نبذة 24: رواية مذكورة في بعض كتب السيرة وهي ضعيفة الإسناد منكرة المتن

نبذة 24 رواية مذكورة في بعض كتب السيرة النبوية وهي ضعيفة الإسناد منكرة المتن

رواية مذكورة في بعض كتب السيرة النبوية وهي ضعيفة الإسناد منكرة المتن

قال ابن تيمية رحمه الله وغفر له «ما عليه المشركون وأهل الكتاب من تعظيم بقاع للعبادة غير المساجد ـ كما كانوا في الجاهلية يعظمون حراء ونحوه من البقاع ـ فهو مما جاء الإسلام بمحوه وإزالته ونسْخه».

أقول:

هل كانوا في الجاهلية يعظمون حراء؟!، ما هذا؟!، اللهم غفرا.

النص المنقول عن ابن تيمية هو في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم: 1/ 439.

هذه الرواية التي ذكرها ابن إسحاق ثم ابن هشام وغيره غير مقبولة، لا يجوز الاعتماد عليها، وكنت قد ذكرتها وذكرت سببَ رفضها في الملحق الذي بآخر الطبعة الثانية من كتاب عقائد الأشاعرة في حوار هادئ، حيث قلت ما نصه بحروفه:
تقدم قولي في هذا الكتاب أن ابن تيمية رحمه الله وغفر له قال: «ما عليه المشركون وأهل الكتاب من تعظيم بقاع للعبادة غير المساجد ـ كما كانوا في الجاهلية يعظمون حراء ونحوه من البقاع ـ: فهو مما جاء الإسلام بمحوه وإزالته ونسخه». وأنه ذكر ذلك في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم مخالفةَ أصحاب الجحيم 2/ 825 من الطبعة الثالثة، وقلت: «هل كانوا في الجاهلية يعظمون حراء؟!، ما هذا؟!، اللهم غفرا».

وأقول: استند ابن تيمية في دعواه أن أهل الجاهلية كانوا يعظمون حراء إلى حكاية ضعيفة الإسناد باطلة المتن، فقد قال ابن هشام في السيرة النبوية: قال ابن إسحاق: حدثني وهب بن كيسان قال: سمعت عُبيد بن عُمير بن قتادة الليثي يقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهرًا، وكان ذلك مما تَحَنَّثُ به قريش في الجاهلية». قال ابن إسحاق: وقال أبو طالب: وراقٍ ليرقى في حراءٍ ونازلِ. قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: حدثني وهبُ بن كيسان قال: قال عُبَيْدٌ: «فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم مَن جاءه من المساكين، حتى إذا كان الشهرُ الذي أراد الله تعالى فيه ما أراد من كرامته خرج إلى حراء ومعه أهله، فجاءه جبريل بأمر الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال اقرأ، …، ثم انتهى، فانصرف عني، وهببتُ من نومي، فكأنما كُتبتْ في قلبي كتابا، فخرجتُ، حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي حتى بعثتْ خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عني، وانصرفت راجعا إلى أهلي، حتى أتيت خديجة، …».

وههنا لا بد من تعليق على السند والمتن:

أما السند فإن وهب بن كيسان ثقة، وعبيد بن عمير تابعي ثقة لكن من القُصَّاص، ولم يبين ممن سمع هذا الحديث، بل أرسله إرسالًا، فالسند مرسل، والمرسل نوع من أنواع الضعيف عند المحدثين.

ومن المعلوم أن القُصاص يروون ما هبَّ ودبَّ، والقاصُّ الثقة يُحتج بما أسند لا بما أرسل من الروايات، شأنه في ذلك شأن سائر الثقات، ويتميز عنهم بأمر واحد، هو وجوب مزيد الحذر من مراسيله، وهذه الرواية منها.

هذا وقد روى ابن إسحاق ـ ومن طريقه ابن جرير في تاريخ الأمم والملوك والبيهقي في دلائل النبوة وابن عساكر في تاريخ دمشق ـ عن عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن حارثة عن بعض أهل العلم نحو تلك الرواية، وهذا إسناد لا حجة فيه لأن فيه مبهمًا، ولعل هذا المبهم قد سمع هذه الرواية من عُبيد بن عُمير، وبذلك يكون الإسناد قد رجع إلى السند الأول.

وأما المتن ففيه مستغربات:

فمنها قول عبيد بن عمير عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه «كان يجاور في حراء من كل سنة شهرًا»، إذ من المستبعد أن يجاور شهرا من السنة ثم ينتظرَ أحد عشر شهرا للخلوة مرة أخرى، ولذا فإن الرواية الصحيحة هي ما رواه البخاري من قول عائشة رضي الله عنها إذ قالت: “ثم حُبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء».

ومنها قوله «خرج إلى حراء ومعه أهله» مع نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «حتى بعثتْ خديجة رسلها في طلبي، وانصرفتُ راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة»، فمَن أهله الذين خرجوا معه إلى حراء وليس عنده إلا خديجة وأولاده الذين ولدوا قبل البعثة؟، أفأخذهم معه إلى الغار؟!، وكيف تكون خديجة معه وتبعث رسلها في طلبه؟!، ثم كيف ينصرف راجعا إلى أهله حتى يأتي خديجةَ وهي معه في الغار؟!، هذا تناقض.

ومنها نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «فجاءني وأنا نائم، وهببت من نومي»، فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم وقت نزول الوحي نائمًا؟!، ولو كان هذا في النوم لقال إنها رؤيا منامية ولمَا ألقى لها بالًا. وهل يُعقل أن يؤتي الله سبحانه وتعالى النبوة لمن اصطفاه لها في رؤيا منامية؟!. أم يريد المبطلون أن يشِيعوا التُرَّهاتِ المفتراةَ ليبطلوا بها الحق؟!، وما أضلَّ الخُلوف اللاحقة إذا علقت الفرية بوهْم أحد القصاصين فحكاها دون إسناد فتعلقوا بها وقالوا إن الحديث المرسل حجة!.

ومنها ـ وهي الطامة الكبرى ـ أن يقول «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهرًا، وكان ذلك مما تَحَنَّثُ به قريش في الجاهلية»!، والمعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفِر نفورًا شديدًا من كل ما كان عليه المشركون، وأنه ما كان يفعل مما هم عليه إلا ما تواتر أنه من شريعة إبراهيم عليه السلام، كتعظيم الكعبة المشرفة ومناسك الحج التي لم يدخلها التحريف، وأنه بعد ذلك حُبِّب إليه الخلوة، فهو يريد أن يكون خاليًا بعيدًا عن الناس، فكيف يخلو في مكان يرتاده المشركون؟!، ثم إنه كان يكره ما يفعله مشركو قريش من أمور التعبد، فكيف يختار الخلوة بالمكان الذي كانوا يعظمونه ويرتادونه؟!.

ومن الغريب أن محمد بن إسحاق رحمه الله وغفر له قد انطلتْ عليه هذه الفرية فراح يأتي بشاهد يشهد لها، وذلك إذ ذكر في أثنائها جزءًا من القصيدة المنسوبة لعم النبي صلى الله عليه وسلم أبي طالب، وهو قوله

وراقٍ ليرقى في حراءٍ ونازلِ

فكأنه ظن أن أبا طالب يشير في قصيدته إلى صاعدين في جبل حراء ونازلين منه!، لكن المتأمل في أبيات القصيدة وسياقها لا يجد فيها أدنى مناسبة لهذا المعنى، والظاهر منها هو الإشارة إلى صعود النبي صلى الله عليه وسلم في جبل حراء ونزوله منه.

ومن الغريب أن يتابع جماعة من أهل العلم محمدَ بنَ إسحاق على ذكر هذه الرواية دون نقد ولا تمحيص، لا للسند ولا للمتن، منهم ابن سيد الناس في عيون الأثر، وأبو الربيع الكلاعي في الاكتفا، والسهيلي في الروض الأنف، وابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم، والذهبي في تاريخ الإسلام، وابن كثير في البداية والنهاية، والصالحي في سبل الهدى والرشاد، وغيرهم. ويقول ابن تيمية رحمه الله وغفر له ولنا وللمسلمين أجمعين: «فإن جبل حراء الذي هو أطول جبل بمكة كانت قريش تنتابه قبل الإسلام وتتعبد هناك، ولهذا قال أبو طالب في شعره: وراقٍ ليرقى في حراءٍ ونازلِ». اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 1/ 424.

ومن الغريب أن تُنسج الخيالات حول حراء فيدونها بعض المصنفين، فمن ذلك ما ذكره ابن الأثير في كتاب الكامل في التاريخ عن عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «هو أول من تحنث بحراء، وكان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين جميع الشهر». ونقل عنه ذلك ابنُ برهان الدين الحلبي في السيرة الحلبية وأضاف «ثم تبعه على ذلك من كان يتأله، كورقة بن نوفل وأبي أمية بن المغيرة»!.

[إن فرية تعظيم المشركين لحراء هي مطية للمفترين الذين يريدون أن يقولوا إن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان على سَنن المشركين، وحاشاه من ذلك، وإن حكاية هذه الفرية مع السكوت عليها هي طامَّة من الطامات في كتب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تؤدي إلى زعزعة العقيدة في نفوس الضعفاء الذين لا يعقلون؟!].

انتهى ما كتبته في ذلك الملحق الذي بآخر الطبعة الثانية من كتاب عقائد الأشاعرة في نشرة دار السلام بالقاهرة، وهي المطبوعة سنة 1431/ 2010.

وبهذا يتبين أن هذه الرواية التي رواها ابن إسحاق ضعيفة الإسناد منكرة المتن، لذا فإني أؤكد هنا أن ما اشتملت عليه هو افتراء من أحد الوضاعين الذين كانوا يكيدون لديننا ونبينا صلوات الله وسلامه عليه، كما كانوا يحاولون إشاعة المفتريات في المجتمع المسلم، وأن تلك الفرية وصلت إلى أحد القصاص فرواها، وانتقلت حتى وصلت إلى شيخ كُتَّاب السيرة النبوية فدوَّنها، ثم تناقلها الرواة دون نظر لا إلى الإسناد ولا إلى المتن.

وأكرر في خاتمة المطاف قولي «ما أضلَّ الخُلوف اللاحقة إذا علقت الفرية بوهْم أحد القصاصين فحكاها دون إسناد فتعلقوا بها وقالوا إن الحديث المرسل حجة!».

السؤال المهم الآن هو: هل يجوز الاعتماد على روايةٍ قبل دراسة سندها ودون النظر في متنها؟!. الجواب هو أن هذا غير جائز عند أهل العلم المنصفين.