تكفير من لا يستحق التكفير مختصر

مختصر تكفير من لا يستحق التكفير

بقلم صلاح الدبن بن أحمد بن محمد سعيد الإدلبي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد خاتم النبيين، والمبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد، فكنت قد وقفت ـ منذ زمن بعيد ـ على كلام لأحد الباحثين يتحدث فيه عن جوانب من موضوع التكفير، ووجدت أنه لا بد من كتابة بعض التعليقات حول إيغاله في التكفير واستدلاله بما لا دليل له فيه، فكتبت أصل هذا البحث في 1416/ الموافق 1996، وسميته في ذلك الوقت “التحذير مما اشتبه على المتسرعين في التكفير”.

ثم رأى بعض الإخوة في 1435/ 2014 ـ في خضم انتشار الهجمة الفكرية التكفيرية ـ ضرورة طباعته ونشره، فاستجبت لطلبهم، وقدمته باسمه الجديد “تكفير من لا يستحق التكفير”، راجيا من المولى الكريم أن يتقبل منا جميعا بفضله وكرمه.

ثم اقترح علي بعض الإخوة اختصاره بعض الاختصار، رغبة في إيصاله للشريحة الكبرى من المثقفين وطلاب العلم الشرعي في أصقاع الأرض، فهأنذا أقدمه اليومَ وقد حذفت منه ما لا يخل بمقصوده، سائلا المولى تعالى أن يتقبله ويجعله لي ذخرا.

وأقول:

{سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم}. “اللهم اهدنا لما اختـُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم”.

موضوع البحث:

ـ اطلعت على أبحاث كتبها أحد الباحثين تتعلق بموضوع التكفير، اشتبه عليه فيها كثير من المسائل، فوددت أن أوضح بعض جوانب البحث، سائلاً المولى تعالى أن يوفقني للحق والصواب، وأن يجنبني الزلل، وأن ينفع بهذه الإيضاحات كل من قرأها بنية صادقة، بغيةَ الوصول إلى الحق، وأن يجعلنا متبعين للحق حيثما ظهر دليله، إنه ولي الهداية والتوفيق.

ـ قبل البدء بذكر المسائل التي أود مناقشتها في هذا الموضوع أرى أن أبدأ بذكر نقط الاتفاق ولو في الجملة، ثم أنتقل إلى نقط الاختلاف مع التعليق والمناقشة بإذن الله.

 

نقط الاتفاق:

قال الباحث: “يجب على كل مسلم حفظُ إسلامه وصونُه عما يفسده ويبطله ويقطعه، وهو الردة، والعياذ بالله تعالى”.

ثم قال: “وقد كثر في هذا الزمان التساهلُ في الكلام حتى إنه يخرج من بعضهم ألفاظ تخرجهم عن الإسلام ولا يرون ذلك ذنباً، فضلاً عن كونه كفراً”.

ثم قال: “الكفر ثلاثة أنواع: كفر اعتقادي، وكفر فعلي، وكفر لفظي”.

أقول: هذا محل اتفاق في الجملة، فمن اعتقد اعتقاداً يناقض ما ثبت ثبوتاً قاطعاً في الكتاب والسنة وعُلم من الدين بالضرورة فقد كفر، ومن فعل فعلاً أو قال قولاً يدل دلالة قاطعة على أنه صادر ممن يعتقد ذلك الاعتقاد فقد كفر.

 

نقط الاختلاف:

الكفر القولي والكفر العملي:

قال الباحث: “الأقوال الكفرية تخرِج من الإسلام مِن دون أن يقترن بها اعتقاد أو فعل، هذا ما اتفق عليه العلماء وأجمعوا عليه، فلا التفات إلى ما خالف ذلك”!.

وقال: [وقد كثر في هذا الزمان التساهلُ في الكلام حتى إنه يخرج من بعضهم ألفاظ تخرجهم عن الإسلام ولا يرون ذلك ذنباً، فضلاً عن كونه كفراً، وذلك مصداق قوله e “إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها في النار سبعين خريفاً”، أي مسافة سبعين عاماً في النزول، وذلك منتهى جهنم، وهو خاص بالكفار، والحديث رواه الترمذي وحسَّنه، وهذا الحديث دليل على أنه لا يُشترط في الوقوع في الكفر معرفة الحكم ولا انشراح الصدر ولا اعتقاد معنى اللفظ].

ثم قال: [قال إمام الحرمين “اتفق الأصوليون على أن من نطق بكلمة الردة وزعم أنه أضمر تورية كفر ظاهراً وباطناً”، وأقرهم على ذلك، يعني إذا كان اللفظ صريحاً].

ثم قال: “اعلم أن الألفاظ قسمان: صريح ليس له إلا وجه واحد، وظاهر يحتمِل معنيين أحدهما أقرب من الآخر أو هما متساويان، فمن نطق بالكفر الصريح وهو عامد ـ أي بغير سبق اللسان ـ وغيرُ مكره وعالمٌ بمعنى اللفظ فهذا يكفر اللافظ به، ولا يدخله التأويل، فلا يُنظر بعد كون اللفظ صريحاً إلى قصد الشخص ولا إلى معرفته بحكم تلك الكلمة أنها تخرِج من الإسلام”.

ثم قال: “فمن سجد لصنم اعتقاداً أو بغير اعتقاد فقد كفر، فمن رأيناه يسجد لصنم كفـَّرناه ولا نسأله هل نويت به عبادته أم نويت غير ذلك؟”.

أقول: يَرِد على هذا الكلام مؤاخذات:

المؤاخذة الأولى:

ذكر الباحث في معرِض استدلاله لما يقول بأن منتهى قعر جهنم هو خاص بالكفار، وأنه مسافة سبعين عاماً في النزول، واستدل بالحديث الذي رواه الترمذي بلفظ “إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها في النار سبعين خريفاً”، معتمداً على تحسين الترمذي للحديث، إذ سكنت نفسه إلى الجمع في هذه الرواية بين قوله “لا يرى بها بأساً” وقوله “يهوي بها في النار سبعين خريفاً”. [مسند الإمام أحمد: 2 / 236، 297. سنن الترمذي: 4/ 557. المستدرك للحاكم: 4 / 597].

وإذا صح الحديث بهذا اللفظ المذكور فهو دليل على أنه لا يُشترط ـ في الوقوع في الكفر ـ معرفة الحكم ولا انشراح الصدر ولا اعتقاد معنى اللفظ، ولكنه لم يصحَّ بهذا اللفظ.

لا يتم للباحث استدلاله بهذه الرواية التي يقول إنه قد حسَّنها الترمذي، لأن الترمذي من المتساهلين في التصحيح والتحسين، شأنه في ذلك شأن الحاكم في مستدركه والذهبي في تلخيص المستدرك.

ومما ينبغي التنبيه عليه أن الإمام الترمذي لم يقل هنا “حديث حسن”، ولكنه قال “حديث حسن غريب”، وبينهما فرق كبير عند علماء الحديث المتقنين.

والحديث بهذا اللفظ غير ثابت، والأصح فيه هو ما رواه البخاري ومسلم بلفظ مغاير له، وهو “إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يَزِلُّ بها في النار أبعدَ مما بين المشرق والمغرب”. [صحيح البخاري: 11 / 308. صحيح مسلم: 18/ 117].

والرواية الراجحة الواردة في الصحيحين لها شواهد عن عدد من الصحابة، وهي تؤكد ثبوت اللفظ الوارد فيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، دون اللفظ الذي احتج به الباحث.

المؤاخذة الثانية:

اعتمد الباحث على الرواية المرجوحة فاستنبط منها أن الرجل قد يتكلم بكلمة لا يرى بها بأساً فيكـْفرُ بها ويهوي بسببها إلى نهاية قعر جهنم، وهذا بخلاف أفهام العلماء السابقين، فإنهم فهموا من هذا الحديث أن الرجل قد يتكلم بكلمة لا يرى بها بأساً فيهوي بسببها في النار، لم يذكروا ـ حسبما وقفت عليه من أقوالهم ـ التكفيرَ والـهُوِيَّ إلى نهاية قعر جهنم.

فقد أورده الإمام البخاري ـ على سبيل المثال ـ في صحيحه وكذا البغوي في شرح السنة في كتاب الرقاق في باب حفظ اللسان، وأورده مسلم في صحيحه والترمذي في سننه في كتاب الزهد، والبيهقيُّ في شعب الإيمان في باب حفظ اللسان في فضل السكوت عن كل ما لا يعنيه وترك الخوض فيه.

وقال النووي في شرح الحديث: “معناه: لا يتدبرها ولا يفكر في قبحها، ولا يخاف ما يترتب عليها، وهذا كالكلمة عند السلطان وغيره من الولاة، أو معناه: كالكلمة التي يترتب عليها إضرار مسلم، ونحو ذلك”. [شرح صحيح مسلم: 18/ 117].

وقال الإمام أبو عمر بن عبد البر: “لا أعلم خلافاً في قوله e في هذا الحديث “إن الرجل ليتكلم بالكلمة” أنها الكلمة عند السلطان الجائر الظالم ليرضيه بها فيما يسخط الله عز وجل، ويزينَ له باطلاً يريده من إراقة دم أو ظلم مسلم ونحو ذلك”. [التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر: 13/ 51].

ونقل ابن حجر جملة من أقوال العلماء الذين شرحوا هذا الحديث، فنقل جزءً من كلام ابن عبد البر، ونقل عن عبد الله بن وهب أن المراد بها التلفظ بالسوء والفحش، وعن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنها الكلمة التي لا يعرف القائل حسنها من قبحها، فيحرم على الإنسان أن يتكلم بما لا يعرف حسنه من قبحه. [فتح الباري: 11/ 311].

وإذا استنبط العلماء السابقون ـ رحمهم الله وأجزل مثوبتهم ـ أشياء من الحديث الشريف واهتدى أحد المعاصرين لمعنى جديد وفهْم سديد فلا أرى هذا ممتنعاً، ففضل الله واسع، وعطاؤه لا حدَّ له ولا نهاية، {ما يفتحِ الله للناس من رحمة فلا ممسك لها}، ولكن: {قل هاتوا برهانكم}، فلا تـُقبل الدعوى إلا بدليل يثبت صحتها، ويظهر رجاحتها. ولكن ليس عند الباحث دليل قوي يثبت صحتها.

المؤاخذة الثالثة:

ادعى الباحث اتفاق العلماء وإجماعهم على أن الأقوال الكفرية تخرج قائلَها من الإسلام من دون أن يقترن بها اعتقاد، وهذا تسرع في دعوى الإجماع دون استقصاء ولا تمحيص، والواجبُ التثبتُ، وخاصة في مثل هذا الموضوع الخطير.

ولست أنفي أن بعض العلماء قد مال إلى بعض ما ادعى الباحث الاتفاق عليه، ولكنه قول مردود لافتقاره للدليل وإن كان قد قال به بعض الفقهاء:

* فمن الأقوال الفقهية المتسرعة في التكفير: ما جاء في كتاب الدرر ـ من كتب الحنفية ـ أن من تكلم بكلمة كفرية وإن لم يعتقد أو لم يعلم أنها لفظة الكفر ولكن أتى بها عن اختيار فقد كفر عند عامة العلماء ولا يُعذر بالجهل!. [انظر: مجمع الأنهر: 1/ 696].

ومنها قول القونوي من فقهاء الحنفية: “ولو تلفظ بكلمة الكفر طائعا غير معتقد له يكفر، لأنه راض بمباشرته وإن لم يرضَ بحكمه، كالهازل به، فإنه يكفر وإن لم يرض بحكمه، ولا يُعذر بالجهل، وهذا عند عامة العلماء، خلافاً للبعض”!. [انظر: شرح الفقه الأكبر للشيخ علي القاري: ص 241].

ومنها أن الفقيه المالكي الشيخ محمد عليش سئل: ما قولكم في رجل جرى على لسانه سب الدين من غير قصد هل يكفر؟ أو لا بد من القصد؟. فأجاب: “نعم، ارتد، لأن السب أشد من الاستخفاف، وقد نصوا على أنه ردة، فالسب ردة بالأولى، وفي المجموع: ولا يُعذر بجهل وزلل لسان”!. [فتح العلي المالك: 2/ 348].

وفتوى الشيخ محمد عليش هنا بعدم اعتبار القصد غريبة، لأنها مخالفة لما سأنقله عنه من فتاواه الأخرى المناقضة لها، وأغرب منها ما نقله عن المجموع ـ من كتب المالكية ـ من أن الرجل لا يُعذر بزلل اللسان! فتأمل واعجب!.

* ولكن ينبغي أن نعلم أن أقوال أكثر العلماء في هذه المسألة هي بخلاف ما ذكره هؤلاء.

ـ وهذه بعض النصوص عند فقهاء المالكية:

ـ قال القرافي: قال مالك: “إن ناديْتَه فأجابك لبيك اللهم لبيك جاهلا لا شيء عليه”. [الذخيرة للقرافي 12/ 21]. وقال العتبي في المستخرجة: وسئل مالك عن رجل نادى رجلا باسمه فقال لبيك اللهم لبيك أعليه شيء؟ قال مالك: “إن كان جاهلا أو على وجه السفه فلا شيء عليه”.

قال ابن رشد الجد في شرح هذا القول: “وأما الذي قاله على وجه السفه ولم ير عليه مالك في ذلك شيئا فمعناه: الذي يقوله على وجه الاستخفاف بالداعي له، ولا يُحمل على أحد أنه قال لأحد مجِدًّا معتقدا أنه إلهه إلا أن يقِر بذلك على نفسه وهو عاقل غير مجنون ولا سكران”. [البيان والتحصيل لابن رشد: 16/370 – 371 ].

ـ وقال الإمام القاضي عياض: [وأما من تكلم من سقط القول وسخف اللفظ ممن لم يضبط كلامه وأهمل لسانه بما يقتضي الاستخفاف بعظمة ربه وجلالة مولاه غيرَ قاصد للكفر والاستخفاف ولا عامد للإلحاد: فإن تكرر هذا منه وعُرف به دلَّ على تلاعبه بدينه واستخفافه بحرمة ربه وجهله بعظيم عزته وكبريائه، وهذا كفر لا مرية فيه، وأما من صدرت عنه من ذلك الهَنَة الواحدة والفلتة الشاردة ـ ما لم يكن تنقصا وإزراءً ـ فيُعاقب عليها، ويُؤدب بقدر مقتضاها وشُنعة معناها وصورة حال قائلها وشرح سببها ومقارنها، وقد سئل ابن القاسم رحمه الله عن رجل نادى رجلاً باسمه فأجابه “لبيك اللهم لبيك”، فقال: إن كان جاهلاً أو قاله على وجه سفه فلا شيء عليه]. قال القاضي عياض معلقًا على كلام ابن القاسم: “وشرْح قوله: أنه لا قتل عليه، والجاهل يُزجر ويُعلم، والسفيه يُؤدب، ولو قالها على اعتقاد إنزاله منزلة ربه لكفر”. [الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض: 2/ 299 – 300]. ومعنى “اللهم”: أي يا الله.

ـ وقال الإمام ابن رشد الجد في كتاب البيان والتحصيل: “فلا يعْلم أحد كفر واحد ولا إيمانه قطعاً، إلا بالنص، أو بأن يظهر منه عند المناظرة والمجادلة والمباحثة لمن ناظره أو باحثه ما يقع له به العلم الضروري بأنه معتقد لما يجادل عليه من كفر، إلا أن أحكامه تجري على الظاهر من حاله، فمن ظهر منه ما يدل على الكفر حُكم له بأحكام الكفر، ومن ظهر منه ما يدل على الإيمان حُكم له بأحكام الإيمان”. [البيان والتحصيل: 16/ 364].

ـ  وقال الإمام القرطبي في تفسيره: “وليس قوله تعالى {أنْ تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} بموجبٍ أن يكفر الإنسان وهولا يعلم، فكما لا يكون الكافر مؤمناً إلا باختياره الإيمانَ على الكفر كذلك لا يكون المؤمن كافراً من حيث لا يقصد إلى الكفر ولا يختاره، بإجماع، كذلك لا يكون الكافر كافراً من حيث لا يعلم”. [الجامع لأحكام القرآن: 16/ 308].

ـ  وقال القرافي فيمن تكلم في النبي e بما لا يليق: “ومن لم يقصد الازدراء ولا يعتقده في تكلمه بالسب أو اللعن أو التكذيب أو إضافة ما لا يجوز عليه أو نفي ما يجب له مما هو نقص في حقه وظهرَ عدمُ تعمدِه وقصدِ السب إما لجهالة أو لضجر أو سكر أو قلة ضبط لسان وتهور في كلامه: فإنه يُقتل، وأما القاصدُ لذلك المصرحُ فأشبهُ بالمرتد”. [الذخيرة: 12/ 23]. فانظر كيف فرَّق بين القاصد وغير القاصد.

ـ  وقال القرافي: “ومشهور المذهب قتـْل السابِّ حدًّا لا كفرًا، والساب المعتقد حِلـَّه كافر، اتفاقاً”. [الذخيرة: 12/ 26].

وقال القرافي كذلك: [إن أتى بسخيف القول غير قاصد للكفر والاستخفافِ كالقائل لما نزل عليه المطر “بدأ الخَرَّاز يرش جلوده”: أفتى جماعة بالأدب فقط لأنه عبث، وأفتى جماعة بقتله لأنه سب، هذا إن كان يتكرر منه، أما الفلتة الواحدة فالأدب]. [الذخيرة: 12/ 30]. والخرَّاز هو الذي يقص الجلود ثم يخرزها فيعمل منها المصنوعات الجلدية.

ـ  وقال العلامة ابن الشاط قاسم بن عبد الله الأنصاري المتوفى سنة 723 رحمه الله تعالى رحمة واسعة: “وكيف يلتبس الكفر بالكبائر؟! والكفر أمر اعتقادي، والكبائر أعمال وليست باعتقاد، سواء كانت أعمالاً قلبية أو بدنية”. وقال: “إن كان السجود للصنم مع اعتقاد كونه إلها فهو كفر، وإلا فلا، بل يكون معصية إن كان لغير إكراه، أو جائزا عند الإكراه”. [إدرار الشروق على أنواء البروق للعلامة ابن الشاط: 4/ 115].

ـ ونقل الفقيه المالكي الشيخ محمد عليش عن شيخ الإسلام البُرْزُلي أحد أئمة المالكية في القيروان المتوفى سنة 844 رحمه الله تعالى أنه قال في الحكم بالردة: “والذي عندي في المسألة أنه لا يترتب على من سب أو دعا أو تنقص إلا بشرطين: أحدهما حَمْل اللفظ على مدلوله العرفي، والثاني قصْد استعماله فيه، فإن عُدما أو أحدُهما فالذي عندي فيها أنه يُؤدب أدبا موجعا ويُطال حبسه”. [فتح العلي المالك: 2/ 346].

ـ وقال الشيخ البناني في مسألة وضع البصاق على المصحف: “أما إن بلَّ أصابعه لقصد قلب أوراقه فهو وإن كان محرماً لا ينبغي أن يُتجاسر على القول بكفره وردته، لأنه لم يقصد التحقير الذي هو موجِب الكفر في هذه الأمور”. [حاشية البناني على شرح الزرقاني لمختصر سيدي خليل: 8/ 63].

ـ وسئل الشيخ محمد عليش: ما قولكم في رجل أراد قراءة ربعة قرآن في بيته، فوجد بعض الأجزاء غائباً والفقيه الذي هي موقوفة تحت يده كذلك، فقال “داهية تجيء الربعة وأصحابها”، فهل يرتد بذلك وتجري عليه أحكام المرتد؟. فأجاب: “لم يرتدَّ بذلك، فلا تجري عليه أحكام المرتد، لدلالة السياق على أن مراده الجلد والورق والنقوش، لا مدلولها من ألفاظ القرآن العزيز، نعم، يُنكر عليه ويُزجر ويُؤدب حتى لا يعود إلى مثله. [فتتح العلي المالك: 2/ 347].

ـ وقال الشيخ محمد عليش: “يؤخذ من هذا: الحكمُ فيمن سب الدين أو الملة أو المذهب، وهو يقع كثيراً من بعض سفلة العوام كالحَمَّارة والجَمَّالة والخدامين، وربما وقع من غيرهم، وذلك أنه إن قصد الشريعة المطهرة والأحكام التي شرعها الله تعالى لعباده على لسان نبيه e فهو كافر قطعاً، وإن قصد حالة شخص وتدينه فهو سب المسلم، ففيه الأدب باجتهاد الحاكم، ويُفرق بين القصدين بالإقرار والقرائن، وبعضهم يجعل القصد الثاني كالأول في الحكم”. [فتح العلي المالك: 2/ 347]. وقول الشيخ عليش بأن بعضهم يجعل القصد الثاني كالأول في الحكم مع عدم ذكر اسم القائل: فيه إشارة إلى أنه قول لا يُعتمد.

ـ وهذه بعض النصوص عند فقهاء الحنفية:

ـ قال الإمام الطحاوي [في العقيدة الطحاوية: الفقرة 61]: “ولا يخرج العبدُ من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه”.

ـ وقال السَرَخْسي في مبحث تطليق السكران وارتداده: “لأن الردة تنبني على الاعتقاد”. [المبسوط للسرخسي: 10/ 123].

ـ وقال الكاساني رحمه الله: “الإيمان في الحقيقة تصديق، والكفر في الحقيقة تكذيب، وكل ذلك عمل القلب”. وقال رحمه الله: “والإيمان والكفر يرجعان إلى التصديق والتكذيب، وإنما الإقرار دليل عليهما”.

ـ وقال ابن نجيم في مبحث النية في الطلاق بعد ذكر عدة مسائل: “ولا ينافيه قولهم إن الصريح لا يحتاج إلى النية، فظهر بهذا أن الصريح لا يحتاج إليها قضاءً، ويحتاج إليها ديانة”. [الأشباه والنظائر: ص 19].

وقال ابن نـُجَيم كذلك: “وأما الكفر فيُشترط له النية، لقولهم إنَّ كفـْر المكره غير صحيح، وأما قولهم إنه إذا تكلم بكلمة الكفر هازلاً يكفر فإنما هو باعتبار أن عينه كفر”. ومعنى “هازلا” أي قاصدا الهزل به، وعيْن الهزل بقضايا الإيمان التي تـُنزه وتـُصان عن الهزل كفر، فمن قصده فقد كفر لتحقق نية الكفر فيه. [الأشباه والنظائر: ص 22].

ـ وهذه بعض النصوص عند فقهاء الشافعية:

ـ سئل الإمام أبو منصور الأزهري عمن يقول بخلق القرآن: أتسميه كافرا؟. فقال: “الذي يقوله كـُفـْرٌ”. ثم قال في المرة الثالثة: “قد يقول المسلم كفرًا”. [انظر: مجمع بحار الأنوار للفتـَّني: 4/ 419]. فانظر إلى التفريق بين وصف الكلام بأنه كفر ووصف القائل بأنه كافر. [أبو منصور الأزهري هو الفقيه الشافعي اللغوي الورع الثقة الثبت محمد بن أحمد بن الأزهر الأزهري الهروي، صاحب تهذيب اللغة وغيره، المتوفى سنة 370 هـ].

ـ وقال أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي نقلاً عن الأصحاب أي من الشافعية والأشاعرة: “والسجود للشمس أو للصنم وما جرى مجرى ذلك: من علامات الكفر وإنْ لم يكن في نفسه كفراً إذا لم يضامَّه عقدُ القلب على الكفر، ومَن فعل شيئاً من ذلك أجرينا عليه حكم أهل الكفر وإن لم نعلم كفره باطناً”. [أصول الدين لأبي منصور البغدادي: ص 266].

ـ نقل النووي عن الفقيه الشافعي الكبير أبي سعد عبد الرحمن بن مأمون المتولي النيسابوري المتوفى سنة 478 رحمه الله أنه قال: “من اعتقد قِدَم العالم أو حدوث الصانع كان كافرا، وكذا من جحد جواز بعثة الرسل أو أنكر نبوة نبي من الأنبياء، أو عظـَّم صنما بالسجود له أو التقرب إليه بالذبح باسمه: فكل هذا كفر”. [روضة الطالبين للنووي: 10/ 64 ـ 65].

وقف عند قوله “أو عظـَّم صنما بالسجود له أو التقرب إليه”، ففيه إشارة إلى أن الكفر في ذلك هو تعظيم الصنم، والتعظيم من عمل القلب.

ـ وقال الإمام الغزالي رحمه الله: “فإن قيل السجود بين يدي الصنم كفر وهو فعل مجرد لا يدخل تحت هذه الروابط فهل هو أصل آخر؟ قلنا: لا، فإن الكفر: في اعتقاده تعظيمَ الصنم، وذلك تكذيب لرسول الله e والقرآنِ، ولكن يُعرف اعتقادُه تعظيمَ الصنم: تارة بتصريح لفظه، وتارة بالإشارة إن كان أخرس، وتارة بفعل يدل عليه دلالة قاطعة كالسجود حيث لا يحتمِل أن يكون السجود لله وإنما الصنم بين يديه كالحائط وهو غافل عنه، أو غيرُ معتقد تعظيمَه، وذلك يعرف بالقرائن”. [الاقتصاد في الاعتقاد: ص 160].

ـ وقال الفقيه الشافعي إسماعيل بن أبي بكر ابن المقرئ المتوفى سنة 837 في كتابه الإرشاد: “الردة كفر مسلمٍ مكلفٍ، بنيةٍ، أو فعلٍ أو قولٍ باعتقاد”. [انظر: فتح الجواد بشرح الإرشاد: 2/ 298].

ـ وقال ابن حجر العسقلاني: قال جمهور العلماء: من حلف باللات والعزى لم تنعقد يمينه، وعليه أن يستغفر الله، ولا كفارة عليه، ويُستحب أن يقول لا إله إلا الله. [فتح الباري: 11/ 536]. تأمل حيث لم يكفروا المسلم بهذا إذا لم يكن الظاهر من حاله أنه يريد حقيقة القسم بهما.

ـ وقال السيوطي في مبحث النية بعد أن ذكر مدخل النية في الكنايات في العقود: “وتدخل أيضاً فيها في غير الكنايات في مسائل شتى، كقصد لفظ الصريح لمعناه”. [الأشباه والنظائر: ص 44].

فقد أفصح رحمه الله تعالى رحمة واسعة عن أن النية لا يقتصر دخولها على مسائل الكنايات من الألفاظ، بل إنها تدخل كذلك في مسائل تتعلق باللفظ الصريح، ومن تلك المسائل اشتراطُ أن يقصد لافظُ الصريح به المعنى الذي وُضع له ذلك اللفظ واعتـُبر أنه صريح فيه، وهذا يعني أنه لو لم يوجد قصْد لفظ الصريح لمعناه لما وقع حكمه.

ـ وقال ابن حجر الهيتمي في مسألة السجود للشمس ناقلاً عن كتاب المواقف وشرحه ومقرا: “لو عُلم أنه لم يسجد لها على سبيل التعظيم واعتقاد الإلهية بل سجد لها وقلبه مطمئن بالتصديق لم يُحكم بكفره فيما بينه وبين الله وإن أُجري عليه حكم الكافر في الظاهر”. [الإعلام بقواطع الإسلام: 2/ 348 المطبوع في آخر كتاب الزواجر].

وقال ابن حجر الهيتمي في تعليل ما أفتى به على رجل بأنه يُخشى عليه من الكفر: “فعملنا بما دل عليه لفظه صريحاً بواسطة القرينة المذكورة، وقلنا له: أنت حيث أطلقت هذا اللفظ ولم تؤول كنت كافراً، لتضمُّن لفظك تسميةَ الإسلام كفراً وإن لم تقصد ذلك، لأنا إنما نحكم بالكفر باعتبار الظاهر، وقصْدك وعدمه إنما ترتبط به الأحكام باعتبار الباطن، لا الظاهر”. [الإعلام بقواطع الإسلام: 2/ 19 بحاشية كتاب الزواجر].

ـ قال الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن عيسى المشهور نقلاً عن الفقيه الشافعي الشيخ محمد بن أبي بكر الأشخر في تصوير المسألة على شخص ما: “حَكـَمَ عليه حاكمٌ، فتبرمَ، فقال استهزاءً ليس هذا الشرع بشيء قط: كفرَ، كما لو قال لفتوى أيُّ شيء هذا الشرع؟!، أو قيل له احضرْ مجلس العلم فقال ما هذا بشيء، أو قال قصعة من ثريد خير من العلم، فحينئذ تجري عليه أحكام المرتدين من الاستتابة وغيرها، نعم، إن قال لم أردِ الشرع بل أردت الحكم عليَّ ظننته غير مستند إلى جهة تقتضيه: عُزر تعزيراً بليغاً زاجراً لمثله عن إطلاق مثل هذا القول”. [بغية المسترشدين للشيخ عبد الرحمن المشهور: ص 248].

* هذا ولو سألت اليوم رجلاً على مذهب التسرع في التكفير عن رجل نادى رجلاً باسمه فأجابه “لبيك اللهم لبيك” وهل يؤثــِّر في الحكم كونُه جاهلاً بأن مثل هذا اللفظ قد يكون كفراً أو كونُه قد قاله على وجه سفه؟ لأجابك في الحال: هذا الرجل كافر، وسواء أكان جاهلاً أو قاله على وجه سفه، وربما قال: هذا بالإجماع!!.

ـ ولو سألته عن رجل صدرت منه كلمة من سَقـَط القول وسُخف اللفظ مما يقتضي الاستخفاف بعظمة ربه وجلالة مولاه غير قاصد للكفر والاستخفاف؟ لأجابك في الحال: هذا كافر.

ـ ولو سألته عن رجل سب الدين أو تنقصه بلفظ فيه معنى السب والتنقص إلا أنه لم يقصد استعماله في هذا المعنى؟ لأجابك في الحال: هذا كافر، وسواء أقصد بلفظه هذا المعنى أو لم يقصد.

ـ والغريب في الأمر دعوى الإجماع!!، وكأن الإمام مالكا وتلميذَه ابنَ القاسم وسائر العلماء المذكورين وغيرَهم رحمهم الله تعالى ليسوا من علماء المسلمين، ولا من أهل الغيرة على الدين!!.

ـ ولو سألته عن تعريف الفقيه الشافعي ابن المقرئ للردة بأنها “كفرُ مسلمٍ مكلف بنية أو فعلٍ أو قولٍ باعتقاد”؟ وعن اشتراطه للحكم بالردة العملية أو القولية أن يكون الفعل أو القول مقترناً باعتقاد كفري؟ لرد هذا الكلام في الحال، ولنفى ابنَ المقرئ عن دائرة العلماء الفقهاء، ولنسبه إلى مخالفة الإجماع!!.

المؤاخذة الرابعة:

إن ترتيب حكم الكفر على من تلفظ بشيء من الأقوال الكفرية من دون أن يقترن بها اعتقادٌ ولا انشراحُ صدر ولا قصدٌ: فيه غفلة عن إيماءات الكتاب العزيز ودلائل السنة النبوية:

ـ فمن الآيات القرآنية الكريمة قوله تعالى {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن مَن شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله، ولهم عذاب عظيم}. [الآية: 106 من سورة النحل]. فقوله تعالى {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} يدل على نفي الحرج في النطق بكلمة الكفر عمن أكرِه عليها وقلبه مطمئن بالإيمان، وعلى كفر من نطق بها وقلبه غير مطمئن بالإيمان، وفي قوله تعالى {ولكن من شرح بالكفر صدراً} إيماء إلى أن علة كفر الكافر هنا هي انشراح صدره بالكفر، والكفر هو ما سوى اطمئنان القلب بالإيمان وبمحبته وتعظيمه، سواء أكان شكـًّا في الإيمان أو استهزاءً بخصاله أو اطمئنانًا بنقيضه.

ـ ومن الآيات الكريمة قوله تعالى {وليس عليكم جُناح فيما أخطأتم به، ولكنْ ما تعمدت قلوبكم، وكان الله غفوراً رحيماً} [الآية: 5 من سورة الأحزاب]. فقوله تعالى {وليس عليكم جُناح فيما أخطأتم به} ينفي الحرج عمن أخطأ في دعاء المتبنـَّى لغير أبيه، وفي ضمن ذلك إثباته لمن صدر منه ذلك لا على وجه الخطأ، وفي قوله تعالى {ولكنْ ما تعمدت قلوبكم} إيماء إلى أن علة الإثم في حالة وقوعه هي تعمد القلب لذلك.

ـ ومن الآيات الكريمة قوله تعالى {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، والله غفور حليم}. وقوله تعالى {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان}. [الآية 225 من سورة البقرة، والآية 89 من سورة المائدة]. فقوله تعالى {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} نصٌّ في عدم المؤاخذة باللغو في اليمين، وظاهرٌ في إثبات المؤاخذة بما ليس لغوا في اليمين، وفي قوله تعالى {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} وقولِه {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} إيماء إلى أن علة المؤاخذة في اليمين هي عقد القلب عليها واكتسابه لها.

ـ فهذه الإيماءات القرآنية تشير إلى أن مناط المؤاخذة في الحكم التكليفي هو القصد القلبي، فالآخذ بها يعلم أن العلة فيما استـُثـْني هي عدم وجود القصد، كحالة الإكراه على التلفظ بكلمة الكفر، والخطأِ في دعاء المتبنـَّى لغير أبيه، والحَلِفِ بالله في لغو اليمين، ومن الممكن أن تـُقاس على هذه الحالات نظائرها، ومن غـَفـَل عن هذه الإيماءات ـ وخاصة في قضية التكفير ـ جعل قوله تعالى {ولكنْ من شرح بالكفر صدراً} خاصاً بحالة الإكراه وقَصَرَ المستثنيات على مَحَالـِّـها، وعمَّم حكم التكفير على ما عداها، حتى ولو كان قائلها لا يقصد أي معنى من معاني الكفر!!، وهذا من الجمود على الألفاظ وعدم الغوص على المعاني.

ـ ومن الأحاديث النبوية الشريفة قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق على صحته “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى”. [صحيح البخاري: 1/ 9. صحيح مسلم: 13/ 53].

وقد نقل النووي عن الإمام الشافعي رحمهما الله أن هذا الحديث يدخل في سبعين باباً من الفقه، ثم قال: “وفيه دليل على أن الطهارة وهي الوضوء والغسل والتيمم لا تصح إلا بالنية، وكذلك الصلاة والزكاة والصوم والحج والاعتكاف وسائر العبادات، وتدخل النية في الطلاق والعتاق والقذف، وإن نوى بصريحٍ غيْرَ مقتضاه دُيِّن فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يُقبل منه في الظاهر”. [شرح صحيح مسلم: 13/ 53، 54].

ولا شك في أن النية تدخل في أبواب الإيمان، والعلم، والجهاد، والذكاة، والغصب، والنكاح، والأيمان، والنذر، ويجب أن تدخل كذلك في باب الردة.

وتأمل قوله “وإن نوى بصريحٍ غيْرَ مقتضاه دُيِّن فيما بينه وبين الله تعالى”، فرحمه الله رحمة واسعة.

ـ ومن الأحاديث النبوية حديث أنس بن مالك أن النبي e قال: “ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه ما يزن من الخير ذرة”. [صحيح البخاري: 13/ 393]. وحديث أبي سعيد الخدري عن النبي e أنه قال: “فيقول الله تعالى اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه”. [صحيح البخاري: 13/ 421. صحيح مسلم: 3/ 31].

وقوله عليه الصلاة والسلام في هذه الأحاديث “في قلبه” دليل على أن أدنى وأقل مراتب المؤمن الذي لا يُخلد في جهنم هي أن يكون في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وأن الكافر مَن ليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وفيها إشارة إلى أن أصل الإيمان أو الكفر هو في القلب وأن ثمرات كل منهما تظهر على الجوارح، فلا يصح أن يُطلق على رجل من أهل الإيمان وصْف الكفر إذا تلفظ بلفظ كفري دون أن يقصد المعنى الكفري.

“اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك”.

ـ ويُستأنس للتفريق بين الحالتين بحديث أبي موسى الأشعري ومعقِل بن يسار عن النبي e أنه قال: “أيها الناس، اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل”. فقال رجل: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟. فقال: “قولوا اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم”.

[مسند أحمد: 4/ 403. الأدب المفرد للبخاري: ص 214 – 215. مسند أبي يعلى: 1/ 60 – 62. عمل اليوم والليلة لابن السني: ص 78].

ففي هذا الحديث يعلمنا النبي e التوجه إلى الله تبارك وتعالى، طالبين أن يحصِّننا ويعصمنا من أن نشرك به ونحن نعلم، وسائلين المغفرة لما قد يقع منا ونحن لا نعلم. أفليس هذا تفريقاً بين الحالتين؟!.

أما من قال قولاً كفرياً أو عمل عملاً كفرياً قاصداً معناه الكفري فهو كافر لا شك في كفره حتى وإن لم يقصد بقوله أو عمله الخروجَ من الإسلام، وبين قصْد المعنى الكفري وقصْد الخروج من الإسلام فرْق كبير.

 

الحالات المستثناة من الكفر اللفظي والعلة في ذلك:

قال الباحث: “قال الفقهاء: يُستثنى من الكفر القولي حالةُ سبق اللسان، وحالة غيبوبة العقل، وحالة الإكراه”. ثم قال: “ينبغي أن يُضاف: حالة الحكاية لكفر الغير، وحالة كون الشخص متأولاً باجتهاده في فهم الشرع”.

أقول: يبدو أن الباحث قد أصبح في أسْر القاعدة التي وضعها، وجعل النص الذي وضعه في المستثنيات كأنه نص الشارع، بل كنصِّ الشارع التعبدي، لا كالنص المعقول المعنى، لأن الثاني يمكن استنباط علته والقياس عليها، بخلاف الأول.

وإذا كان الباحث يقر باستثناء خمس حالات من الكفر اللفظي فلا بد من البحث عن العلة التي جعلتها مستثناة من تكفير المتلفظ بكلمة الكفر، وعن السبب الذي يمنع القياس عليها إن كان هنالك سبب.

فأما العلة في استثنائها ـ رغم ما فيها من جريان كلمة الكفر على اللسان ـ فهي أن المتلفظ بها لم يقصد المعنى الكفري، أي لم ينضمَّ الكسب القلبي إلى نطق اللسان، وهذا ما فهمه جمهور العلماء من قول النبي e “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى”.

وارجع إلى نصوص العلماء الذين نقلتُ أقوالهم في المؤاخذة الثالثة، وهم الإمام مالك وتلميذه عبد الرحمن بن القاسم وابن رشد الجد والقاضي عياض وأبو عبد الله القرطبي صاحب كتاب الجامع لأحكام القرآن والقرافي وابن الشاط والبرزلي والشيخ محمد عليش والبنَّاني من فقهاء المالكية، والطحاوي والسرخسي والكاساني وابن نجيم من فقهاء الحنفية، وأبو منصور الأزهري الفقيه اللغوي وأبو منصور عبد القاهر البغدادي والمتولي وأبو حامد الغزالي وابن المقرئ وابن حجر العسقلاني والسيوطي وابن حجر الهيتمي والأشخر من فقهاء الشافعية، فستجد أن كلامهم يدور على أن الأقوال والأفعال التي يكفر بها المرء ليست هي الكفر، بل هي علامات للكفر، وأنها كفر حقيقي إذا انضم إليها عقد القلب على المعنى الكفري، وأن من اقترف شيئاً من ذلك أجرينا عليه حكم أهل الكفر وإن لم نعلم كفره باطناً.

* حالات ينبغي قياسها على المستثنيات:

فإن قال قائل: الأصل في المتلفظ بكلمة كفرية أن يُحكم عليه بالكفر، واستثنينا بعض الحالات لأنه قد دل الدليل على استثنائها، ولم نجد حالة أخرى نضيفها إليها.

فالجواب: ينبغي أولاً تقرير القاعدة وهي أن مناط الكفر هو عقـْد القلب عليه، وأن الأصل في المتلفظ بكلمة كفرية أن يُحكم عليه بالكفر، وأنه يُستثنى من هذا الأصل الحالات التي ليس فيها عقد القلب على الكفر، كالحالات الخمسة المذكورة في كلام الباحث.

فإن قيل: فهل هناك حالة أخرى؟ وما هي؟.

فالجواب: نعم، هناك حالة أخرى، وهي ما إذا تعارف الناس على استعمال تركيب لغوي في غير معناه الأصلي الذي وُضع له مما قد يقتضي الكفر في أصل معناه.

والدليل على ذلك أن النبي e نهى عن الحلف بالآباء ثم قال هو للرجل “أفلح وأبيه إن صدق”، فهل نقول إن النبي e قد حلف بغير الله تعالى؟!!، وهل نقول إنه حلف بوالد ذلك الرجل؟!!، هذا محال، قال ابن حجر: فيُجاب بأجوبة: الأول: أن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم من غير أن يقصدوا به القَسَم، والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحَلِف، وإلى هذا جنح البيهقي، وقال النووي إنه الجواب المرضي. [فتح الباري: 11/ 534].

وقال النبي e لعائشة رضي الله عنها “تربتْ يمينُك”، فهل نقول إنه دعا على عائشة بالفقر؟!!. قال النووي: [والأصح الأقوى الذي عليه المحققون في معناه أنها كلمة أصلها “افتقرتِ”، ولكن العرب اعتادت استعمالها غير قاصدة حقيقة معناها الأصلي، فيذكرون تربت يداك، وقاتله الله ما أشجعه، ولا أُمَّ له، ولا أب لك، وثكلتـْه أمه، وويلَ أمِّه، وما أشبه هذا من ألفاظهم، يقولونها عند إنكار الشيء أو الزجر عنه أو الذم عليه أو استعظامه أو الحث عليه أو الإعجاب به، والله أعلم]. [شرح صحيح مسلم: 3/ 221]. وانظر [فتح الباري: 1/ 229].

وقال أنس بن مالك t: لم يكن النبي e سبَّاباً ولا فحَّاشاً ولا لعَّاناً، كان يقول لأحدنا عند الـمَعْتِبة “ما له؟ تربَ جبينه”. قال ابن حجر: [قال الداودي: “قوله ترب جبينه كلمة تقولها العرب جرت على ألسنتهم، وهي من التراب، أي سقط جبينه للأرض، وهو كقولهم رَغِمَ أنفه، ولكن لا يُراد معنى قوله ترب جبينه، بل هو نظير ما تقدم في قوله تربت يمينك”. أي إنها كلمة تجري على اللسان ولا يراد حقيقتها]. [فتح الباري: 10/ 453].

وقال النبي e لمعاذ بن جبل t “ثكلتك أمك يا معاذ”، [مسند أحمد: 5/ 231]، فهل دعا عليه بالموت وأن تصبح أمه ثكلى؟!!، والجواب بكل تأكيد: لا، وإنما هي كلمة تجري على ألسنة العرب وليس المراد حقيقةَ معناها الأصلي.

ولم يغفـُل علماء أصول الفقه عن إيداع هذه المسألة في المصنفات الأصولية، فقد قال الفقيه الحنفي الأصولي أبو علي أحمد بن محمد بن إسحاق الشاشي المتوفى سنة 344: “وما يُترك به حقيقة اللفظ خمسة أنواع: أحدها دلالة العرف، وذلك لأن ثبوت الأحكام بالألفاظ إنما كان لدلالة اللفظ على المعنى المراد للمتكلم، فإذا كان المعنى متعارَفاً بين الناس كان ذلك المعنى المتعارَف دليلاً على أنه هو المراد به ظاهراً، فيترتب عليه الحكم،… والثالث قد تـُترك الحقيقة بدلالة سياق الكلام”. [أصول الشاشي: ص 85، 90].

ومما لا شك فيه أنه لا بد من مراعاة عرف الناس اللغوي في استعمال الكلام وإفادة الألفاظ للمعاني، فمن تكلم بكلام جرى العرف اللغوي باستعماله في غير معناه الأصلي فالظاهر أنه يريد به المعنى المتعارف عليه، فتجري عليه أحكامه، إلا إذا نوى به غير ذلك.

* تحميل كلام الإمام فخر الدين الرازي ما لا يحتمِل:

قال لي أحد المتسرعين في التكفير: “إذا أُكرِه المسلمُ على التلفظ بكلام كفري وتلفظ به أو قال إنه غير مسلم فإنه لا يُعد خارجا عن الإسلام إذا هُدد بالقتل أو الضرب الشديد، أما إذا كان تهديده بالضرب الخفيف أو بغير ضرب من سائر أنواع التهديد فإنه يُعد مرتدا، وهذا ما ذكره الإمام الرازي في تفسيره”!!. كذا قال.

أقول: كلام الإمام الرازي في واد، والمعنى الذي يُراد إقحامه على كلامه في واد آخر، فقد قال الرازي في تفسير قوله تعالى {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}: “يجب ههنا بيان الإكراه الذي عنده يجوز التلفظ بكلمة الكفر، وهو أن يعذبه بعذاب لا طاقة له به، مثل التخويف بالقتل، ومثل الضرب الشديد والإيلامات القوية”. [ تفسير الرازي: 20/ 121].

فكلام الرازي هو في بيان متى يجوز التلفظ بكلمة الكفر، ومُفـَاده أن التخويف بشيء دون الضرب الشديد والإيلامات القوية لا يجوِّز الإقدام على التلفظ بها، فالمسألة هنا هي هل يجوز التلفظ أو لا يجوز؟، وليست هل المتلفظ بذلك في تلك الحالة مرتد أو غير مرتد؟، ولكن كثيرا من الناس لا يعقلون!!.

وقال الإمام القرطبي في تفسيره: “أجمع أهل العلم على أن من أُكرِه على الكفر حتى خشي على نفسه القتلَ أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان”. ثم قال: “واختلف العلماء في حد الإكراه، فرُوي عن عمر بن الخطاب t أنه قال ليس الرجل بآمن على نفسه إذا أخَفـْته أو أوثقته أو ضربته، وقال ابن مسعود ما كلام يدرأ عني سوطين إلا كنت متكلما به، وقال النخعي القيد إكراه والسجن إكراه، وليس عند مالك وأصحابه في الضرب والسجن توقيت، إنما هو ما كان يؤلم من الضرب وما كان من سجنٍ يدخُل منه الضيقُ على المكرَه”. [الجامع لأحكام القرآن: 10/ 182، 190].

فأنت ترى أن علماء التفسير يذكرون ما وقفوا عليه من الأقوال والروايات في الحد الذي يبيح للمسلم النطق بكلمة الكفر من أنواع الإكراه، فمن أُكره على ذلك بالحد الأدنى مما ذكروه أو بما فوقه فلا إثم عليه، وأما إذا كان إكراهه بما لا يبلغ الحد الأدنى منه فهو آثم، ولا يقال عنه في هذه الحالة إنه مرتد إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان.

ومما يلتحق بالضرب الموجع والسجن المفجع ما وقع لأحد المسلمين في بلدة من ديار غير المسلمين، إذ سئل عن دينه من قبل أحد الإداريين المتعصبين، وقد عرف أنه إن أخبره بإسلامه ألحق به أضرارا جسيمة من أنواع التعسير والتضييق، لا لذنب سوى أنه يؤمن بالله تعالى ربا وبمحمد e نبيا ورسولا، فلما سأله هل أنت مسلم؟ قال لا، ويقول ذلك المسلم إنه لم يشكَّ في دينه قط وإن قلبه حتى في تلك اللحظة كان مطمئنا بالإيمان.

ومن الغريب أن أحد المتسرعين في التكفير أفتى ذلك المسلمَ بأنه ارتد عن دين الإسلام بذلك الجواب رغم أن قلبه مطمئن بالإيمان!.

إذا كان الرجل يعني ما يقول أي يقصد ما يقول لفظا ومعنى فقد ارتد ظاهرا وباطنا، أي في القضاء والفتوى، أما إذا لم يقصد معنى ما يقول فهي ردة في حكم القضاء، لا في مقام الإفتاء.

 

* الألفاظ المكفرة عند بعض فقهاء الحنفية:

قال الباحث: “بعض الفقهاء من شافعيين ومالكية وغيرهم ذكروا كثيراً مما هو ردة، وأكثرهم تعداداً الحنفية”.

وكأن الباحث بسكوته على ما أورده في معرض الاحتجاج به موافق على أحكام التكفير المذكورة، وخاصة عند الحنفية.

أقول: من اطلع على باب الردة في بعض كتب السادة الحنفية رحمهم الله تعالى رأى تفاصيل وتفاريع كثيرة جداً، وفي كثير منها نظر ظاهر لا يخفى، بحيث يجب أن تُقيد بتقييدات موضحة لسبب الحكم على قائلها بالكفر، وإلا فكيف يُحكم بالكفر مثلا على من صلى في ثوب نجس؟! وعلى من قال باسم الله عند أكل الحرام؟!.

فالذي صلى في ثوب نجس أو قال باسم الله عند أكل الحرام لا يصح أن يُحكم عليه بالكفر بإطلاق، فإن فعل ذلك استخفافاً بأحكام الشريعة فهو كافر دون شك، للاستخفاف، أما إن لم يكن عنده ذلك القصد كمن صلى في ثوب نجس كسلاً فهو كتارك الصلاة كسلاً، وجمهور العلماء يحكمون عليه بالفسق والإثم الشديد، ولا يحكمون عليه بالكفر.

ومن الإنصاف والورع عند زين الدين ابن نُجيم رحمه الله ـ وهو من كبار علماء الحنفية في القرن العاشر ـ أنه سرد الكثير من الأقوال والأفعال التي أفتى بعض فقهاء الحنفية قبله فيها بالتكفير ثم ختم كلامه عنها بقوله: “فأكثر ألفاظ التكفير المذكورة لا يُفتى بالتكفير بها، وقد ألزمت نفسي أن لا أفتي بشيء منها”. [انظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق: 5/ 135].

ولكن من العجيب أن يحاول بعض الناس اليوم إحياء القول بالتكفير في تلك المسائل أو في كثير منها، والنتيجة هي أن يكفِّر المسلمون بعضهم بعضاً، ويستبيحَ بعضهم دماء بعض، فينتصرَ بذلك مذهب الخوارج، ويُهجَرَ مذهبُ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب t مذهبُ أهل السنة والجماعة، ويستريحَ أعداء الإسلام والمسلمين!!، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وإليه المشتكى.

 

القاعدة الأصولية في بناء الحكم على اللفظ الصريح:

قال الباحث: “اعلم أن الألفاظ قسمان: صريح ليس له إلا وجه واحد، وظاهر يحتمل معنيين أحدهما أقرب من الآخر أوهما متساويان، فمن نطق بالكفر الصريح وهو عامد أي بغير سبق اللسان وغير مكره وعالم بمعنى اللفظ فهذا يكفر اللافظ به، ولا يدخله التأويل، فلا يُنظر بعد كون اللفظ صريحاً إلى قصْد الشخص ولا إلى معرفته بحكم تلك الكلمة أنها تخرِج من الإسلام”.

أقول: كرر الباحث هذا المعنى والاستشهاد به مرات، وهو أن اللفظ الصريح ـ في غير حالات الإكراه وسبق اللسان والجهل بمعنى اللفظ ـ يُحمل على معناه، ولا يدخله التأويل، ويُعتبر اللافظ به كافراً حقيقةً وإن لم يقصد معناه الكفري، ورتـَّب عليه أحكام المرتد من حبوط ثواب الأعمال الصالحة وانفساخ عقد النكاح ووجوب القتل والتخليد في نار جهنم، أي إنه رتـَّب الأحكام على اللفظ الصريح قضاءً وديانة ولو بلا نية.

وهذه غفلة عظيمة عن فهم القاعدة الأصولية وتطبيقاتها الفقهية، فالفقيه الحنفي الأصولي ابن نجيم يقول في مبحث النية: “ولا ينافيه قولهم إن الصريح لا يحتاج إلى النية، فظهر بهذا أن الصريح لا يحتاج إليها قضاءً، ويحتاج إليها ديانةً”. [الأشباه والنظائر: ص 19].

وقال الفقيه الحنفي الأصولي ابن الهمام في مبحث الصريح: “أما قصْده مع صرفه بالنية إلى محتمِله فله ذلك ديانة”. [التحرير: 2/ 38].

وقال السيوطي في مبحث النية من كتاب الأشباه والنظائر: “وتدخل النية أيضاً في غير الكنايات في مسائل شتى كقصْد لفظ الصريح لمعناه”. [الأشباه والنظائر: ص 44]. ثم أوضح أنه يُشترط لوقوع حكم القول إذا كان اللفظ صريحا قصْدُ معنى الألفاظ ولو لم يقصد إيقاع حكمه، وأما إذا كان اللفظ من ألفاظ الكناية فيُشترط حينئذ قصد معنى الألفاظ وقصد إيقاع ذلك الحكم الذي تتضمنه اللفظ.

وتقدم قول ابن حجر الهيتمي: “إنما نحكم بالكفر باعتبار الظاهر، والقصْد وعدمه إنما ترتبط به الأحكام باعتبار الباطن لا الظاهر”.

فتبين أن القاعدة الأصولية التي ذكرها الباحث في بناء الحكم على اللفظ الصريح ولو بلا نيةٍ وقصْدٍ إنما يُحكم بها على المرء قضاءً لا ديانة، وأن اللفظ الصريح قد يدخله التأويل إذا نوى المكلف به غير المعنى الذي يُستعمل فيه عادة، فقول الباحث “ولا يدخله التأويل” مخالف لقول الأصوليين والفقهاء، وكان ينبغي إن أراد التدقيق أن يقول: “فمن نطق بالكفر باللفظ الصريح فهذا يكفر اللافظ به إذا قصد معنى اللفظ ولم يكن له فيه تأويل”.

ومن الواضح أن اللفظ قد يكون صريحا محْكما لا يحتمِل إلا وجهاً واحداً، كقول بعض الناس مثلاً “محمد e رجل عبقري جاء بأحكام وتشريعات أدت إلى رقي العالم لعدة قرون، ولكن هذا الزمن هو زمان العلم والحاسوب والشبكة العنكبوتية فلا بد من تعديل تلك الأحكام والتشريعات لاستمرار الرقي والتطور”، فهذا كفر صريح وردة سافرة لا تحتمل تأويلاً، وكذا من قال إنه لا يؤمن بنبوة الأنبياء المذكورين في القرآن الكريم، أو قال إن قصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام المذكورة في القرآن هي قصة وهمية خيالية، أو إن الجنة والنار ليس لهما حقيقة النعيم والعذاب وإنما يُراد بهما الترغيب والترهيب فقط.

* دعوى تعطيل أحكام الردة:

قال الباحث: “فمن نطق بالكفر الصريح وهو عامد فهذا يكفر اللافظ به، ولا يدخله التأويل، لأنه لو كان يدخله التأويل لتعطل تطبيق أحكام الردة وتلفظ من يشاء بما يشاء من الصريح ثم يقول كلامي له تأويل، وهذا باب من الفوضى كبير”.

وقال الباحث في معرض رده على بعض الناس: “ويجوز على قوله أن يقول الرجل أي قول من أقوال الكفر ويدافع عن نفسه بقوله أنا ما كنت منشرح البال إنما هو باللسان، فيُعفى من الاستتابة ثم ترتيب القتل عليه، فيكون ذلك هدماً لباب من أبواب الشرع وهو أحكام المرتدين”.

أقول: من نطق بكلام كفري فإنه يُؤاخذ بظاهر قوله، فيستتيبه القاضي الشرعي إذا ثبت أنه نطق بذلك، فإن تاب فبها ونعمت، وإن أبى التوبة عامله معاملة المرتد في موضوع انفساخ عقد الزواج والميراث وغير ذلك من الأحكام، وأما نيته وتأويل كلامه إن كان متأولاً فهذا بينه وبين ربه، و”إنما الأعمال بالنيات”.

وشتان بين الحكم على المرء بالكفر ظاهراً والحكم عليه به باطناً، أي قضاءً أو ديانة، ومن علمَ الفرق بينهما كَفَّ عن القول بأن اللفظ الصريح لو كان يدخله التأويل لتعطل تطبيق أحكام الردة المذكورة في باب المرتدين، أو لتلفظ من يشاء بما يشاء ثم ادعى التأويل، لأن الحكم القضائي مرتبط بالظاهر، وليس بما في قلب المرء، فذاك بينه وبين ربه.

 

* التكفير بالاعتقادات:

المجسمة:

قال الباحث: “من نسبَ إلى الله الجسمية واعتقد أنه جسم أو قال ذلك كفرَ، والجسم هو كل شيء له حجم أي طول وعرض وعمق”.

وقال الباحث في تعديد المكفرات: “وكذلك اعتقاد أن الله جسم جالس على العرش ولو قال بلا كيف”.

ونقل الباحث عن الزركشي في تشنيف المسامع عن صاحب الخصال من الحنابلة عن الإمام أحمد ابن حنبل تكفير من قال إنه تعالى جسم لا كالأجسام.

أقول: لا شك في كفر من جسَّمَ تجسيما صريحا، كالذي يقول إن الله جسم كالأجسام، أو جسم له طول وعرض وعمق، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

ولكن ما حكم من قال إن الله تعالى جسم لا كالأجسام؟.

نقل الباحث تكفيره عن الإمام أحمد نقلاً عن كتاب الخصال!. وقد أفادني أحد الإخوة جزاه الله خيرا بصورة عن صفحة من كتاب الخصال لابن البناء الحنبلي، وفيها: “قالت الأشعرية إذا قال جسم لا كالأجسام فسق، ومذهب أحمد يكفره”. ولم أجد أحدا من فقهاء الحنابلة يوافقه على هذا النقل الغريب.

ولست أدري لمَ ينقل الباحث نصا عن بعض العلماء يؤيد توجهه ويسكت عن النصوص الكثيرة التي تخالف مشربه!، بل لا يشير إليها حتى مجرد إشارة!، ويوهم القارئ أن ما ذكره هو قول العلماء كافة في المسألة!، حتى لكأنها إجماعية!. فهل هذا هو مسلك المنصفين؟! وهل هذه الطريقة هي طريقة علماء المسلمين؟!.

وإليك بعضَ تلك النصوص الكثيرة التي تخالف ذلك التوجه:

ـ قال القاضي عياض رحمه الله في كتاب الشِفا: “وأما من أضاف إلى الله تعالى ما لا يليق به ليس على طريق السب ولا الردة وقصدِ الكفر ولكن على طريق التأويل والاجتهاد والخطـأ المفضي إلى الهوى والبدعة من تشبيه أو نعت بجارحة أو نفي صفة كمال: فهذا مما اختلف السلف والخلف في تكفير قائله ومعتقِدِه، واختلف قول مالك وأصحابه في ذلك، فأكثر قول مالك وأصحابه ترك القول بتكفيرهم”. [الشفا: 2/ 272]. ثم قال عن المشبهة ونحوهم “والصواب ترك إكفارهم”. [الشفا: 2/ 294 ].

وكلام القاضي عياض رحمه الله هنا محمول على من لا يشبه الله تعالى بخلقه تشبيهاً صريحاً، كما سيتضح من النصوص التالية، أما من يشبه الله تعالى بخلقه تشبيهاً صريحاً فلا شك في كفره، وذلك كما نُسب إلى بعض الناس أنه قال وهو جالس على كرسي بأن الله جل وعلا جالس على العرش كجلوس القائل على كرسيه، وبأنه قال وقد نزل درجة من درجات المنبر بأن الله جلَّ وعلا ينزل إلى السماء الدنيا كنزوله هو، وهذا لا شك في كفر معتقِدِه، لكن إن ثبت هذا عن المنسوب إليه بالسند الصحيح، فإن لم يثبت بالسند الصحيح فلا يجوز ذكره ولا نقله، وخاصة إذا كان قد قيل في عالم من علماء المسلمين.

ـ قال الفخر الرازي: “اعلم أن المشهور عن قدماء الكرامية إطلاق لفظ الجسم على الله تعالى، إلا أنهم يقولون لا نريد به كونه تعالى مؤلفاً من الأجزاء ومركباً من الأبعاض، بل نريد به كونه تعالى غنياً عن المحل قائماً بالنفس، وعلى هذا التقدير فإنه يصير النزاع في أنه تعالى جسم أوْ لا نزاعاً لفظياً”. [أساس التقديس: ص 100].

ـ وقال الرازي: “من يثبت كونه تعالى جسما متحيزا مختصا بجهة معينة هل يُحكم بكفره أوْ لا؟ للعلماء فيه قولان: أحدهما أنه كافر، وهو الأظهر، والقول الثاني أنا لا نكفرهم”. [أساس التقديس: ص 257]. وانظر إلى إنصافه رحمه الله كيف حكى القولين وبيَّن الأظهر والأرجح منهما، وهذا فيمن أثبت الجسمية مع التحيز والاختصاص بجهة.

ـ وقال العز ابن عبد السلام: “والأصح أن معتقد الجهة لا يكفر”. [فتاوى سلطان العلماء: ص 103].

ـ وقال ابن دقيق العيد: “وقد اختلف الناس في التكفير وسببه حتى صُنف فيه مفرداً، والذي يرجع إليه النظر في هذا أن مآل المذهب هل هو مذهب أو لا؟ فمَن أكفر المبتدعة قال إن مآل المذهب مذهب، فيقول: المجسمة كفار، لأنهم عبدوا جسماً، وهو غير الله تعالى، فهم عابدون لغير الله تعالى، ومن عبد غير الله كفر”. ثم قال: “والحق أنه لا يُكفر أحد من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة عن صاحبها، فإنه حينئذ يكون مكذباً للشرع، وليس مخالفة القواطع مأخذاً للتكفير، وإنما مأخذه مخالفة القواعد السمعية القطعية طريقاً ودلالة”. إحكام الأحكام: 2/ 210].

ـ وقال النووي في شرح المهذب فيمن يكفر ببدعته: “فممن يكفر من يجسِّم تجسيماً صريحاً”. ]المجموع شرح المهذب: 4/ 253].

ـ وقال ابن حجر الهيتمي: “والمشهور من المذهب كما قاله جمع متأخرون أن المجسمة لا يُكفرون، لكن أطلق في المجموع تكفيرهم، وينبغي حمل الأول على ما إذا قالوا جسم لا كالأجسام، والثاني على ما إذا قالوا جسم كالأجسام”. [الإعلام بقواطع الإسلام: 2/ 358 المطبوع آخر الزواجر].

ـ وقال الشعراني: [قال الكمال ابن أبي شريف في حاشيته على شرح جمع الجوامع: “ومن قال منا بأن لازم المذهب مذهبٌ كفـَّر المبتدعة الذين يلزم مذهبَهم ما هو كفر، فإن المجسمة مثلاً عبدوا جسماً، وهو غير الله تعالى بيقين، ومن عبد غير الله كفر”. قال الكمال بن أبي شريف: “والصحيح أن لازم المذهب ليس بمذهب، وأنه لا كفر بمجرد اللزوم، لأن اللزوم غير الالتزام”]. [اليواقيت والجواهر: 2/ 123].

فهذه نصوص العلماء بتكفير من قال عن الله تعالى جسم كالأجسام، وأما الذي يقول جسم لا كالأجسام أو بلا كيف فلا يُكفر.

 

الخوارج:

نقل الباحث عن الإمام أبي منصور عبد القاهر البغدادي أن أهل الحق قالوا بأن القدرية والخوارج مخلدون في النار ولا يخرجون منها، ونقل عنه أن الأصحاب ـ ولعله يعني الشافعيين والأشاعرة ـ أجمعوا على تكفير الغلاة من الخوارج.

وقال الباحث: “على أن من الخوارج صنفاً هم كفار حقيقة، فأولئك لهم حكمهم الخاص”.

ثم قال: “وقولنا في الخوارج هو باستثناء بعضهم من الذين لم يُكفروا، لثبوت ما يقتضي التكفير في بعضهم، كما يؤيده قول بعض الصحابة الذين رووا أحاديث الخوارج، وقد قطع الحافظ المجتهد ابن جرير الطبري بتكفيرهم، وحُمل ذلك على اختلاف أحوال الخوارج بأن منهم من وصل إلى حد الكفر ومنهم من لم يصل”.

أقول: تعرض الباحث لذكر الخوارج، ونقل تكفيرهم عن ابن جرير الطبري، وانتهى إلى أن منهم من وصل إلى حد الكفر ومنهم من لم يصل، وكأنه يستند في ذلك إلى ما نقله أبو منصور البغدادي من اتفاق أهل الحق على تكفير الغلاة من الخوارج ولكنه لم يبين من هم الغلاة منهم؟!. ولعله يعني بهم من كفـَّروا علي بن أبي طالب t وخرجوا على إمامته وكفـَّروا جماعة من كبار الصحابة y واستحلوا دماء المسلمين وأموالهم.

وأما قوله بأن تكفير الخوارج الغلاة في خارجيتهم هو قول بعض الصحابة الذين رووا أحاديث الخوارج فقد ألقى به دون ذكْر اسم الصحابي الذي رُوي عنه ذلك، ولا تخريج الرواية، ولا دراسة سندها!.

فأما ذلك الصحابي فهو أبو أمامة الصُدَيُّ بن عجلان، وقد رُويت عنه تلك الكلمة لكن بسند ضعيف. [هذه الرواية رواها ابن ماجة في سننه 1/ 62، عن سهل بن أبي سهل عن سفيان بن عيينة عن أبي غالب عن أبي أمامة أنه قال عن الخوارج الذين جيء برؤوسهم فنصبت عند درج مسجد دمشق: شر قتلى قـُتلوا تحت أديم السماء، وخير قتيل من قتلوا، كلاب أهل النار، قد كان هؤلاء مسلمين فصاروا كفاراً. وهذه الرواية ضعيفة لها علتان: العلة الأولى: في سندها أبو غالب الراوي عن أبي أمامة، وهو وإن وثقه بعض العلماء فقد ضعَّفه ابن سعد وأبو حاتم والنسائي وقال فيه ابن حبان منكر الحديث، فمثله لا يحتج به. العلة الثانية: قوله في هذه الرواية “فصاروا كفاراً” انفرد به ـ فيما أعلم ـ سهل بن أبي سهل وهو صدوق عن سفيان بن عيينة عن أبي غالب، ورواه بضعة عشر راويا عن أبي غالب ولم يذكروا في رواياتهم هذه اللفظة].

ثم إنه لو صحت تلك الكلمة عن أبي أمامة لوجب حملها على أنه كفر دون الكفر الأكبر، لأن علياً ومن معه من الصحابة الذين قاتلوا الخوارج عاملوهم معاملة البغاة، لا معاملة المرتدين، ولأن علياً t أعرف بحال الخوارج وقد أنكر على من نسبهم إلى الكفر، واكتفى بنسبتهم إلى البغي.

ومعاملة علي والصحابة الذين معه رضي الله عنهم للخوارج معاملة البغاة لا معاملة المرتدين أمر مشهور في كتب التاريخ، ولم يقاتلهم الصحابة حتى قتلوا عبد الله بن خباب وأم ولده ورفضوا تسليم القاتلين وقالوا كلنا قتله، ولما قاتلهم الصحابة وهزموهم لم يجهزوا على جرحاهم، بل أمر علي t بمداواتهم، ولم يجعل أموالهم فيئاً، وردَّ أمتعتهم إلى أهليهم، أي إلى ورثتهم من المسلمين، ولكنه قسم السلاح وعدة الحرب من الدواب ونحوها بين المقاتلين. [انظر: تاريخ الطبري: 6/ 3363، 3383 – 3384. سنن الدارقطني: 3/ 131- 132. البداية والنهاية لابن كثير: 7/ 316].

وفي هذا دليل على أن الخوارج بغاة خارجون على الإمام العدل، لا مرتدون.

وأما ما نقله الباحث من تكفير الخوارج عن الإمام ابن جرير الطبري وغيره فهذا من التسرع، وسكوته عن مجرد الإشارة إلى الفقهاء المقتدين بعلي t في عدم تكفيرهم أمر غريب، وهذه بعض أقوال العلماء الذين نصوا على غير مُدَّعاه:

نقل الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الإمام الخطابي وهو أحد كبار العلماء الشافعيين المتوفى سنة 385 أنه قال: أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالتهم فرقة من فرق المسلمين. ونقل عن ابن بطال الفقيه المالكي من شراح صحيح البخاري أنه قال: ذهب جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين عن جملة المسلمين. ثم قال ابن حجر: وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فساق وأن حكم الإسلام يجري عليهم، لتلفظهم بالشهادتين ومواظبتهم على أركان الإسلام، وإنما فسقوا بتكفيرهم المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد، وجرَّهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم والشهادة عليهم بالكفر والشرك. [فتح الباري: 12/ 300 – 301]. [فتح الباري: 12/ 300 – 301].

وقال القاضي عياض في كتاب الشفا: فقد كان نشأ على زمن الصحابة وبعدهم في التابعين من قال بهذه الأقوال من القدر ورأي الخوارج والاعتزال، فما أزاحوا لهم قبراً، ولا قطعوا لأحد منهم ميراثاً. ثم قال عن أهل البدع: فأكثرُ قولِ مالك وأصحابه تركُ القول بتكفيرهم، وأكثر أقوال السلف تكفيرهم، وممن رُوي عنه معنى القول الآخر بترك تكفيرهم علي بن أبي طالب وابن عمر والحسن البصري، وهو رأي جماعة من الفقهاء النظار والمتكلمين، واحتجوا بتوريثِ الصحابة والتابعين ورثةَ أهل حروراء ومن عُرف بالقدر ممن مات منهم، ودفْنِهم في مقابر المسلمين، وجرْي أحكام الإسلام عليهم. [الشفا: 2/ 294، 275].

وقال ابن رشد الجد: “وأما الأهواء المضلة كالخوارج والقدرية وشبههم فمن كفـَّرهم بمآل قولهم لم يجِز أن يُعطـَوا من الزكاة، ومن لم يكفرهم بمآل قولهم أجاز أن يُعطـَوا منها إذا نزلت بهم حاجة، وهو الأظهر”. [البيان والتحصيل: 2/ 392. وانظر: 16/ 362 – 365].

وقال ابن قدامة المقدسي: “الخوارج الذين يكفـِّرون بالذنب ويكفرون عثمان وعلياً وطلحة والزبير وكثيراً من الصحابة ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم: فظاهر قول الفقهاء من أصحابنا المتأخرين أنهم بغاة، حكمهم حكمهم، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء وكثير من أهل الحديث، ومالك يرى استتابتهم، فإن تابوا وإلا قـُتلوا على إفسادهم، لا على كفرهم، وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنهم كفار مرتدون”. ثم نقل عن ابن عبد البر أنه قال “لا أعلم أحداً وافق أهلَ الحديث على تكفيرهم وجعْلهم كالمرتدين”. ثم قال: “وكذلك لم يُحكم بكفر ابن ملجم مع قتله أفضلَ الخلق في زمنه متقرباً بذلك”. [المغني: 12/ 239، 241، 276].

وقال ابن عابدين: “ذكر في فتح القدير أن الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم ويكفرون الصحابة حكمُهم عند جمهور الفقهاء وأهل الحديث حكم البغاة، وذهب بعض أهل الحديث إلى أنهم مرتدون، قال ابن المنذر: ولا أعلم أحداً وافق أهل الحديث على تكفيرهم”. [رد المحتار: 3/ 293].

وقال ابن حجر الهيتمي: “المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون أن الخوارج لا يكفرون، كسائر أهل البدع”. ثم قال: “الخوارج لم يكفروا غيرهم إلا بتأويل، ولم يسمُّوا الإسلام كفراً، وحينئذ فالمعتمد ما في شرح مسلم وغيره من عدم تكفيرهم”. [الإعلام بقواطع الإسلام: 2/ 341، 342].

 

القدرية والمعتزلة:

نقل الباحث عن الإمام أبي منصور البغدادي أنه قال: “إن أكثر المعتزلة قالوا: إن الله غير قادر على مقدور غيره وإن كان هو الذي أقدر القادرين على مقدوراتهم”.

ونقل عن الإمام أبي منصور الماتريدي أن القدرية قالوا: “يقـْدر الله جل ثناؤه على حركات العباد وسكونهم، فلما أقدرهم على تلك الحركات والسكون زالت عنه القدرة عليها”.

ثم قال الباحث: “قال المعتزلة: المعاصي ليست واقعة بمشيئة الله وتقديره وخلقه، بل بمشيئة العبد وخلقه”. وأضاف: “فالمعتزلي يقول: ما شئتُ كان، وما شاء الله لم يكن”.

وقال: “لم يطـَّلع الشافعي على ما يقضي بكفر المعتزلة من أقوالهم، كقولهم بأن العبد يخلق أفعال نفسه بقدرة أعطاه الله إياها، وأن الله كان قادرا على خلق مقدور العبد قبل أن يعطيه القدرة عليه فصار بعد أن أعطاه القدرة عاجزا عن مقدور العبد ونحو ذلك مما هو صريح في نسبة النقص إلى الله تعالى”.

ثم نقل عن الشيخ مرتضى الزبيدي أنه قال: “ولذلك لم يتوقف علماء ما وراء النهر في تكفير المعتزلة”.

ونقل عن أبي منصور البغدادي أنه قال: “اعلمْ أن أصحابنا وإن أجمعوا على تكفير المعتزلة والغلاة من الخوارج فقد أجازوا لعامة المسلمين معاملتهم في عقود البِيَاعَات، دون الأنكحة ومواريثهم والصلاة خلفهم وأكل ذبائحهم”. [والبِياعات هي السِلَع].

أقول: لقد أكثر الباحث من الكلام عن القدرية والمعتزلة، ونقل مذهبهم في مسألة خلق أفعال المكلفين مما فهمه عنهم القائلون بتكفيرهم، ونسب الشافعيَّ رحمه الله إلى قلة الاطلاع على أقوالهم، وسكت عن أقوال الفقهاء الذين اطـَّلعوا على بدعة القائلين بخلق الأفعال ـ لا بالمعنى الذي ذكره الباحث ـ ولم يكفروهم، حتى لَيُخيَّل إلى القارئ أن كل العلماء الذين عرفوا مذهبهم قد أجمعوا على تكفيرهم، وهذا خلاف الواقع، واليك البيان:

لا شك في كفر القائلين بأن الله تعالى غير قادر على مقدور غيره وإن كان هو الذي أقدر القادرين على مقدوراتهم، ولا شك في كفر القائلين بأن الله تعالى كان قادرا على خلق مقدورات العباد وحركاتهم وسكناتهم قبل أن يعطيهم القدرة عليها فلما أعطاهم القدرة عليها صار هو سبحانه عاجزا عنها، ولا شك في كفر القائل ما شئتُ كان وما شاء الله لم يكن، كما لا شك في كفر من ينفي علم الله تعالى بالأشياء قبل وقوعها، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، بل ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وهو العلي القدير.

هذا اعتقاد المسلمين كافة، يؤمنون برب العالمين، وبقدرته المطلقة على كل الممكنات، والآيات القرآنية الكريمة كثيرة في هذا المعنى، وليس بعد بيان الله تعالى بيان.

ولكن هل المعنى الذي ذكره الباحث هو حقيقة مذهب القدرية والمعتزلة؟! أو هو ما فهمه عنهم الذين ألزموهم بلازم قولهم على سبيل الرد عليهم والتشنيع على بدعتهم؟!، وإذا كان ذلك كذلك فما حقيقة مذهبهم؟.

يجيبنا على هذا السؤال الإمام أبو الحسن الأشعري الذي كان منهم ثم انتقل عنهم إلى مذهب أهل السنة حتى صار من كبار أئمة أهل السنة، إذ يقول: “واختلفت المعتزلة هل يُوصف الله بالقدرة على جنس ما أقدر عليه عباده أم لا؟ وهم فرقتان: فزعمت فرقة منهم أنه إذا أقدر عباده على حركة أو سكون أو فعل من الأفعال لم يُوصف بالقدرة على ذلك ولا على ما كان من جنس ذلك، وأن الحركات التي يقدر البارئ عليها ليست من جنس الحركات التي أقدر عليها غيره من العباد، وزعمت فرقة أخرى منهم أن الله إذا أقدر عباده على حركة أو سكون أو فعل من الأفعال فهو قادر على ما هو من جنس ما أقدر عليه عباده، وهذا قول الجبائي وطوائف من المعتزلة”. [مقالات الإسلاميين: 1/ 274].

فكلام المعتزلة كلام فلسفي دقيق، لسنا بحاجة إليه، ويكفينا في صفات ربنا تبارك وتعالى ما أنزله إلينا من البينات والهدى، ولكنهم أقحموا أنفسهم في لجج بحر الفلسفة، فوقعوا في مثل هذا الهذيان، وخلاصة مقالتهم هي: هل يُوصف الله تبارك وتعالى بالقدرة على جنس الأفعال التي منح عباده القدرة عليها؟ أو إن قدرته العلية المطلقة هي فوق ذلك؟ بمعنى أنه سبحانه منح بقدرته عبادَه المكلفين قدرة على أفعالهم الاختيارية فعلا أو تركا حسب مشيئتهم التي منحها هو لهم كذلك، فالإنسان ـ عندهم ـ يخلق أفعاله الاختيارية بالمشيئة والقدرة التي أودعهما الله فيه، والله سبحانه وتعالى قادر على أن يُقـْدِره على ذلك، وقادر على أن ينزع منه هذه القدرة، لا بمعنى أنه أقـْدره على ذلك ثم زالت عنه القدرة فأصبح عاجزاً عما أقدر عليه العباد!!، فهذا إن قاله أحد منهم كفـَّرناه به، ولكنا لا نعلم أن واحدا من القدرية والمعتزلة قد قاله، ولا نعلم أن المعتزلي يقول ما شئتُ كان وما شاء الله لم يكن، ولو كان ذلك كذلك لما اختلف العلماء في تكفيرهم، بل لحكموا على من لم يكفرهم بالكفر.

كان أول من قال بالقدر في البصرة معبد الجهني، فانطلق يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، لسؤال بعض أصحاب رسول الله e عما يقول هؤلاء في القدر، فوافقا عبدَ الله بنَ عمر رضي الله عنهما داخلا المسجد، فسأله يحيى بن يعمر: يا أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قِبَلَنا ناس يقرؤون القرآن، ويتقـَفـَّرون العلم، وإنهم يزعمون أنْ لا قدرَ وأنَّ الأمر أُنُفٌ؟!. أي مستأنَف. فقال ابن عمر: “فإذا لقِيتَ أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثلَ أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر”. ثم حدَّث عن أبيه عن رسول الله e بحديث جبريل في السؤال عن الإسلام والإيمان والإحسان. [صحيح مسلم: 1/150 – 157. شرح السنة للبغوي: 1/ 7 – 9]. ونقل النووي في شرحه لصحيح مسلم اختلافَ العلماء في فهم كلام ابن عمر هذا هل المراد به تكفيرهم أو لا؟. [شرح صحيح مسلم: 1/ 156].

بدأت مقالات القدرية إذن بالظهور قرابة سنة سبعين للهجرة، وفي حياة الإمام الشافعي كانت بدع المعتزلة في غاية الظهور، ولم يكن أهل البدع والأهواء مستخفين بها، فهل يُتوقع أن الإمام الشافعي رحمه الله لم يبلغه من مذاهب المعتزلة ما يكفرهم به لو كان مثلُ ذلك عندهم؟!، هذا في غاية البعد، وإذا كان هو غيرَ مطلع على مذاهبهم فكيف غفـَل أئمة المذهب من بعده عن ذلك حتى أجازوا الصلاة خلف المعتزلة وقبلوا شهادتهم إذا كانوا عدولا؟!، هذا أبعد من البعيد.

ومن الغريب أن ينقلَ الشافعية عن الإمام الشافعي أنه نص في كتاب الأم والمختصر على قبول شهادة أهل البدع والأهواء إلا الخطابية وينفردَ أبو منصور البغدادي في كتابه أصول الدين [ص 308] بأن الشافعي أشار في كتاب القياس إلى رجوعه عن قبول شهادة المعتزلة وأهل الأهواء!، لذا فإن من جاء بعده كالرافعي والنووي وغيرهما لم يلتفتوا إلى ما حكاه وانفرد به من مسألة الرجوع عن قَبول شهادتهم. [وانظر: المجموع للنووي: 4/ 254. كفاية الأخيار للحصني: 2/ 170-171].

الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله من أعرف الناس بمذاهب القدرية والمعتزلة وأكثرهم اطلاعاً عليها، ومع ذلك لم يكفرهم، فقد صح عنه أنه سئل عن الرجل يكون له قرابة قدري؟ فقال: “القدر لا يخرجه من الإسلام”. [السنة للخلال: ص 531]. وروي عنه من طريقين أنه سئل عن عيادة القدري فقال: “إذا كان داعية فلا”. [السنة للخلال: ص 561]. وسئل عن الصلاة خلف القدري فقال: إن كان يخاصم فيه ويدعو إليه فلا يصلى خلفه. [السنة لعبد الله بن أحمد: ص 106]. وصح عنه أنه سئل عمن قال بالقدر: يكون كافراً؟. فقال: [إذا جحد العلم، إذا قال “إن الله لم يكن عالماً حتى خلق علماً فعلم” فجحد علم الله فهو كافر]. [السنة لعبد الله بن أحمد: ص 106. السنة للخلال: ص 529].

فهل الإمام أحمد لا يعرف مذاهب القدرية والمعتزلة؟!، هذا شبيه بالمحال، ومع ذلك فقد كان هو والعلماء الذين في عصره يصلون الجُمَع والأعياد خلف المعتزلة. [انظر: المغني لابن قدامة: 3/ 22]. وهذا يعني أنهم ما كانوا يعتقدونهم كفارا، فإذا نُقل عن الإمام أحمد أنه كفر القائلين بخلق الأفعال فهذا من باب كفر دون كفر.

ونهْيه عن الصلاة خلف القدري إن كان يخاصم فيه ويدعو إليه دليل على أنه يرى صحة الاقتداء به إذا لم يكن مخاصما فيه وداعيا إليه، وهذا يعني أنه ـ عنده ـ ليس بكافرٍ الكفرَ المخرجَ من الملة وإن كان مبتدعا.

ومن العلماء الذين أطلقوا القولَ بعدم تكفير المعتزلة أو رجحوه: القاضي عياض وابن رشد الجد والإمامُ المجتهد ابن دقيق العيد، وابن أبي شريف، وأقره عليه الشعراني، والإمام أبو القاسم الأنصاري تلميذ إمام الحرمين، وأقره عليه الدواني، وابن حجر الهيتمي والأشخر. [انظر: إحكام الأحكام لابن دقيق العيد: 2/ 210. اليواقيت والجواهر للشعراني: 2/ 123. شرح الداوني للعقائد العضدية: 2/ 292. الإعلام بقواطع الإسلام للهيتمي: 2/ 350، 374. بغية المسترشدين للشيخ عبد الرحمن المشهور: ص 248].

ـ قال الإمام النووي في المجموع: “فلو كان بجواره مسجد قليل الجمع وبالبعد منه مسجد أكثر جمعاً فالمسجد البعيد أولى إلا في حالين: أحدهما أن تتعطل جماعة القريب لعدوله عنه، الثاني أن يكون إمام البعيد مبتدعا كالمعتزلي وغيره”. وقال: “لم يزل السلف والخلف يرون الصلاة وراء المعتزلة ونحوِهم ومناكحتـَهم وموارثتـَهم وإجراء سائر الأحكام عليهم”. [المجموع: 4/ 198، 254].

ـ وقال النووي في المنهاج: “وما كثر جمعه أفضل إلا لبدعة إمامه”. قال الخطيب الشربيني في شرحه: “كمعتزلي وقدري ورافضي”. [مغني المحتاج: 1/ 231].

فلو كان الشافعية مجمعين على كفر المعتزلة والقدرية فهل يطلق الفقهاء الشافعيون القول بصحة الصلاة خلفهم؟! ودون أدنى إشارة إلى وقوع أي اختلاف في المسألة؟!.

ـ قال الإمام القرافي المالكي: “مع أن الصحيح عدم تكفيرهم بخلق الأفعال”. [الذخيرة: 12/ 36].

ـ ورجَّح جلال الدين المحلي الفقيه الأصولي الشافعي أن منكري خلق الله تعالى لأفعال العباد لا يكفرون، وأشار إلى أن بعض العلماء كفروهم، قال: “ولا نكفر أحداً من أهل القبلة ببدعته، كمنكري صفاتِ الله وخَلـْقـَه أفعالَ عباده وجوازَ رؤيته يوم القيامة، ومنا من كفرهم”. [شرح المحلي على جمع الجوامع: 2/ 420].

ـ قال الخطيب الشربيني في شرح المنهاج: “ولم يبين المصنف من لم يُكفـَّر ببدعته ومن يُكفـَّر بها، ومن القسم الأول منكر صفاتِ الله تعالى وخلـْقـَه أفعالَ عباده”. [مغني المحتاج شرح المنهاج: 4/ 435 – 436].

ـ وذكر ابن حجر الهيتمي أن من قال إنه يخلق أفعاله فهو كافر، واستثنى من ذلك من يقول هذا بالمعنى الذي تقوله المعتزلة، أي فلا يكفر، قال رحمه الله في سرده للمكفرات: “أو قال إنه يخلق فعل نفسه، لا بالمعنى الذي تقوله المعتزلة”. [الزواجر عن اقتراف الكبائر: 1/ 30].

ـ فكيف يصح بعد هذا إطلاقُ القول بتكفير المعتزلة القدرية؟! بل ودعوى إجماع الشافعية والأشاعرة على تكفيرهم ومعاملتهم معاملة المرتدين في النكاح والصلاة والذبائح؟!.

ـ فإن قلتَ: كيف لم يكفر جمهور العلماء المبتدع الذي يقول إنه يخلق أفعال نفسه بمشيئته؟!.

فالجواب هو أنه يقول إنه يخلق أفعال نفسه الاختيارية بقدرة أودعها الله فيه، هذا ما سمعته مرات من أستاذي ووالدي الشيخ أحمد بن الشيخ محمد سعيد الإدلبي رحمهما الله تعالى رحمة واسعة وأسكنهما فسيح جناته، وفيه إشارة إلى أنه لو كان يعتقد أنه يفعل ذلك بقدرته هو من تلقاء ذاته لكفر قطعًا، ولكنه إذ يعتقد أنه يفعل ذلك بقدرة أودعها الله فيه وبمشيئة أقدره الله عليها والله تعالى هو المعطي بقدرته وإرادته وحكمته: فبذلك ينجو من الكفر، مع ما ينضاف إلى ذلك من الشبهة التي تمسك بها في قوله تعالى {إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا}. [الآية 17 من سورة العنكبوت].

ولكن لو عرف هذا المبتدع قدر نفسه فكبح جماح غرورها لقال: إن العبد له الكسب، كما قال تعالى {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}، والله تبارك وتعالى هو الخالق، كما قال جل شأنه {ألا له الخلق والأمر}. وليس في إسناد الخلق للعباد في الآية الكريمة {وتخلقون إفكاً} دليل على جواز أن ينسُبوه لأنفسهم، فالله تبارك وتعالى له ذلك، كما أن له أن يقسم بمخلوقاته وليس لهم أن يقسموا بها.

ـ فإن قلتَ: وكيف لم يكفر جمهور العلماء المبتدعَ الذي ينكر صفات الله تعالى الثابتة بالقرآن الكريم من العلم والقدرة والكلام ونحوها؟!.

فالجواب ما ذكره ابن حجر الهيتمي بقوله: “فإن قلت: المعتزلة تنكر الصفات السبعة أو الثمانية ولم يكفروهم؟!. قلت: هم لا ينكرون أصلها، وإنما ينكرون زيادتها على الذات، حذرا من تعدد القدماء، فيقولون إنه تعالى عالم بذاته قادر بذاته وهكذا”. [الإعلام بقواطع الإسلام: 2/ 350].

وإن تعجب فاعجب لقول الباحث “ومن الكفر قولُ المعتزلة الله قادر بذاته لا بقدرة، عالم بذاته لا بعلم، لأنه يلزم منه نفي كونه قادراً”.

أقول: بل لا يلزم من قولهم هذا نفيُ كونه قادراً عالماً، ولذلك لم يكفرهم العلماء بهذا.

 

الورع في باب التكفير:

قال الباحث: “وما أشاعه بعض الناس عن مالك وعن أبي حنيفة من أنه إذا كان في المسألة تسعة وتسعون وجهاً بالتكفير ووجه واحد بترك التكفير فينبغي للمفتي ترك التكفير: ليس له مستند، والمذكور في بعض كتب الحنفية أن ذلك في اختلاف الروايات أي عن الإمام أو عن صاحبيه”.

أقول:

ـ أما عند الحنفية فقد نقل ابن نجيم عن الفتاوى الصغرى: “الكفر شيء عظيم، فلا أجعل المؤمن كافرا متى وجدت رواية أنه لا يكفر”. كما نقل رحمه الله عن الخلاصة وغيرها: “إذا كان في المسألة وجوه توجب التكفير ووجه واحد يمنع التكفير فعلى المفتي أن يميل إلى الوجه الذي يمنع التكفير، تحسينا للظن بالمسلم”. ثم قال ابن نجيم: “والذي تحرر: أنه لا يُفتى بتكفير مسلم أمكنَ حملُ كلامه على مَحْمِل حسن أو كان في كفره اختلاف ولو رواية ضعيفة”. وبنحوه يقول التمرتاشي والحصكفي وابن عابدين وشيخي زاده.

ونقل ابن عابدين في التعليق على عدم تكفير المسلم ولو لرواية ضعيفة عن خير الدين الرملي أنه قال: “ولو كانت الرواية لغير أهل مذهبنا، ويدل على ذلك اشتراط كون ما يوجب الكفر مجمعاً عليه”. وأقره.

[البحر الرائق: 5/ 134 – 135. الدر المختار مع حاشيته رد المحتار: 3/ 298. رد المحتار: 3/ 293. مجمع الأنهر: 1/ 696].

ـ وأما المالكية فقد نقل القاضي عياض عن جماعة من المحققين أنهم قالوا: الذي يجب: الاحترازُ من التكفير في أهل التأويل، فإن استباحة دماء المصلين الموحدين خطر، والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم واحد. [الشفا: 2/ 277]. وقال الشيخ محمد عليش: “كيف وقد قالوا إن كان للتكفير تسعة وتسعون وجهاً ولعدمه وجه واحد فإنه يُقدم ولا يُفتى بالكفر”. [فتح العلي المالك: 2/ 358].

ـ وأما الشافعية فقد نقل الشعراني عن الإمام تقي الدين السبكي رحمه الله أنه قال: “اعلم يا أخي ـ وفقني الله وإياك ـ أن الإقدام على تكفير المؤمنين عسر جداً، وكل من في قلبه إيمان يستعظم القول بتكفير أهل الأهواء والبدع مع قولهم لا إله إلا الله محمد رسول الله، والخطأ في قتل مسلم أرجح في الإثم من ترك قتل ألف كافر”. [اليواقيت والجواهر: 2/ 125]. وبنحوه قال الإمام الغزالي رحمه الله. [انظر: الاقتصاد في الاعتقاد: ص 157].

ـ هذه بعض أقوال أهل الورع من الفقهاء، لا يكفرون قائلاً بمقالته إلا إذا كانت تناقض أصلاً من أصول الإيمان مناقضة بيِّنة، ومستندهم في عدم التسرع في التكفير قول النبي e “لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك”. [صحيح البخاري: 10/ 464].

 

ضابط المكفرات:

قال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام: “والحق أنه لا يُكفر أحد من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة عن صاحبها، فإنه حينئذ يكون مكذباً للشرع، وليس مخالفةُ القواطع مأخذا للتكفير، وإنما مأخذه مخالفة القواعد السمعية القطعية طريقاً ودلالة”. [إحكام الأحكام: 2/ 210].

وقال عضد الدين الإيجي عبد الرحمن بن أحمد المتوفى سنة  756 في العقائد العضدية: “ولا يُكفر أحد من أهل القبلة إلا بما فيه نفيُ الصانع القادر المختار العليم، أو بما فيه شرك، أو إنكارُ النبوة، أو إنكار ما عُلم مجيء محمد e به ضرورة، أو إنكار أمر مجمع عليه قطعا، أو استحلالُ المحرمات، وأما غير ذلك فالقائل به مبتدع وليس بكافر”. [العقائد العضدية: 2/ 291 – 293 المطبوع مع شرح الدواني وحاشية الكلنبوي وغيره].

وقال النسفي: “الاستهزاء بالشريعة كفر”. وقال التفتازاني في شرحه: “وكذا لو أطلق كلمة الكفر استخفافا لا اعتقادا”. [العقائد النسفية وشرحها: 1/ 204، 205. وفي الطبعة العثمانية: ص 190 – 191]. أي إن من قال قولا يتضمن الاستهزاء والاستخفاف فهو كافر، ولا شك في هذا إذا كان القائل يعني ما يقول.

هذه بعض كلمات العلماء في التكفير، وغيرها كثير، وكلها ترجع إلى ما يناقض “شهادة أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمدا رسول الله” مناقضة بينة، فمن أنكر أحد هذين الأصلين أو أتى بما يناقض واحدا منهما عامدا متعمدا فقد كفر. والإيمان بهذين الأصلين يستلزم الإيمان بالقرآن الكريم، وهو الوحي الذي نزله الله تبارك وتعالى على نبيه محمد e، وفي القرآن أصول العقائد السمعية، فمن بلغه القرآن وأنكر بعض ما فيه من المعاني التي تدل عليها آياته دلالة قطعية ولا شبهة له فقد كفر.

 

لا عبرة بكل خلاف:

لقد أحسن الباحث إذ قال في بعض المواضع من بحوثه: “ثم من المعلوم عند الفقهاء أنه لا عبرة بكل خلاف إلا خلافا له حظ من النظر”.

أقول: هذا صحيح، وهو يقتضي عدم التمسك بالأقوال الواهية لمجرد أنها قول فلان أو فلان، فلا بد من الرجوع إلى كتاب الله تعالى وسنة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، والاحتكامِ إليهما، والرضا بهما، والتسليمِ لهما. قال الله عز وجل: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}.

 

إشكال وجواب:

قد يقول قائل: لقد قال الله تعالى {إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان}، فلم يستثن من النطق بكلمة الكفر سوى المكرَه، وقال تعالى {ولئن سألتهم ليقولـُنَّ إنما كنا نخوض ونلعب، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟! لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}، فحكم عليهم بالكفر رغم أنهم قد قالوا كلاما على وجه اللعب لا عن اعتقاد أو شك، أفليس في هذا دليلٌ على أن القول الكفري مكفر بذاته وإن لم يكن معه اعتقاد الكفر؟!.

فالجواب أن الاستثناء في قوله {إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان} هو إشارة إلى ما وقع من عمار بن ياسر رضي الله عنهما من النطق بكلمة الكفر في حالة الإكراه، وليس المراد الحصرَ، بدليل ما ورد في السنة النبوية الشريفة من عدم التكفير في غير حالة الإكراه:

ومن ذلك حالة سبق اللسان، وهو ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “للهُ أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح”.

ومن ذلك أن يقول المسلم قولا أو يفعل فعلا من المكفرات وهو لا يقصد المعنى الكفري، فقد روى الشيخان عن علي رضي الله عنه أنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبيرَ والمقدادَ فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها، فانطلقنا تعادى بنا خيلنا، حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا لها أخرجي الكتاب، قالت ما معي كتاب، فقلنا لتخرجِنَّ الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجتْه من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب ما هذا؟!. قال: يا رسول الله لا تعجَلْ علي، إني كنت امرأ ملصقا في قريش، وكان مَن معك من المهاجرين مَن لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صَدَقـَكم. فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: إنه قد شهد بدرا، وما يدريك؟ لعل الله اطلع على من شهد بدرا فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.

قوله “إني كنت امرأ ملصقا في قريش” أي كنت حليفا لهم ولم أكن من أنفسهم. وتأمل قوله “ولا رضا بالكفر بعد الإسلام”.

وأما مسألة الذي قال كلاما كفريا على وجه اللعب والاستهزاء لا عن اعتقادٍ أو شكٍّ فإن هذا القائل قد كفر، لأنه قال كلاما كفريا على وجه الاستهزاء، وصدور مثل هذا عنه دليل على استخفافه بدينه، والاستخفاف بالدين كفر.

وههنا مسألة مهمة لا بد من التنبيه عليها، وهي أن الإيمان بالله تعالى ليس مجرد معرفة نظرية بأن الله تعالى هو الرب الخالق العليم السميع البصير فحسب، ولو كانت المعرفة المجردة إيماناً لكان إبليس مؤمناً ولكان كثير من اللادينيين مؤمنين!، وهيهات، ولكن الإيمان هو المعرفة مع الإذعان القلبي لله رب العالمين، ومن أذعن واستسلم لله تعالى بقلبه فلا بد أن يكون معظماً لله، والذي ليس في قلبه تعظيم لله تعالى وملائكته وكتبه ورسله فليس بمؤمن، والاستهزاء بما يجب تعظيمه من أركان الإيمان مناقض للإيمان، فمن ينطقُ بكلمة أو يأتي بفعل مع الاستهزاء بما يجب تعظيمه من أركان الإيمان فليس بمؤمن وهو كافر ظاهراً وباطناً.

 

خاتمة البحث:

ـ يجب الحذر الشديد من التسرع في تكفير المسلمين، لأن من كفـَّر مسلما فقد باء بهذه الكلمة أحدهما، إن كان المقول له كافرا فقد لاقت محلها، وإلا رجعت على القائل إذا لم يكن القائل متأولاً.

أي إذا قال مسلم عن رجلٍ آخرَ مسلمٍ إنه كافر: فإن كان الرجل الآخر كافرا حقيقة فقد لاقت الكلمة محلها وبرئ القائل، وإن كان الرجل الآخر ليس بكافر في الحقيقة فقد صار القائل كافرا، لأنه سمى الإسلام كفرا، إلا إذا كان قائل كلمة التكفير قد قالها اجتهادا له فيه شبهة وأخطأ في اجتهاده، فإنه لا يكفر بذلك، وهذا كما كفـَّر الخوارج سيدنا عليا رضي الله عنه بالاجتهاد الخطأ، فإنه لم يكفرهم بذلك، حيث إنهم كانوا متأولين.

ولكن لا بد من الحذر الشديد، فإنه إذا لم يكن كفرا فهو كبيرة من الكبائر.

ـ من قال قولا أو فعل فعلا يدل على كفر القائل أو الفاعل فإنه يُحكم عليه بالكفر، فيُستتاب، فإن تاب فبها ونعمت، وإلا فإنه يُعامل معاملة المرتد، وهذا في الحكم قضاءً، وهذا ميدان عمل القاضي.

ـ أما فيما بين المكلف وبين الله تعالى فإنه إن قصد بذلك القولِ أو الفعلِ المعنى الكفريَّ الذي يدل عليه فقد كفر وخرج من دين الإسلام وإن لم يقصد به الخروجَ من الإسلام، إذ لا يُشترط لخروجِ المرء من الإسلام أن يقصد الخروجَ منه، بل المُشترَط هو أن يقصد المعنى الكفريَّ، فإذا لم يقصد المعنى الكفري فجمهور العلماء لا يرون تكفيره، فإنما الأعمال بالنيات، وهذا في الحكم ديانة، وهذا ميدان عمل المفتي.

ـ جمهور العلماء حكموا على المجسمة الذين لم يجسموا تجسيما صريحا وعلى الخوارج والمعتزلة بالبدعة، لا بالكفر.

ـ هذا وأرجو من كل أخ ناصح أن يخصني بصالح الدعاء وأن لا يبخل علي بملحوظاته.

وهذا آخر ما تم تحريره من مختصر “تكفير من لا يستحق التكفير”، بيد كاتبه الفقير إلى الله تعالى: صلاح الدين بن أحمد بن محمد سعيد الإدلبي، في 24/ 5/ 1436، الموافق 15/ 3/ 2015، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

 

المحتوى

المقدمة:

موضوع البحث:

نقط الاتفاق مع الباحث المتسرع في التكفير:

نقط الاختلاف مع الباحث:

الكفر القولي والكفر العملي:

المؤاخذة الأولى على ما في كلام الباحث من استدلاله بالحديث الذي رواه الترمذي بلفظ “إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها في النار سبعين خريفاً”

المؤاخذة الثانية على ما في كلامه من الاستدلال بالرواية المرجوحة على أن الرجل قد يتكلم بكلمة لا يرى بها بأساً فيكـْفرُ ويهوي بسببها إلى نهاية قعر جهنم

المؤاخذة الثالثة على ما في كلامه من دعوى اتفاق العلماء وإجماعهم على أن الأقوال الكفرية تخرج قائلَها من الإسلام من دون أن يقترن بها اعتقاد

نصوص جماعة من كبار فقهاء المالكية والحنفية والشافعية على أن الأقوال والأفعال الكفرية تخرج قائلَها وفاعلها من الإسلام إذا اقترن بها اعتقاد كفري

المؤاخذة الرابعة على ما في كلامه من غفلة عن إيماءات الكتاب العزيز ودلائل السنة النبوية

بيان أن من قال قولاً كفرياً أو عمل عملاً كفرياً قاصداً معناه الكفري فهو كافر لا شك في كفره حتى وإن لم يقصد بقوله أو عمله الخروجَ من الإسلام

الحالات المستثناة من الكفر اللفظي

استدلال الباحث بكلام الإمام تاج الدين السبكي بما لا دليل له فيه

تحميل كلام الإمام فخر الدين الرازي ما لا يحتمِل

الألفاظ المكفرة عند فقهاء الحنفية

القاعدة الأصولية في بناء الحكم على اللفظ الصريح

دعوى تعطيل أحكام الردة

الإيمان بالله تعالى ليس مجرد معرفة نظرية، ولو كانت المعرفة المجردة إيماناً لكان إبليس مؤمناً

التكفير بالاعتقادات:

المجسمة:

الخوارج:

القدرية والمعتزلة:

الورع في باب التكفير:

ضابط المكفرات:

لا عبرة بكل خلاف:

إشكال وجواب:

خاتمة البحث:

مختصر الكتاب منشور في
دار الحديث الكتانيةتكفير من لا يستحق التكفير غلاف المختصر

dar.alkatani@gmail.com

http://www.kittaniyya.com/

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *