كما جاء في بداية هذا الجزء، ثم أتبعهم بذكر شيوخ مسلم في كتابه من التابعين فمَن بعدهم، أي إن الدارقطني جمع فيه أسماء من روى لهم البخاري ومسلم مجرد جمع، ولم يقل “ممن صحت روايته”.

وأما الذهبي وابن حجر وغيرهما من المتأخرين فهم يلخصون غالبا أقوال الأئمة المتقدمين، وليسوا في مقام من تُقرن أقوالهم بأقوال أولئك، إلا إذا قامت قرينة على أن القول الذي قالوه هو نتيجة دراسة لهم.

وأما إذا روى البخاري من روايات راو في كتاب خلق أفعال العباد أو مسلمٌ في مقدمة كتابه الجامع الصحيح فهذا لا علاقة له بالتوثيق البتة.

لأن الراوي قد يروي له الشيخان أو أحدهما في الصحيحين ويكون قد ضُعف وأحيانا تضعيفا شديدا ولا يشفع له وجود بعض مروياته فيهما لتبرئة ساحته من التضعيف، فكيف بمن رويا له في غير الصحيحين؟!. ورواية مسلم للراوي في مقدمة كتابه أقل درجة مما لو روى له في أحاديث الكتاب.

وذكر بعض العلماء هنا جوابا إجماليا عن وجود روايات الرواة الضعفاء في بعض أحاديث الصحيحين، هو أن الشيخين قد انتقيا من حديث الراوي المضعَّف ما توبع عليه أو وُجد لروايته شواهد ترتقي بها من مرتبة الضعف إلى مرتبة القبول.

ـ نقل بعض الإخوة عن الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله أنه ذكر حديث “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها” وأنه عقب عليه بقوله: فعمر بن عبد العزيز على رأس المئة الأولى والشافعي على رأس المئة الثانية.

أقول: إذا صح السند إليه فهذا لا يعني أنه يصحح الحديث، لأنه ليس بممتنع أن يفرِّع العالم على قول يُنسب للنبي صلى الله عليه وسلم بسند لا يراه صحيحا وهو ثابت من قول بعض الصحابة أو التابعين أو أتباعهم.

كنتُ قد ضعفت إسناد هذه الحكاية عن الإمام أحمد وقلت: محمد بن أيوب بن يحيى بن حبيب لم أجد له ترجمة فهذا الطريق تالف. فنبهني أحد الإخوة جزاه الله خيرا إلى أن هذا الراوي قد انقلب اسم جده وأن الصواب هو أنه محمد بن أيوب بن حبيب بن يحيى، فبحثت عنه فوجدت أنه وثقه مسلمة بن قاسم، ولكن مسلمة مجروح، ومع ذلك فيبدو ـ لعدة قرائن ـ أنه لا بأس به.

ـ قال أحد الإخوة: المعتمد عند المتقدمين من المحدثين جواز نسبة الحديث الضعيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قسم من أقسام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل في الكذب لأن فيه نسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ليست نسبة شك وإنما نسبة ظن، والعلماء يروونه بالسند ويقولون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب الحديث زاخرة بذلك.

أقول: ما هذا المعتمد؟!، وهلا ذكرت أسماء هؤلاء الأئمة الذين اعتمدوه!، ونسبة الحديث الضعيف الإسناد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هي نسبة شك وليست نسبة ظن، فهو مشكوك في نسبته إليه صلى الله عليه وسلم.

لو عرفت أيها الأخ الكريم حقيقة هذا القول فما أظنك تقوله.

وقع في يدي كتاب كله مطاعن في ديننا ونبينا عليه صلوات الله وسلامه وفي سيرته وحياته، وكان اعتماد المؤلف على مرويات حديثية من أوله إلى آخره، معظمها أسانيدها ضعيفة، وما لم يكن ضعيف الإسناد يلوي عنقه كي يستدل به على المعاني المحرفة التي تناسب هواه.

فمعظم تلك المرويات التي جاءت بأسانيد ضعيفة على طريقتك مقبولة وتصح نسبتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم!!. هل تفرح بهذا؟!!.

لو وقع مثل هذا الكتاب في أيدي أبناء المسلمين غيرِ المحصَّنين بالفهم الصحيح لعلوم الحديث ومنهج كبار الأئمة في التصحيح لخرج كثير منهم من دين الله أفواجا، ويومئذ ستبكي ونبكي جميعا يوم لا ينفع البكاء وسنندم يوم لا ينفع الندم!.

من فضل الله تعالى على هذه الأمة أن المنهج الصحيح ليس منهجا مستحدثا يقول به اليوم فلان أو فلان، ولكنه المنهج الذي أرسى دعائمه كبار الأئمة المتقدمين قبل أن يظهر مذهب المتساهلين في التصحيح.

ولو لم يكن هذا هو مذهبَ أولئك الأئمة المتقدمين ـ الذين يتغنى كثير من الناس اليوم بمحبتهم محبة عاطفية لا حقيقية ـ لقال أعداء الله إنه منهج ابتدعتموه لرد ما واجهناكم به ولم نجد له حضورا عندكم من قبل، ولكن الله جل وعلا يقيض لهذا الدين بتأييده وتوفيقه من ينافحون عنه ويردون كيد أعدائه.

ـ قال أحد الإخوة: إن العلماء عملوا بالحديث الضعيف في الأحكام، وهذا مبحث خلافي مع أهل الحديث.

أقول: العلماء في العصور الأولى لم أجد عندهم في علوم الحديث أو الفقه أو أصول الفقه جواز الاحتجاج بالحديث الضعيف الإسناد في الأحكام، وما أظنه كان خلافيا.

العمل بالحديث الضعيف في الأحكام هو على قسمين، أحدهما أن يكون العمل به وبما انضم إليه من عملِ بعضِ الصحابة أو التابعين أو بما عضده من القياس مثلا، والآخَر أن يكون العمل به على انفراده دون أي معضد، وبينهما فرق كبير.

قال الإمام النووي رحمه الله في المجموع: “قال العلماء: الحديث ثلاثة أقسام، صحيح وحسن وضعيف، قالوا وإنما يجوز الاحتجاج من الحديث في الأحكام بالحديث الصحيح أو الحسن، فأما الضعيف فلا يجوز الاحتجاج به في الأحكام والعقائد، وتجوز روايته والعمل به في غير الأحكام كالقصص وفضائل الأعمال والترغيب والترهيب”. تأمل حيث عزى النووي ما قاله للعلماء بإطلاق، لا لعلماء مذهب من المذاهب.

وقال ابن النجار الحنبلي المتوفى سنة 972 في كتابه شرح الكوكب المنير: “يُشترط في المجتهد أن يكون عالما بصحة الحديث وضعفه سندا ومتنا، ليطرح الضعيفَ حيث لا يكون في فضائل الأعمال، ويطرحَ الموضوع مطلقا”.

وحُكي أنه قيل للإمام أحمد عن عمله ببعض الأحاديث: تأخذ بهذا الحديث وأنت تضعفه؟!. فقال: إنما نضعف إسناده، ولكن العمل عليه. أي هو مما جرى العمل به عند علماء السلف.

فشتان بين العمل بالحديث الضعيف منفردا وبين العمل بما جرى عليه السلف ووافقه حديث ضعيف، فربما عمل الصحابة بشيء مما فهموه من روح الشريعة ومن مقتضى نصوصها واستمر عليه عمل مَن بعدهم، وفي هذه الحال قد يأخذ به الفقيه ويعمل بمقتضاه.

وربما سمع الراوي الضعيف هذا فوهِم فيه ونسبه للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي مثل هذا قد يظن من لا خبرة له بواقع الحال أن الفقيه يحتج بالحديث الضعيف في الأحكام، وليس كذلك.

ثم إن هذا لا يعني أن الحديث الضعيف صار بذلك ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو ثابت عمن عمل به من الصحابة والتابعين موقوفا عليهم، وذلك لا يكفي لتثبيت أنه مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم.

ـ قال أحد الإخوة هنا: ثم إن الحديث الضعيف لو تعددت طرقه لصار حسنا لغيره وعندئذ تصبح نسبته أغلبية ظنية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أقول: الحديث الضعيف يصبح حسنا لغيره بتعدد الطرق مع أمر آخر ذكره الإمام الترمذي رحمه الله ولم يتنبه له المتأخرون. لكن ما علاقة هذا الكلام بالحديث الذي عليه مدار البحث هنا؟!، فهو حديث ليس له إلا طريق واحد.

ـ قال أحد الإخوة: ما ذكرتُه عن الحديث الضعيف هو الذي تلقيناه عن شيوخنا في الشام.

أقول: إذا كنتَ تلقيت هذا عن مشايخ الشام ـ حفظهم الله بخير وعافية ـ وأنت مقلد لهم لأنه غلب على ظنك أنهم أعلم وأورع في العلم من غيرهم فلك ذلك، ولكن في هذه الحالة ليس من حقك أن ترد به على غيرهم من أهل العلم وتلزمهم بما التزمت به في خاصة نفسك.

ـ قال أحد الإخوة: عند روايتك للحديث الضعيف ماذا تقول؟ ألا تقول “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم”؟!، المحدثون كلهم هكذا يروونه.

أقول: الحديث الضعيف لا يبتدئ المحدثون فيقولون فيه “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم”، بل يأتي هذا القول بعد ذكر الراوي الضعيف، وهذا مثال من سنن الترمذي:

قال الترمذي: حدثنا بشر بن معاذ العقدي البصري، قال: حدثنا أيوب بن واقد الكوفي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من نزل على قوم فلا يصومن تطوعا إلا بإذنهم”. وعقب عليه بقوله: هذا حديث منكر، لا نعرف أحدا من الثقات روى هذا الحديث عن هشام بن عروة.

فأنت لا تقول فيه “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم” إلا بعد ذكرك للراوي الضعيف أيوب بن واقد.

ولذا فقد نص العلماء المدققون كالنووي وغيره أنه لا يُقال في الحديث الضعيف الإسناد “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم”، بل يُقال فيه “رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال”، ولمَّا نقل أحد الإخوة هذا عن النووي من كتاب المجموع لم يبدِ الأخ الآخر ما يشعر بالقبول، ولكل وجهة، وأخشى أن يكون الحوار عند بعض الناس هو من باب الانتصار للنفس والهوى، وليس من باب الانتصار للحق.

* ـ إعلال الحديث:

حديث “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها” رواه الإمام أبو داود السجستاني وأعله بالوقف على شراحيل بن يزيد المعافري، فسنده معلول.

ـ قد يقول لي قائل: اشرح لي وجه الإعلال عند أبي داود رحمه الله.

أقول: خلاصة قول أبي داود أن هذا الحديث رواه سعيد بن أبي أيوب عن شراحيل بن يزيد المعافري عن أبي علقمة عن أبي هريرة فيما يعلم الراوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قاله، ورواه عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني عن شراحيل بن يزيد ولم يتجاوز به شراحيل، وفي مثل هذا يرى الأئمة من المحدثين أن الرواية المرفوعة معلولة بالموقوفة لحصول الشك فيها، إلا إذا جاءت قرائن تدعم رواية الرفع بحيث يترجح بها أنها ليست من قبيل الوهَم.

وهذا مذهب كبار الأئمة من المحدثين ومنهجهم ـ ومنهم البخاري ومسلم ـ قبل أن يتم هجر هذا المنهج والقضاء شبه التام على علم علل الأسانيد.

ـ قد يقول قائل: ألم يقل المحدثون زيادة الثقة مقبولة؟!.

أقول: قال الإمام البخاري رحمه الله ذلك في مناسبة خاصة، وقاله الإمام أبو حاتم الرازي رحمه الله في مناسبة خاصة كذلك، فظنه كثير ممن جاء بعدهم قاعدة مطـَّردة يمشون عليها، فصار منهج كبار الأئمة في علوم الحديث في واد ومنهج أكثر المتأخرين في واد آخر.

ـ قد يقول قائل: إذا كان منهج الإعلال المذكور هو منهجَ أئمة المحدثين فلمَ اختاروا هذا الطريق؟.

أقول: إذا كنا ونحن اثنان نطوف بالكعبة المشرفة ونحسُب الأشواط حُسبانا بأصابعنا مثلا واختلفنا فقال أحدنا لقد طفنا ستة أشواط وقال الآخر سبعة وكلانا لسنا على جزم ويقين فبقول أي واحد منا نأخذ؟!.

الأشواط الستة إذًا متفق عليها، والشوط السابع وقع فيه اختلاف وشك، فالقاعدة العقلية تقول لا بد من تثبيت القدر المتيقـَّن والبناء عليه، وهذا ما يقوله أئمة علم الحديث، فإذا اختلف راويان في الرواية فجعلها أحدهما موقوفة وجعلها الآخر مرفوعة فكونها موقوفة هو المتيقـَّن، وأما كونها مرفوعة فقد وقع فيه شك، وهنا يرجحون رواية الوقف ويعلون بها رواية الرفع.

أما إذا كنا أربعة أو خمسة مثلا وقال أحدنا طفنا ستة أشواط وقال الآخرون كلهم سبعة فما من شك في رجحان قولهم وأنهم حفظوا ما لم يحفظه الآخَر، وهذا ما يقوله أئمة علم الحديث، إذ يرجحون في مثل هذه الحالة صحة الرواية المرفوعة.

ومن المؤسف أن كثيرا ممن ينابذون أئمة المحدثين لا يعرفون مقامهم ولا يقدرونهم قدرهم، لأنهم لا يعرفون شيئا عن علوم الحديث المبنية على نظر علمي دقيق.

* ـ ملحوظة مهمة:

ـ يسأل بعضهم ما الذي يمكن أن يكون فيه تجديد في الدين إذا افترضنا صحة هذا الحديث؟.

أقول: إذا افترضنا صحة إسناد الحديث أو عدم صحة إسناده فمسألة التجديد ضرورية ولا بد منها، وهذا من المتفق عليه.

أما الدين الذي هو دين الله تعالى فهذا يجب المحافظة عليه ولا يجوز فيه التغيير ولا التبديل ولا التجديد، لكن إذا دخلت أشياء في الدين مع مرور الوقت وهي ليست منه فهذه يجب التحذير منها وإعادة الدين إلى صفائه ونقائه، وهذا هو التجديد المطلوب.

من المتفق عليه أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قام في خلافته بإبطال عدد من الأمور التي أدخِلت في الدين، ومنها رد الأموال التي أخِذت بدون حق من بيت مال المسلمين، وهذا من التجديد.

المختلَف عليه هنا هو: هل صح إسناد هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يصحَّ؟. أما عندي وحسب دراستي لإسناده فهو غير صحيح.

* ـ أيها الإخوة الكرام:

تسرني تعليقاتكم وحواراتكم، ولا تترددوا في المزيد، فالعلم رحم بين أهله، وكل منا قد يقول اليوم قولا فيستفيد من أخيه فيرجع عما كان قد قال، ورائدنا جميعا إن شاء الله البحث عن الحقيقة وقبولها والتمسك بها، وتقبل الله منكم وشكر سعيكم.

وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 23 / 10/ 1439، الموافق 9/ 7/ 2018، والحمد لله رب العالمين.

***