رتبة الاجتهاد ورتبة التقليد

رتبة الاجتهاد ورتبة التقليد

وأثر معرفة ذلك في حواراتنا الدينية

 

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا}.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين، وعلى آله وأصحابه وإخوانه أجمعين.

وبعد، فهذه أبحاث تتعلق بمقام رتبة الاجتهاد ورتبة التقليد في العلم الشرعي ورتبة ما بينهما، يتضح منها أثر معرفة ذلك في حواراتنا الدينية، وآثرت فيها أن أجعلها تنطق هي بما قاله الأئمة العلماء بما غاب عن أذهان كثير من طلاب العلم في هذا الموضوع، بحيث إني لا أعلق عليها إلا القليل.

* ـ هذا البحث يستنهض همم من بلغوا رتبة الاجتهاد كي يدخلوا الميدان ويرتفعوا عما قنِع به الأقران، وآمُل أن يجد عندهم آذانا صاغية وعقولا واعية.

لكن المشكلة الكبرى هي في أناس أخذوا بطرف يسير من فنون العلم، ثم دعاهم الغرور وحب التصدر والظهور إلى الاجتهاد وهم لا يحسنون منه إلا القليل، وبعضهم لا يحسنون منه قليلا ولا كثيرا.

 

تعريف الاجتهاد والتقليد:

لم أجد فيما ذكره عدد من علماء أصول الفقه تعريفا واضحا لهاتين الكلمتين، إذ كانوا يجْهدون أنفسهم في التعريفات بشدة الاختصار، بحيث أصبحت التعاريف في كثير من الأحيان هي أقرب إلى الرمز والتعقيد منها إلى التعريف والإيضاح، وهذا شأن كثير منها في كتب الراث، ولذا فأنا أذكر هنا تعريفا أراه يعرّف بهاتين الكلمتين بصورة واضحة، فأقول:

الاجتهاد هو بذْل الفقيه الذي بلغ رتبة عالية في جمع الأدلة الشرعية وأدوات فهمها والاستنباطِ منها جهدَه لا ستنباط الأحكام الشرعية لأعمال المكلفين العملية من الأدلة الشرعية، التي هي الكتاب والسنة وما تفرع عن هذين الأصلين.

التقليد هو أخْذ من لم يبلغ رتبة الاجتهاد بأقوال مجتهد من المجتهدين في الأحكام الشرعية العملية ومتابعته فيها بغض النظر عن معرفة الدليل.

 

تمهيد

كنت أود أن أكتب أشياء فيما يتعلق بهذا الموضوع منذ زمن بعيد، ولكن حالت بيني وبينه مشاغل، وما لا يُدرك كله لا يُترك جُله.

ما دعاني للكتابة فيه الآن هو ما أراه من انعدام الرؤية عند عامة المسلمين في تجلية هذه المراتب، وخاصة في مدى إمكانية الاجتهاد اليوم، وفي مدى حدود ما يجوز للمقلد الخوضُ فيه من مسائل العلم الشرعي.

من الغريب أن أي مسألة من المسائل التي يتكلم فيها مَن أفنَوا أعمارهم في الدراسة والبحث في المسائل الكونية لا يجيز أحد من عوام المسلمين لنفسه أن يخوض فيها ولا أن يدلي فيها بدلوه بين الدلاء، ولا يجرؤ كذلك أن يرجح قول طبيب متخصص في جراحة الشبكية مثلا على قول طبيب متخصصٍ آخر، وكذا في معضلات الهندسة والكيمياء والقانون ونحوها، بينما يقحِم كثير منهم نفسه في المسائل الشرعية دون أن يكون له دراية بأصولها وأدلتها من آيات الكتاب المبين وسنة سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وما تفرع عن هذين الأصلين!.

لا يجوز للفرد من عوام المسلمين ـ على قلة علمه واطلاعه وبحثه ـ أن يسمح لنفسه بالخوض فيما لا يحسنه من المسائل الشرعية وفي أن يرجح فيها قولا لعالم على قول عالم آخر، ومن أراد دخول هذا الميدان فعليه أن يسلك مسالكه، فإن استطاع فبها ونعمتْ، وإن لم يستطع فحسْبه أن يقلد فيها قول العالم الذي يغلب على ظنه أنه أعلم وأبعد عن مزالق الشبهات والذي تطمئن إليه نفسه بعيدا عن الهوى.

وهذه بعض أهم مسائل هذا البحث:

* ـ الحث على الاجتهاد وترك التقليد لمن عنده الأهلية لذلك:

كان كبار الأئمة ـ ومنهم الإمام الشافعي المتوفى سنة 204 رحمه الله ـ ينهون عن تقليدهم وتقليد غيرهم، تشجيعا لطلاب العلم الشرعي المتمرسين في دراسة أدلته على الارتفاع عن مرتبة التقليد المحض والارتقاء لولوج مرتبة الاجتهاد، وذلك لمن تأهل لهذه المرتبة، ومن الواضح أنه ليس مرادهم أن هذا لكل أحد من الناس.

قال إسماعيل بن يحيى المُزَني المتوفى سنة 264 تلميذ الإمام الشافعي رحمهما الله في المختصر: “اختصرتُ هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله ومِن معنى قوله، لأقرِّبَه على من أراده، مع إعلاميه نهْيَه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه”. [مختصر المزني: 8/ 93]. أي مع إعلامي لهذا الذي أراد علمَ الشافعي نهْيَ الشافعي عن تقليده وتقليد غيره من العلماء.

قال الفقيه الشافعي القاضي حسين بن محمد المَرْوَالرُّوذي المتوفى سنة 462 رحمه الله معلقا على هذا القول في التعليقة الفقهية: [قوله “لينظر فيه لدينه” معناه أن الشافعي نهى عن التقليد لكي يأخذ المسائلَ بالحجة، حتى لا تزل قدمُه عن ذلك، فإنه لو أخذ من غير الدليل فربما تزل قدمه عن قريب، وقوله “ويحتاطَ لنفسه” معناه أنه يأخذ منه المذهب بالحجة والبيان، والمعنى دون الأخذ بالتقليد ومن غير الدليل، فإنه يوبق نفسه بالنار]. [1/ 125 ـ 126].

قال الفقيه الشافعي عبد الواحد بن إسماعيل الرُوياني المتوفى سنة 502 رحمه الله: [إن قيل: لم قال “لينظرَ فيه لدينه ويحتاط لنفسه” والأوْلى والاحتياط في التقليد ليسْلم المقلدُ من مخاطر الخطأ والصوابِ فيه؟!. قلنا: الأوْلى والاحتياط في الاجتهاد، لأن المجتهد يقـْدِم على الأمر على علم، والمقلد يقـْدِم فيه على جهل]. [بحر المذهب: 1/ 29].

أقول:

لو قال “والأوْلى والاحتياط هو في التقليد” لكان أظهر وأوضح، ومثلها في قوله “الأوْلى والاحتياط في الاجتهاد”.

قال الفقيه المالكي الحافظ ابن عبد البر المتوفى سنة 463 رحمه الله في كتابه جامع بيان العلم: “قال جل وعز {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم}، فمنعهم الاقتداءُ بآبائهم من قبول الاهتداء فقالوا {إنا بما أرسلتم به كافرون}”. [جامع بيان العلم: 2/ 977، وفي طبعة أخرى: 2/ 221].

قال الفقيه المالكي الباجي المتوفى سنة 474 رحمه الله في كتابه الإشارة في أصول الفقه: “يجب الرجوع إلى الأصول وما أودِع فيها من المعاني التي تدل على الفروع، وهي الكتاب والسنة والإجماع، قال الله عز وجل {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}، يريد إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فلم يردَّهم عند التنازع إلى غير ذلك، فدل على إبطال التقليد من غير حجة، كما قال الله تعالى حكاية عن قوم على طريق الذم لهم والإنكار عليهم {قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أوَلوْ جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم؟!}، فألزم الله تعالى اتباعَ الحجة وعدمَ التقليد بغير حجة”. [الإشارة في أصول الفقه: ص 15 ـ 16].

قال أبو داود السجستاني المتوفى سنة 275 صاحب كتاب السنن سائلا شيخه الإمام أحمد ابن حنبل رحمهما الله: أليس الأوزاعي هو أتْبَعَ من مالك؟. فقال: “لا تقلد دينك أحدا من هؤلاء، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به، ثم التابعين بعدُ الرجلُ فيه مخير”. [مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود: ص 369، وفي طبعة أخرى: ص 277].

قال الفقيه الحنبلي الشريف أبو علي محمد بن أحمد بن محمد بن أبي موسى الهاشمي المتوفى سنة 428 رحمه الله في كتابه الإرشاد إلى سبيل الرشاد: [أما بعد، فإنك سألتني أن أكتب لك جملة مختصرة من واجب أمور الديانة على مذهب أبي عبد الله أحمدَ ابنِ حنبل رضي الله عنه، فأسرعتُ في ذلك، مع إعلاميك نهْيَه عن تقليده وتقليد غيره، ورُوي عنه أنه قال: “لا تقلد أمرك أحدا وعليك بالأثر”]. [الإرشاد إلى سبيل الرشاد: ص 3 ـ 4].

أقول:

ما تقدم من أقوال أولئك الأئمة رحمهم الله تعالى هو لمن عنده أهلية الاجتهاد حقيقة واستكملَ شروط الاجتهاد، علمًا وفهمًا وفقهَ نفس، بخلاف حال كثيرين من أهل الأهواء الذين تشوفت نفوسهم لمرتبة ليسوا من أهلها، ولا بد مع ذلك من التنزه والبعد عن هوى النفس، فإن الهوى يهوي بصاحبه.

* ـ هل يجوز لأحد أن يرجح قولا على قول بغير دليل؟:

قال الفقيه الحنبلي ابن تيمية المتوفى سنة 728 رحمه الله: “مَن صار إلى قولٍ مقلدا لقائله لم يكن له أن ينكر على من صار إلى القول الآخر مقلدا لقائله، لكن إن كان مع أحدهما حجة شرعية وجب الانقياد للحجج الشرعية إذا ظهرت، ولا يجوز لأحد أن يرجح قولا على قول بغير دليل ولا يتعصبَ لقول على قول ولا لقائل على قائل بغير حجة، بل مَن كان مقلدا لزِمَ حكمَ التقليد فلم يرجِّحْ ولم يزيِّفْ ولم يصوِّبْ ولم يخطِّئْ، ومن كان عنده من العلم والبيان ما يقوله سُمع ذلك منه، فقـُبل ما تبين أنه حق، ورُدَّ ما تبين أنه باطل، وتُوقـِّف فيما لم يتبين فيه أحد الأمرين”. [دقائق التفسير: 2/ 24. الفتاوى الكبرى: 1/ 175].

أقول:

هذا يعني أن مقام ترجيح قول على قول هو للمجتهد الذي يعرف الحجج الشرعية، فلا يحكم لقول بالصواب أو التخطئة إلا بحجة، ولا يرجح قولا على قول إلا بحجة.

* ـ هل يجب أن يكون الاجتهاد بالاستنباط من الكتاب والسنة دون الاستعانة بأفهام مَن مضَوْا من العلماء الذين قبلنا؟:

كان الأئمة المجتهدون يستنبطون من الكتاب والسنة ويستعينون بأقوال الصحابة والتابعين، فإن أجمعوا على أمر فإنهم لا يتخطونه، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حضروا الوقائع وشاهدوا التنزيل وهم أقرب إلى فهم الكتاب والسنة ممن بعدهم، وإن اختلف فيه الصحابة والتابعون اجتهدوا كما اجتهد الذين من قبلهم.

ليس الاجتهاد هو البحثَ في المستجدات فحسب، ولكن النظر في الأقوال السابقة وأدلتها والترجيح المبني على دراسة الاستدلالات ومناقشتها هو نوع من الاجتهاد كذلك.

استدل السيوطي رحمه الله في كتابه تقرير الاستناد على أن النووي رحمه الله كان من المجتهدين بقوله “فإن له في شرح المهذب وغيره اختياراتٍ من حيث الدليلُ خارجةً عن المذهب، ولولا أنه بلغ رتبة الاجتهاد لم يفعل ذلك”. [تقرير الاستناد: ص 63]. وهذا يعني أن الترجيح بين أقوال الأئمة من خلال دراسة أدلتهم والموازنة بينها هو نوع من الاجتهاد.

من المهم ـ في هذا الجانب ـ الإشارة إلى أناس يفرحون بالدعوة إلى الاجتهاد ويريدون أن يرجعوا إلى الكتاب والسنة على غير منهاج الصحابة والتابعين ومَن تبعهم بإحسان، بل يريدون أن يتجاوزوا كل ما كان عند السلف من طرائق العلم والفهم إلى اتباع الهوى، فلا يقيمون وزنا للغة التي نزل بها القرآن الكريم وخاطب بها رسولُ الله صلى عليه وسلم أصحابه، ولا لِما أجمعت عليه الأمة من لدنْ أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم فمَن بعدهم، وهذا من اتباع غير سبيل المؤمنين، والاجتهاد الذي تحدث عنه علماء الأمة في واد وهم في واد آخر.

قال الله عز وجل: {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم، فمن يهدي من أضل اللهُ؟!، وما لهم من ناصرين، فأقم وجهك للدين حنيفا}.

* ـ مَن المجتهد؟ وما الواجب عليه في باب الاجتهاد والتقليد؟:

مرتبة الاجتهاد هي مرتبة العلم بمصادر التشريع وأصول الاستدلال، إما في معظم أبواب الشريعة، وهذا شأن كبار الأئمة المجتهدين، وإما في بعض الأبواب أو المسائل على الأقل، وتكون تلك الأبواب والمسائل هي التي بذل فيها العالم قُصارى الجهد لبحث أدلتها دون غيرها.

قال الفقيه الشافعي الماوردي والفقيه الحنبلي أبو يعلى رحمهما الله كلاهما في الأحكام السلطانية: “أصول الأحكام في الشرع أربعة: علمه بكتاب الله عز وجل، وعلمه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتةِ من أقواله وأفعاله، وعلمه بتأويل السلف فيما اجتمعوا عليه واختلفوا فيه، ليتبع الإجماع ويجتهد برأيه في الاختلاف، وعلمُه بالقياس الموجِب لرد الفروع المسكوت عنها إلى الأصول المنطوق بها والمُجْمَع عليها، حتى يجد طريقا إلى العلم بأحكام النوازل وتمييز الحق من الباطل، فإذا أحاط علمه بهذه الأصول الأربعة في أحكام الشريعة صار بها من أهل الاجتهاد في الدين وجاز له أن يفتي ويقضي، وإن أخل بها أو بشيء منها خرج من أن يكون من أهل الاجتهاد فلم يجز أن يفتي ولا أن يقضي، فإن قـُلد القضاءَ فحكمَ بالصواب أو الخطإ كان تقليده باطلا وحكمُه وإن وافق الحقَّ والصواب مردودا، وتوجه الحرجُ فيما قضى به عليه وعلى من قلده الحكم والقضاء”. [الأحكام السلطانية للماوردي: ص 112 ـ 113. الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 61 ـ 62].

أقول:

قوله “كان تقليده باطلا” أي كان تفويض القضاء إليه باطلا، فهذه الكلمة هنا هي من باب تفويض الأمر لا من باب المحاكاة.

ثم إن الأوْلى أن يكون في هذا الكلام بعضُ التعديل، وذلك بأن يُقال: إن قـُلد مَن ليس من أهل الاجتهاد القضاءَ كان تقليده باطلا وحكمُه إن لم يوافق الحقَّ والصواب مردودا، وتوجه الحرجُ فيما قضى به عليه وعلى من قلده الحكم والقضاء، ويكون حكمُه إن وافق الحقَّ والصواب نافذا، لأن الغاية من تعيين القاضي هي إيصال الحق لمستحقه وقد حصل.

قال الفقيه المالكي الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: “الواجب عند اختلاف العلماء طلبُ الدليل من الكتاب والسنة والإجماعِ والقياسُ على الأصول منها، وذلك لا يُعْدم، فإن استوت الأدلة وجب المَيل مع الأشبه مما ذكرنا بالكتاب والسنة، فإذا لم يبِنْ ذلك وجب التوقف”. [جامع بيان العلم لابن عبد البر: 2/ 902، وفي طبعة أخرى: 2/ 161].

قال الفقيه الحنفي ثم الشافعي أبو المظفر السمعاني منصور بن محمد بن عبد الجبار المتوفى سنة 489 رحمه الله تعالى في كتابه قواطع الأدلة: “صحة الاجتهاد تكون بمعرفة الأصول الشرعية، ومعرفتها بستة شروط: أحدها: أن يكون عارفا بلسان العرب من لغة وإعراب وموضوعِ خطابهم في الحقيقة والمجاز ومعاني كلامهم في الأوامر والنواهي والعموم والخصوص إلى غير ذلك، لأن السمع في شرع الإسلام ورد بلسان العرب، لأنه مأخوذ من الكتاب والسنة وهو ما ورد بلسان العرب، قال الله تعالى في الكتاب {بلسان عربي مبين}، وقال عز مِن قائل {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه}، والذي يلزَمُ في حق المجتهد أن يكون محيطا بأكثر كلام العرب، ويرجعُ فيما عَزَب عنه إلى غيره، وهو كما أن جميع السنن لا يحيط بها أحد من العلماء وإنما يحيط بها جميع العلماء فإذا كان المجتهد محيطا بأكثرها صح اجتهاده ويرجع فيما عزب عنه إلى من يعلمه فكذلك ههنا، وأما الشرط الثاني: فهو أن يكون مشرفا على ما تضمنه الكتاب من الأحكام الشرعية من عموم وخصوص ومبيَّن ومجمل وناسخ ومنسوخ بنصٍّ أو فحوى أو ظاهر أو مجمل، ليستعمل النص فيما ورد، والفحوى فيما يفيده، والظاهر فيما يقتضيه، والمجمل يطلب المراد منه، وأما الشرط الثالث: فهو معرفة ما تضمنته السنة من الأحكام، وعليه فيها خمسة شروط: أحدها معرفة طرقها من تواتر وآحاد ليكون المتواتر معلومَه والآحاد مظنونَه، والثاني معرفة صحة طرق الآحاد ومعرفة رواتها ليعمل بالصحيح منه ويعْدِل عما لا يصح منه، والثالث أن يعرف أحكام الأفعال والأقوال ليعمل بما يوجبه كل واحد منهما، والرابع أن يحفظ معاني ما انتفى الاحتمال عنه ويحفظ ألفاظ ما دخله الاحتمال، ولا يلزمه حفظ الأسانيد وأسماء الرواة إذا عرف عدالتهم، والخامس ترجيح ما يتعارض من الأخبار ليأخذ ما يلزم العملُ به، وقال بعض أصحابنا إذا عرَف من اللغة ما يعلم به مراد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة والخطاب الوارد فيهما وعرف موارد الخطاب ومصادره من الكتاب والسنة والحقيقة والمجاز والأمر والنهى والعام والخاص والمجمل والمفصل والمنطوق والمفهوم والمطلق والمقيد وعرف الناسخ والمنسوخ وعرف أحكام النسخ فهذا القدر كاف، وهذا هو الأوْلى في الشرائط التي سبق ذكرها، وأما الشرط الرابع: فهو معرفة الإجماع والاختلاف وما ينعقد به الإجماع وما لا ينعقد به ومن يُعتد به في الإجماع ومن لا يُعتد به، ليتبع الإجماع ويجتهد في الاختلاف، وأما الشرط الخامس: فهو معرفة القياسِ والاجتهادِ والأصولِ التي يجوز تعليلها وما لا يجوز تعليله والأوصافِ التي يجوز أن يُعلل بها وما لا يجوز أن يُعلل به، وترتيبِ الأدلة بعضها على بعض، ومعرفةُ الأوْلى فيها، فيقدم الأوْلى ويؤخر ما لا يكون أوْلى، ويعرفَ وجوه الترجيح ليقدم الراجح على المرجوح، وأما الشرط السادس: فهو أن يكون ثقة مأمونا غير متساهل في أمر الدين، فإذا تكاملت هذه الشروط في المجتهد صح اجتهاده في جميع الأحكام، وإن لم يوجد واحد من هذه الشروط خرج من أهلية الاجتهاد”. ثم قال: “واعلم أن الثقة والأمانة في أن لا يكون متساهلا في أمر الدين لا بد منه، لأنه إذا لم يكن كذلك لا يستقصي النظر في الدلائل، ومن لا يستقصي النظر في الدلائل لا يصل إلى المقصود”. [قواطع الأدلة: 2/ 303 ـ 307].

أقول: رحم الله أبا المظفر رحمة واسعة.

قال القاضي حسين في التعليقة: “نعني بالعالم أن يكون عالما بالكتاب والسنة وأقاويل الصحابة وآثار التابعين وإجماع المسلمين واختلافهم ووجوه القياس ولسان العرب”. [1/ 139].

قال الروياني: “العالم الذي لا يجوز له التقليد من بلغ رتبة الاجتهاد، وهو مَن عرَف الكتاب والسنة وأقاويل الصحابة وآثار السلف وإجماعَ الأمة واختلافهم والعربية والاستنباط بالقياس، ونعني به أن يعرف من كل واحد من هذه العلوم معظمه، لا أن يأتي على جميعه، لأنه لا يمكن، ومن لم يبلغ هذه الرتبة لا يحل له أن يفتي، بل يحكي الحكاية فيقول: قال فلان كذا”. [بحر المذهب: 1/ 31].

قال الفقيه الحنفي الكبير أبوبكر أحمد بن علي الرازي الجصاص المتوفى سنة 370 رحمه الله في كتابه الفصول في الأصول: “لا يكون الرجل من أهل الاجتهاد في طلب أحكام الحوادث حتى يكونَ عالما بجُمَل الأصول من الكتاب والسنة الثابتة وما ورد من طريق أخبار الآحاد وما هو ثابت الحكمِ منها مما هو منسوخ، وعالما بالعام والخاص منها، ويكونَ عالما بدلالات القول بالحقيقة والمجاز ووضْعِ كلٍّ منه موضعَه وحمْلِه على بابه، ويكونَ مع ذلك عالما بأحكام العقول ودلالاتها وما يجوز فيها مما لا يجوز، ويكونَ عالما بمواضع الإجماعات من أقاويل الصحابة والتابعين ومَن بعدهم من أهل الأعصار قبله، ويكونَ عالما بوجوه الاستدلالات وطرق المقاييس الشرعية، ولا يُكتفى في ذلك بعلمه بالمقاييس العقلية، وهي طريقة متوارثة عن الصحابة والتابعين ينقلها خلف عن سلف، فسبيلها أن تؤخذ عن أهلها من الفقهاء الذين يعرفونها، فمن كان بالمنزلة التي وصفنا جاز له الاجتهاد في أحكام الحوادث وردِّ الفروع إلى أصولها وجاز له الفتيا بها إذا كان عدلا، فأما إن جمع ذلك ولم يكن عدلا فإن فتياه غير مقبولة، كما لا يُقبل خبره إذا رواه ولا شهادته إذا شهد”. [الفصول في الأصول: 4/ 273].

قال الإمام الغزالي المتوفى سنة 505 رحمه الله في المستصفى: “ليس الاجتهاد عندي منصِبا لا يتجزأ، فمن عرَف طريق النظر القياسي فله أن يفتي في مسألة قياسية وإن لم يكن ماهرا في علم الحديث، ومن ينظر في المسألة المشتركة يكفيه أن يكون فقيه النفس عارفا بأصول الفرائض ومعانيها وإن لم يكن قد حصَّل الأخبار التي وردت في مسألة تحريم المسكرات أوفي مسألة النكاح بلا ولي، فلا استمداد لنظر هذه المسألة منها ولا تعلق لتلك الأحاديث بها، ومن عرَف أحاديث قتل المسلم بالذمي وطريق التصرف فيه فما يضره قصوره عن علم النحو الذي يعرف به قوله تعالى {وامسحوا برؤوسِكم وأرجلَكم إلى الكعبين}، وقس عليه ما في معناه، وليس من شرط المفتي أن يجيب عن كل مسألة، فقد سئل مالك رحمه الله عن أربعين مسألة فقال في ستة وثلاثين منها لا أدري، وكم توقف الشافعي رحمه الله بل الصحابة في المسائل، فإذًا لا يُشترط إلا أن يكون على بصيرة فيما يفتي، فيفتي فيما يدري أنه يدري، ويتوقف فيما لا يدري“. [المستصفى: ص 345، وفي طبعة أخرى: 2/ 389].

أقول:

المسألة المشتركة: هي في علم المواريث، وهي فيما إذا ماتت امرأة عن زوج وأم وأخوين لأم وأخوين شقيقين.

ثم إن كلام العلماء المذكور في شروط الاجتهاد هو في تحقيق أدنى الدرجات المطلوبة للاندراج في سلك أهل تلك المرتبة، ولا شك في أنه كلما كان العالم أشد تحقيقا لتلك الشروط فهو في درجة أعلى، ومن ذلك أن يكون أكثر تعمقا واجتهادا في علوم اللغة العربية ليكون أشد غوصا على معاني القرآن الكريم والحديث الشريف، وفي علوم القرآن والتفسير ليكون أقدر على استنباط الدقائق من بحار علوم القرآن على وجه الخصوص، وفي علوم الحديث ليكون له اجتهاده في اختيار وترجيح الأصح من الأقوال المنثورة في كتب هذا العلم، وبذلك يتمكن من معرفة الأحاديث النبوية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيعتمدها في استنباط الأحكام.

نقل السيوطي عن الفقيه الشافعي الكيا الهراسي علي بن محمد بن علي المتوفى سنة 504 رحمهما الله أنه قال في كتاب التعليق في أصول الفقه بعد ذكْره شروطَ الاجتهاد: “فمَن تيسر له السبيل إلى عبور هذه البحور وإدراكِ هذه المعارف وأحاط بجميع ذلك فهو المجتهد في دين الله الذي يحْرُم عليه تقليدُ غيره ممن تقدمه من الأئمة، ويجب عليه أن يدعو الناس إلى اتباع مذهبه، ناسخا لما تقدمه، لأن اتباع الحي الذي يذهب إلى مذهبٍ يذب عنه بلسانه أولى بالاتباع، فالمجتهد في وقته كالنبي في أمته”. [انظر: الرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي: ص 93].

* كيف يُعرف أن العالم وصل إلى رتبة الاجتهاد؟:

قال الفقيه الشافعي عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفى سنة 911 رحمه الله: “بأي شيء يعرف العامي أن العالم قد وصل إلى حد الاجتهاد؟، وكذلك المجتهد نفسُه متى يعلم أنه قد استكمل شرائط الاجتهاد؟، الذي يظهر أن العالم يعرف ذلك من نفسه بأن يعلم أنه أتقن آلاتِه كل الإتقان وجَدَّ له ملكةٌ وقدرة على الاستنباط واستخراجِ الأحكام الخفية من الأدلة البعيدة، وأما معرفة العامي ذلك فلا يمكن إلا بإخبار المجتهد عن نفسه، لأن الاجتهاد معنى قائم بالنفس لا اطلاع للعامي عليه، نعم، قد يدرك ذلك بكثرة الاختبار له مَن له أهلية الاختبار”. [تقرير الاستناد: ص 51].

ثم قال: “الظاهر قَبول قول العالم في الإخبار عن نفسه أنه وصل إلى حد الاجتهاد إذا كان عدلا، لأن عدالته تمنعه أن يكذب، ولا نظر إلى اتهامه بكونه يدعي لنفسه رتبة عالية”. [تقرير الاستناد: ص 52].

أقول:

هذا في معرفة العالم بمرتبة نفسه وبلوغها درجة الاجتهاد، ويبدو أن هذا حيث لم يكن في الناحية مجتهد أو مجتهدون غيره، أما إذا كان فيها غيره فيُعرف استحقاقه لهذه المرتبة بما تقدم وبشهادة غيره له من أهل هذه المرتبة.

قد يُقال: إن بعض العلماء ربما جرهم التنافس والتحاسد ـ وهم بشر غير معصومين عن حظ النفس ـ إلى غمط حق الأقران وإلى كِتمان فضلهم!.

أقول:

قد يقع هذا على ندرة من بعضهم في بعض الأوقات، لكن لا من كلهم ولا في كل الأوقات، والأصل في أهل العلم أن يكونوا بعيدين عن ذلك، وإذا نظرنا في كتب تراجم العلماء لوجدنا من ثناء بعضهم على بعض الشيء الكثير، حتى في حالات الاختلاف فيما بينهم في كثير من المسائل، وقد تكون فقهية وقد تكون عقدية.

هذا وقد عدَّل ووثـَّق علماء الجرح والتعديل رحمهم الله تعالى كثيرا مِن الرواة ممن يختلفون معهم في بعض الجزئيات من مسائل الاعتقاد حيث لم يجدوا في مرويات الراوي ما يُضعف لأجله، وبعضهم متهم بأنه مرجئ أو قدري أو معتزلي أو خارجي أو شيعي أو ناصبي، وفي مقابل ذلك نجدهم قد ضعَّفوا عددا من الرواة حيث وجدوا في مرويات الراوي ما يُضعف لأجله حتى وإن كان شديدا في السنة!. [انظر إن شئت بحثا عنوانه أحكام المحدثين على الرواة بين المعايير النقدية والأهواء المذهبية].

* ـ التفريق بين رتبة الاجتهاد ورتبة الاتباع ورتبة التقليد:

أكثر علماء أصول الفقه يرون أن المسْلم إما مجتهد وإما مقلد، فالمجتهد عندهم من بلغ درجة الاجتهاد، والمقلد من لم يبلغها.

وهناك قول آخر أدق في التقسيم وأولى بالقبول، فقد قال الفقيه المالكي الإمام الحافظ ابن عبد البر الأندلسي المتوفى سنة 463 رحمه الله: “حدُّ العلمِ ـ عند العلماء والمتكلمين في هذا المعنى ـ هو ما استيقنْتَه وتبينْتَه، وكل من استيقن شيئا وتبينه فقد علمه، وعلى هذا من لم يستيقن الشيء وقال به تقليدا فإنه لم يعلمه، والتقليد ـ عند جماعة العلماء ـ غير الاتباع، لأن الاتباع هو أن تَتـَّبِع القائل على ما بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه، والتقليد أن تقول بقوله وأنت لا تعرف وجه القول ولا معناه وتأبى من سواه، أو أن يتبين لك خطؤه فتتبعه مهابة خلافه وأنت قد بان لك فساد قوله، وهذا محرمٌ القولُ به في دين الله سبحانه وتعالى”. [جامع بيان العلم لابن عبد البر: 2/ 787، وفي طبعة أخرى: 2/ 78 ـ 79].

أقول:

جعل ابن عبد البر رحمه الله تعالى الناس في هذا النص على أربع مراتب: المرتبة الأولى هي للمجتهدين، وهم أهل العلم الذين يقولون ما يقولونه أخذا بما ترجح لديهم بالدليل، والمراتب الثلاث التي بعدها للمقلدين، فالمرتبة العالية منها هي لمتبعي المجتهدين من المقلدين، وهم الذين يتبعون مَن يأخذون بقوله من أهل العلم لِمَا ظهر لهم من صحة مذهبه ورجحان قوله على قول غيره، والمرتبة المتوسطة منها هي لعامة المقلدين، وهم الذين يقولون بقول مَن يأخذون بقوله من أهل العلم مستمسكين به دون معرفةٍ لهم بصحة مذهبه ورجحان قوله، والمرتبة الدنيا منها هي للمسيئين من المقلدين، وهم الذين يأخذون بقول مَن يأخذون بقوله من أهل العلم على الرغم من أنه قد ظهر لهم فساد قوله، وقرر ابن عبد البر عليه رحمة الله أن ما يعمله أهل المرتبة الأخيرة هو حرام.

وسبقه إلى بعض هذا الفقيهُ الشافعي أبوعبد الله الزبير بن أحمد الزبيري المتوفى سنة 317 رحمه الله حيث يقول: “إن كان العامي يتسع عقله ويكْمُل فهمُه إذا عُقـِّل أن يعقل وإذا فـُهِّم أن يفهم فعليه أن يسأل المختلفين في مذاهبهم عن حُججهم فيأخذَ بأرجحها عنده، وإن كان عقله ينقص عن هذا وفهمُه لا يكمُل له وَسِعه التقليدُ لأفضلهما عنده”. نقل هذا النص عنه الخطيبُ البغدادي أحمد بن علي بن ثابت المتوفى سنة 463 رحمه الله في كتاب الفقيه والمتفقه مع الإقرار. [الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي: 2/ 432].

أقول:

وددتُ لو قال “فله أن يسأل المختلفين في مذاهبهم عن حُججهم”، بدلا من قوله “فعليه أن يسأل المختلفين في مذاهبهم عن حُججهم”.

قال أبو المظفر السمعاني منصور بن محمد بن عبد الجبار المتوفى سنة 489 رحمه الله في قواطع الأدلة: “إن قال قائل: هل يجوز للعامي أن يطالب العالم بدليل الجواب؟. قلنا: لا يمنعه أن يطالب به، لأجل احتياطه لنفسه، ويلزم العالمَ أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعا به، لإشرافه على العلم بصحته، ولا يلزمه أن يذكر له الدليل إن لم يكن مقطوعا به لافتقاره إلى الاجتهاد ويقْصُر عنه العامي”. [قواطع الأدلة: 2/ 357]. ونقله عنه الزركشي في البحر المحيط مع الإقرار. [8/ 364].

أقول:

غفَل عن هذا المعنى كثير من المشايخ الذين يرون كل من لم يصل لمرتبة الاجتهاد هو في مرحلة التقليد المحض، فيجعلون من أفنى من عمره عشرات السنين في الدراسة الشرعية والبحث العلمي وآخِرَ فردٍ من المقلدين في مرتبة التقليد للمجتهد سواء!.

بعض المشايخ لو سألته ـ وأنت من طلاب العلم ـ عن الدليل في مسألة من المسائل ووجد فيك رائحة الرغبة في الترجيح لنالكَ منه الزجرُ والإعراض!، وهذا بخلاف قول أبي عبد الله الزبيري “فعليه أن يسأل المختلفين في مذاهبهم عن حُججهم فيأخذَ بأرجحها عنده”.

هذا ولا بد من التفريق هنا بين حالتين: حالة من يسأل عن الدليل وعنده رغبة صادقة في الفهم والاستبصار، وحالة من يسأل عن الدليل وهو من أهل العناد والاستكبار.

* ـ هل يجوز للمجتهد أن يترك اجتهاده في بعض المسائل ويقلد فيها مجتهدا آخر:

قال الفقيه الشافعي علي بن محمد بن حبيب الماوردي المتوفى سنة 450 في كتاب الحاوي: “العالم إذا أراد أن يقلد عالما فيما يفتي به أو يحكم به لا يجوز له ذلك، لأنه ليس تقليد أحدهما لصاحبه بأولى من تقليد صاحبه له، كالمبصِرَين لا يجوز لأحدهما تقليد صاحبه في القِبلة”. [الحاوي: 1/ 39].

قال القاضي حسين في التعليقة: “العالم فرْضه أن يعمل بعلم نفسه، ولا يجوز له أن يعمل بقول الغير ويقلدَه، لأن العالم له آلة الدرك والاجتهاد”. [1/ 139].

قال الباجي: “مذهب مالك رحمه الله إبطال التقليد من العالم للعالم، وهو قول جماعة من الفقهاء”. [الإشارة في أصول الفقه: ص 15].

قال الفقيه الحنبلي أبو الخطاب الكَلـْوَذاني: حكى أبو إسحاق الشيرازي أن مذهبنا جواز تقليد العالم للعالم، وهذا لا نعرفه عن أصحابنا. [التمهيد في أصول الفقه: 4/ 409].

وقال الفقيه الحنفي أبوبكر الرازي الجصاص في كتابه الفصول في الأصول: “قال أبو حنيفة: من كان من أهل الاجتهاد فله تقليد غيره من العلماء وترْك رأيه لقوله، وإن شاء أمضى اجتهاد نفسه. وقال محمد بن الحسن: ليس لمن كان من أهل الاجتهاد تقليدُ غيره”. [الفصول في الأصول: 3/ 362].

* ـ هل التقليد يفيد العلم؟ وهل المقلدون هم من العلماء حقيقة أو مجازا؟:

قال الفقيه الحنبلي القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء المتوفى سنة 458 في كتاب العُدة في أصول الفقه: “التقليد لا يفضي إلى المعرفة، ولا يقع به العلم”. [العدة في أصول الفقه: 4/ 1218].

قال الإمام الغزالي في المستصفى: “التقليد لا يفيد العلم، فإن الخطأ جائز على المقلـَّد، والمقلـِّد معترف بعمى نفسه، وإنما يدَّعي البصيرة لغيره“. [المستصفى للغزالي: 1/ 384. وفي طبعة أخرى: ص 162].

قال الزركشي الشافعي: “التقليد لا يفيد العلم”. [تشنيف المسامع بجمع الجوامع: 4/ 623].

أقول:

معني قول العلماء إن التقليد لا يفيد العلم أي ما قام عن دليل لدى القائل، وحيث إن المجتهد هو الذي حصَّل ذلك بالاستدلال المؤسس على القواعد العلمية فهو الذي حصَلت لديه المعرفة والعلم، أما المقلد فهو ناقل لِما عند المجتهد دون أن يكون عنده علم بصحة الاستدلال، وحسْبه أنه يسأل أهل الذكر ويعمل بما أفتَوه به.

قال الفقيه المالكي الإمام الشاطبي إبراهيم بن موسى المتوفى سنة 790 في كتاب الموافقات: “السؤال إما أن يقع من عالم أو غير عالم، وأعني بالعالم المجتهد، وبغير العالم المقلد”.

وقال في كتاب الاعتصام: “هذا القسم مقلدون، فلا يسعهم الاجتهادُ في استنباط الأحكام، إذ لم يبلغوا درجته، فلا يصح تعرضهم للاجتهاد في الشريعة مع قصورهم عن درجته، فإنْ فـُرض انتصابه للاجتهاد فهو مخطئ آثم، أصاب أم لم يصب، لأنه أتى الأمرَ من غير بابه وانتهك حرمة الدرجة وقـَفـَا ما ليس له به علم”. [الاعتصام: 3/ 318، وفي طبعة أخرى: 2/ 863].

نقل السيوطي عن القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر المتوفى سنة 422 من أئمة المالكية رحمهما الله أنه قال في كتابه المقدمات في أصول الفقه: “التقليد لا يثمر علما ولا يفضي إلى معرفة، وقد جاء النص بذم من أخلد إلى تقليد الآباء والرؤساء واتباع السادة والكبراء، تاركا بذلك ما ألزِمه من النظر والاستدلال وفُرِض عليه من الاعتبار والاجتهاد، قال تعالى {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون؟!}”. [الرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي: ص 47 ـ 48].

ونقل عنه أنه قال: “إنما يتميز صحيح المذاهب من فاسدها وحقـُّها من باطلها بالأدلة الكاشفة عن أحوالها والمميِّزة بين أحكامها، وذلك معدوم في المقلد، لأنه متبع لقولٍ لا يعرف صحته من فساده”. [الرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي: ص 48].

قال الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة: “شرْط المقلد أن يسكت ويُسكت عنه، لأنه قاصر عن سلوك طريق الحِجَاج، ولو كان أهلا له كان متَّبَعا لا تابعا وإماما لا مأموما، فإن خاض المقلد في المحاجَّة فذلك منه فضول، والمشتغل به كضارب في حديد بارد“. ونقله السيوطي عنه مع الإقرار. [فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة للإمام الغزالي. الرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي: ص 88. والحاوي للفتاوي للسيوطي: 2/ 139، وفي طبعة أخرى: 2/ 110].

* ـ تحصيل رتبة الاجتهاد في بعض أفراد الأمة فرض كفاية:

قال الفقيه الشافعي أبو إسحاق الشيرازي المتوفى سنة 476 في كتاب التبصرة والفقيهُ الحنبلي الكَلـْوَذانيُّ المتوفى سنة 510 في كتاب التمهيد والفقيهُ الحنبلي علي بن عقيل المتوفى سنة 513 في كتاب الواضح رحمهم الله: “الاجتهاد فرض من فروض الكفايات”. [التبصرة في أصول الفقه لأبي إسحاق الشيرازي: ص 410].

قال الفقيه الشافعي إمام الحرمين المتوفى سنة 478 رحمه الله في نهاية المطلب: “طلب العلم منقسم قسمين: أحدهما مفروض على الأعيان، والثاني يثبت على سبيل الكفاية، فأما ما يتعين طلبه فهوما يُبتلى المرء بإقامته في الأوقات الناجزة، وبيان ذلك أن من بلغه أن الصلاة مفروضة وهي ذات شرائط فلا يُتصور الإقدامُ عليها والقيام بشرائطها إلا بالإحاطة بالشرائط والأركان، فكل ما يتعين الإقدامُ عليه يتعين العلم بشرائطه وأركانه، وأما ما يقع فرضا على الكفاية فهو ما يزيد على المتعين إلى بلوغ رتبة الاجتهاد، فإن قوام الشرع بالمجتهدين“. [نهاية المطلب: 17/ 416 ـ 417].

وقال: “ثم لا يخفى أن المفتي الواحد لا يقع الاكتفاء به في الخِطة، ويجب أن يكون في كل قطر من يُراجَع في أحكام الله تعالى”. [نهاية المطلب: 17/ 418].

الخِطة: أرض يختطها الرجل للعمارة لم تكن لأحد قبله، والجمع خِطط، والمعنيُّ بها هنا الإقليم المشتمل على بلدان. القـُطر: الناحية. والمعنى قريب بعضه من بعض.

قال الفقيه الشافعي محيي السنة البغوي المتوفى سنة 516 رحمه الله في كتاب التهذيب: “العلم ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية، ففرض العين هو أنه يجب على كل مكلفٍ معرفةُ علمِ ما هو مأمور به من العبادات من علم الطهارة والصلاة والصوم وعلم الزكاة إن كان له مالٌ وعلمِ الحج إن وجب عليه، يجب أن يعرف أركانها وسننها وما يوجبها وما يبطلها، وفرض الكفاية: هو أن يتعلمَ ما يبلغُ به رتبةَ الاجتهاد ومحلَّ الفتوى والقضاءِ ويخرج به من عداد المقلدين، فعلى كافة الناس القيام بتعلمه، غير أنه إذا قام من كل ناحية واحدٌ أو اثنان أو عددٌ تقع بهم الكفاية بتعلمه سقط الفرض عن الباقين، لأنا لو فرضنا على الكافة الاشتغال به كفرض العين أدى ذلك إلى انقطاع معاشهم، فإذا قعد الكل عن تعلمه عصَوْا جميعا“. [التهذيب في فقه الإمام الشافعي: 1/ 104 ـ 114].

قال الشهرستاني المتوفى سنة 548 رحمه الله في كتاب الملل والنحل: “الاجتهاد من فروض الكفايات، إذا اشتغل بتحصيله واحد سقط الفرض عن الجميع، وإن قصَّر فيه أهل عصر عَصَوْا بتركه وأشرفوا على خطر عظيم، فإن الأحكام الشرعية الاجتهادية إذا كانت مترتبة على الاجتهاد ترتـُّبَ المسبَّب على السبب ولم يوجد السبب كانت الأحكام عاطلة والآراء كلها فائلة، فلا بد إذن من مجتهد”. [الملل والنحل: 2/ 10. وفي طبعة أخرى: 1/ 204]. الآراء الفائلة: أي الضعيفة التي تخطئ في الفراسة.

وبنحو قوله قال الزركشي في البحر المحيط وابن الوزير المتوفى سنة 840 في كتابه العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم.

قال الفقيه الشافعي ابن الصلاح الشهرزوري المتوفى سنة 643 رحمه الله في فتاويه: “المفتي ينقسم إلى قسمين، مستقل وغير مستقل، القسم الاول المفتي المستقل، وشرطه أن يكون قيما بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وما التحق بها على التفصيل، عالما بما يُشترط في الأدلة ووجوه دلالاتها ويمكنه اقتباس الأحكام منها، فمن جمع هذه الفضائل فهو المفتي المطلق المستقل الذي يتأدى به فرض الكفاية“. [فتاوى ابن الصلاح: 1/ 21]. ونقله عنه النووي في المجموع مع الإقرار.

وقال ابن الصلاح عن المجتهد المقيد في مذهب إمامه: “الذي رأيته من كلام الأئمة يشعر بأن مَن كانت هذه حالتَه ففرض الكفاية لا يتأدى به، ووجهه أن ما فيه من التقليد نقص وخلل في المقصود، والذي يظهر أنه يتأدى به فرض الكفاية في الفتوى وإن لم يتأدَّ به فرض الكفاية في إحياء العلوم التي منها استمداد الفتوى”. [أدب المفتي والمستفتي: ص 95]. ونقله عنه مع الإقرار تاجُ الدين السبكي رحمه الله [في الإبهاج في شرح المنهاج: 3/ 256].

قال الزركشي الشافعي المتوفى سنة 794 رحمه الله في كتابه البحر المحيط: “لمَّا لم يكن بد من تعرف حكم الله في الوقائع فلا بد أن يكون وجود المجتهد من فروض الكفايات، ولا بد أن يكون في كل قطر ما تقوم به الكفاية”. [البحر المحيط في أصول الفقه: 8/ 239].

قال السيوطي في مقدمة كتابه الرد على من أخلد إلى الأرض: “الناس قد غلب عليهم الجهل وعمَّهم، وأعماهم حب العناد وأصمَّهم، فاستعظموا دعوى الاجتهاد، وعدوه منكرا بين العباد، ولم يشعر هؤلاء الجهلة أن الاجتهاد فرض من فروض الكفايات في كل عصر، وواجبٌ على أهل كل زمان أن يقوم به طائفة في كل قطر”. [الرد على من أخلد إلى الأرض: ص 2].

ـ قال الفقيه المالكي القرافي المتوفى سنة 684: “سؤال كبير، هو أن الاجتهاد من فروض الكفايات وقد فـُقد الاتصاف به في هذا العصر فتكون الأمة الآن قد اجتمعت على ترك السعي في تحصيل صفةٍ واجبةِ التحصيل فتكون مجْمعة على المعصية والإجماعُ على المعصية مخل بعصمة الأمة؟!. جوابه: أن الوجوب مشروط بالإمكان، فإذا تعذر الشرط سقط الوجوب، وإذا كان العلم بالإجماع والخلاف شرطًا في جواز الاجتهاد فقد انتشرت المذاهب في هذا الوقت بكثرة التفاريع والتصانيف انتشارًا شديدًا بحيث يتعذر ضبط المذهب الواحد بتصانيفه وفروعه فضلًا عن جميع المذاهب، وإذا تعذر الاجتهاد سقط وجوبه، فلا يعصي الناس بترك الاجتهاد”. [نفائس الأصول في شرح المحصول: 9/ 3832 ـ 3833].

أقول:

بل صرح عدد من أهل العلم بأن كتب العلوم الشرعية قد كثرت وانتشرت وسهُل الانتفاع بها، وأن فقْد مرتبة الاجتهاد هو بسبب ضعف الهمة.

* ـ تيسير تحصيل رتبة الاجتهاد لمن تحقق بشروطها:

قال الفقيه الحنفي الإمام الكبير أبوبكر الرازي الجصاص رحمه الله: “ليس شرطُ مَن كان من أهل الاجتهاد أن يكون عالما بجميع النصوص من الكتاب والسنة، وقد علمنا أن الصحابة ومَن بعدهم قد اجتهدوا مع فقد علمهم بجميع ذلك”. [الفصول في الأصول: 4/ 274].

قال الفقيه الشافعي الخطيب الشربيني المتوفى سنة 977 رحمه الله في كتابه الإقناع بعد ذكره شروطَ الاجتهاد: [لا يُشترط أن يكون متبحرا في كل نوع من هذه العلوم حتى يكون في النحو كسيبويه وفي اللغة كالخليل، بل يكفي معرفة جُمل منها، قال ابن الصباغ “إن هذا سهُلَ في هذا الزمان، فإن العلوم قد دُونت وجُمعت”. ويُشترط أن يكون له من كتب الحديث أصل كصحيح البخاري وسنن أبي داود، ولا يُشترط حفظ جميع القرآن ولا بعضه عن ظهر قلب، بل يكفي أن يعرف مظان أحكامه في أبوابها فيراجعها وقت الحاجة]. [الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: 2/ 614].

ابن الصباغ هو الفقيه الشافعي أبو نصر عبد السيد بن محمد المتوفى سنة 477.

أقول:

قارن بين ما تم تدوينه وجمعه مع سهولة الوصول إليه في زمن ابن الصباغ رحمه الله تعالى في القرن الخامس وفي القرون التالية له في الماضي وبين ما حصل في زمننا من سهولة وسرعة الوصول إليه تجد الفرق كبيرا جدا، فالاجتهاد اليوم ـ لمن جمع الشرائط وكان فقيه النفس ـ أسهلُ منه في ذلك الزمان.

أما من لم يجمع شروط الاجتهاد أو لم يكن فقيه النفس فكلام العلماء الذي قالوه هنا ليس موجها إليه.

قال الإمام العلامة أبو شامة شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل المتوفى سنة 665 رحمه الله: “التوصل إلى الاجتهاد بعد جمع السنن في الكتب المعتمدة – إذا رُزق الانسان الحفظَ والفهمَ ومعرفة اللسان – أسهلُ منه قبل ذلك لولا قلة همم المتأخرين وبُعْدُهم عن المتبحرين، ومن أكبر أسباب تعصبهم جمود أكثر المتصدرين منهم على ما هو المعروف، الذي هو منكر مألوف”. [المؤمل للرد إلى الأمر الأول: 1/ 126 ـ 127].

قوله “أسهلُ منه قبل ذلك”: أي هو الآن أسهلُ مما كان عليه من قبل.

نقل الزركشي في البحر المحيط وفي تشنيف المسامع عن مجد الدين بن دقيق العيد المتوفى سنة 667 والد الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد رحمهم الله أنه قال في كتابه تلقيح الأفهام: “عَزَّ المجتهدُ في هذه الأعصار، وليس ذلك لتعذر حصول آلة الاجتهاد، بل لإعراض الناس في اشتغالهم عن الطريق المفضية إلى ذلك“. [البحر المحيط: 8/ 241. تشنيف المسامع بجمع الجوامع: 4/ 616]. اشتغالهم: أي اشتغالهم بالعلم.

قال الفقيه المالكي الشيخ خليل بن إسحاق المتوفى سنة 776 رحمه الله في كتاب التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب الفرعي: “المجتهد عزيز الوجود في زمننا، وقد شهد المازري بانتفائه ببلاد المغرب في زمانه، فكيف في زمننا؟!، وهو في زمننا أمكنُ لو أراد الله بنا الهداية، لأن الأحاديث والتفاسير قد دُونت، وكان الرجل يرحل في طلب الحديث الواحد، لكن لا بد من قبض العلم على ما أخبر به عليه السلام، فإن قيل يحتاج المجتهد أن يكون عالما بمواضع الإجماع والخلاف وهو متعذر في زماننا لكثرة المذاهب وتشعبها قيل يكفيه أن يعلم أن المسألة ليست مجمعا عليها، لأن القصد أن يحترز من مخالفة الإجماع، وذلك ممكن”.

أقول:

وجود المجتهد في القرن الثامن ـ عند الشيخ خليل بن إسحاق المالكي رحمه الله ـ ممكن، ولكن ربما لا يستطيع من وصل لدرجة الاجتهاد أن يبوح بذلك، لأن العقول والنفوس لم تكن مهيأة ولا مستعدة لقبول ذلك، وفي كلام الشيخ خليل إشارة خفيفة تومئ للرد على كلام القرافي الذي تقدم نقله قريبا رحمهما الله.

قال السيوطي: رأيت بخط الكمال الشُمُنِّي والد شيخنا الإمام تقي الدين الشُمُنِّي ما نصه: [قال شيخنا عز الدين بن جماعة: “إحالة أهل زماننا وجود المجتهد يصدر عن جبنٍ ما، وإلا فكثيرا ما يكون القائلون لذلك من المجتهدين”]. [تقرير الاستناد في تفسير الاجتهاد: ص 54].

[تقي الدين الشُمُنِّي شيخ الحافظ السيوطي هو الفقيه الحنفي الشيخ العلامة أحمد بن محمد بن محمد بن الحسن المتوفى سنة 872، ووالده هو الفقيه المالكي كمال الدين الشُمُنِّي محمد بن محمد بن الحسن، السكندري ثم القاهري، المتوفى سنة 821. عز الدين بن جماعة هو الفقيه الشافعي شيخ الإسلام عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن سعد الله، الحمَوي ثم المصري، المتوفى سنة 767].

أقول:

الاجتهاد مراتب، وهناك فرق كبير بين من حصَّل المرتبة الدنيا منه فتكلم في بعض الترجيحات وبين من ارتقى في سلم مراتبه العالية وأتى بدقائق الاستنباط.

ولا بد في الحديث هنا عن تيسير تحصيل رتبة الاجتهاد من التأكيد على أن هذا لمن تحقق بشروطها، وليس لمن لم يتحقق بالشروط وغرَّه هوى النفس فتكلم في علم الشريعة بما يهدم علم الشريعة، فهذا كبيرة من الكبائر، بل من أكبر الكبائر.

هذا وقد روى الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالمًا اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسُئلوا فأفتَوْا بغير علم، فضلوا وأضلوا”.

* ـ هل يجوز لطالب العلم أن يسافر لتحصيل رتبة الاجتهاد دون الحصول على إذن والديه؟:

من المعلوم المقطوع به أن الولد يجب عليه بر والديه، ومن البر الواجب أن لا يسافر من البلد الذي هما فيه بدون إذنهما إلا لمصلحة راجحة تعينت عليه، ولأهمية تحصيل رتبة الاجتهاد فقد ذكر عدد من أهل العلم أن الولد في بعض الحالات يسافر لتحصيل هذه الرتبة ولو بدون استئذان والديه:

قال إمام الحرمين المتوفى سنة 487 في مسألة استئذان الأبوين بسبب السفر: “إن أراد الرجل أن يسافر لطلب العلم المتعين عليه فلا يحتاج إلى الاستئذان، فأما الحظ الذي يتعلق من العلم بإفادة الغير وهو الترقي إلى رتبة المجتهدين فالتفصيل فيه أنه إن كان في القطر والناحية من يستقل بالفتوى فخروج الإنسان ليس خروجا يندرئ به الحرج، فإن الحرج مرفوع باستقلال مفتي الناحية، فهل يجوز الخروج ليكون هو من جملة المفتين أيضا من غير إذن الوالدين؟ فعلى وجهين: أصحهما الجواز”. [نهاية المطلب: 17/ 404].

قال الفقيه الشافعي حجة الإسلام الغزالي المتوفى سنة 505 رحمه الله في كتاب الوسيط في مسألة اشتراط إذن الوالدين للسفر: “أما سفر طلب العلم فإن كان العلم المطلوب متعينا أو كان يطلب رتبة الاجتهاد حيث شغر البلد عن المجتهد فلا يُشترط الإذن”. [الوسيط: 7/ 10].

قال الرافعي في شرح الوجيز: “السفر لطلب العلم إن كان يطلب ما هو متعين عليه فليس لهما المنع، وإن كان لطلب فرض كفاية بأن كان خرج طالبا لدرجة الفتوى وفي الناحية من يستقل بالفتوى فوجهان، أحدهما أن لهما المنع، وأصحهما أنه لا منع لهما، وإن لم يكن هناك من يستقل بالفتوى لكن خرج عند خروجه جماعة ففي الحاجة إلى الإذن وجهان مرتبان، وأولى بأن لا يحتاج إلى الإذن، لأنه لم يوجد في الحال من يقوم بالمقصود، والخارجون معه قد لا يظفرون بالمقصود”. [العزيز شرح الوجيز: 11/ 361]. وبنحو قولهم قال ابن الرفعة المتوفى سنة 710 في كفاية النبيه في شرح التنبيه. [كفاية النبيه: 16/ 368].

أقول:

هذا الحكم الفقهي لا بد فيه من وقفة تأمل!، بر الوالدين من أهم الفرائض التي أوجبها ربنا تبارك وتعالى وحث عليها نبينا صلى الله عليه وسلم، ولأهمية وجود جماعة من المجتهدين في الأمة وكونه فرْضا وجدنا أن عددا من الفقهاء يرون عدم وجوب استئذان الرجل والديه إذا خرج مسافرا للارتقاء في الرتبة العلمية لتحصيل مرتبة الاجتهاد، وهذا يدل على عِظَم هذه المرتبة الشريفة.

* ـ الواجب على من لم يبلغ رتبة الاجتهاد أن يسأل العلماء الذين بلغوا هذه الرتبة ويعمل بفتواهم، وبيان الواجب عليه إذا اختلف جواب المفتين:

نقل القرافي في تنقيح الفصول مع الإقرار عن شيخ المالكية ابن القصار عليِّ بنِ عمر بن أحمد المتوفى سنة 397 رحمهما الله أنه قال: “قال مالك يجب على العوام تقليدُ المجتهدين في الأحكام، ويجب عليهم الاجتهاد في أعيان المجتهدين كما يجب على المجتهدين الاجتهاد في أعيان الأدلة”. [تنقيح الفصول للقرافي: ص 430].

قال ابن عبد البر رحمه الله : “العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزلُ بها، لأنها لا تتبين مواقع الحجة ولا تصل إلى علم ذلك، ولم تختلف العلماء أنهم المرادون بقول الله عز وجل {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}، وأجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره ممن يثق بمَيْزه بالقبلة إذا أشكلت عليه، فكذلك مَن لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به لا بد له من تقليد عالمه”. [جامع بيان العلم: 2/ 988، وفي طبعة أخرى: 2/ 230].

وقال: “من قلد فيما ينزل به من أحكام الشريعة لا بد له من تقليد عالمه فيما جهل، لإجماع المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القِبلة“. [جامع بيان العلم: 2/ 995، وفي طبعة أخرى: 2/ 235].

قال الباجي: “يجب عند مالك على العامي ـ إذا أراد أن يستفتي ـ ضربٌ من الاجتهاد، وهو أن يقصِدَ إلى أهل ذلك العلم الذي يريد أن يسأل عنه ولا يسألَ جميع من يلقاه، ولكنه إذا أرشِد إلى فقيه نظر إلى هيئته وحِذقه وصنعته وسأل عن مبلغ علمه وأمانته، فمن كان أعلى رتبة في ذلك استفتاه وقبِل قوله وفتواه، لأن هذا أوفق لدينه وأحوط لما يقـْدِم عليه من أمر شريعته”. [الإشارة في أصول الفقه: ص 18].

قوله هنا “ولا يسأل جميع من يلقاه”: مراده ولا يسأل كل من يلقاه.

قال الماوردي المتوفى سنة 450 عن التقليد في الأحكام الشرعية: “التقليد مختلف باختلاف أحوال الناس من فَهْم آلة الاجتهاد المؤدي إليه أو عدمه، لأن طلب العلم من فروض الكفاية، ولو مُنع جميع الناس من التقليد وكُلفوا الاجتهادَ لتعينَ فرض العلم على الكافة، وفي هذا اختلال نظام وفساد، ولو جاز لجميعهم التقليد لبطل الاجتهاد وسقط فرض العلم، فلذلك وجب الاجتهاد على من تقع به كفاية ليكون الباقون تبعا ومقلدين، قال الله تعالى {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}، فلم يسقِط الاجتهادَ عن جميعهم ولا أمر به كافتهم”. [الحاوي للماوردي: 1/ 20 ـ 21].

قال أبو المظفر السمعاني رحمه الله رحمة واسعة: “لا يقلد العاميُّ إلا بعد أن يجتهد في أعيان الفقهاء، ذكرَ هذا أبو العباس بن سُريج والقفال، وقد ذكر بعض أصحابنا أنه يجوز له تقليد من شاء من العلماء من غير أن يجتهد في أعيانهم وزعم أن في تكليفه الاجتهادَ في الأحكام مشقة، ونحن نقول: إنه ليس عليه في هذا كبير مشقة، ولا ينقطع بإيجابه عليه عن سائر مصالحه في أمر معايشه وأسبابه، ويحصل له بذلك نوع ظن، فإذا كان يحْصل له ذلك من غير مشقة فيجب عليه تحصيله كما يجب على الإمام الاجتهاد في سائر الحوادث والنوازل، وعندي أن هذا أولى”. [قواطع الأدلة: 2/ 345 ـ 346].

ثم قال: “المستفتي لا يجوز له أن يستفتي من شاء على الإطلاق، لأنه ربما يستفتي من لا يعرف الفقه، بل يجب أن يتعرف حال الفقيه في الفقه والأمانة، ويكفيه في ذلك خبر العدل الواحد، فإذا عرَف أنه فقيه نظر: فإن كان وحده قلده، وإن كان هناك غيره فهل يجب عليه الاجتهاد؟، فيه وجهان: فمِن أصحابنا من قال يقلد من شاء منهم، وقال أبو العباس والقفال يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين”. [قواطع الأدلة: 2/ 357].

[أبو العباس بن سريج هو الفقيه الشافعي الكبير أحمد بن عمر بن سريج المتوفى سنة 306. القفال هو عبد الله بن أحمد بن عبد الله القفال الصغير المروَزي المتوفى سنة 417].

قال الفقيه الحنفي أبو بكر الرازي الجصاص: “إذا ابتلِي العامي الذي ليس من أهل الاجتهاد بنازلة فعليه مساءلة أهل العلم عنها، وذلك لقول الله تعالى {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}، وقال تعالى {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}، فأمَر من لا يعلم بقبول قول أهل العلم فيما كان من أمر دينهم من النوازل، وعلى ذلك نصَّت الأمة من لدن الصدر الأول ثم التابعين إلى يومنا هذا، إنما يفزع العامة إلى علمائها في حوادث أمر دينها”. [الفصول في الأصول: 4/ 281].

وقال: “فإذ قد ثبت أن على العامي مسألةَ أهل العلم بذلك فليس يخلو إذا كان عليه ذلك من أن يكون له أن يسأل مَن شاء منهم أو أن يجتهد فيسألَ أوثقهم في نفسه وأعلمهم عنده، فقال بعض أهل العلم له أن يسأل من شاء منهم من غير اجتهاد في أوثقهم في نفسه وأعلمِهم عنده، وقال آخرون لا يجوز له الإقدام على مسألةِ مَن شاء منهم إلا بعد الاجتهاد منه في حالهم ثم يقلد أوثقهم لديه وأعلمهم عنده، فإن تساوَوا عنده أخذ بقول من شاء منهم، وهذا القول هو الصحيح عندنا، وذلك لأن عليه الاحتياطَ لدينه وهو قد يمكنه الاجتهاد في تغليب الأفضل والأعلم في ظنه وأوثقِهم في نفسه، فغير جائز إذا أمكنه الاحتياطُ بمثله أن يعدل عنه فيقلد بغير اجتهاد منه إذ كان له هذا الضرب من الاجتهاد”. [الفصول في الأصول: 4/ 282].

وقال: “العامي ينبغي له الاجتهاد فيمن يقلده إذ كان في وُسعه الاجتهادُ في التمييز بين الرجال”. [الفصول في الأصول: 4/ 281].

قال أبو المظفر السمعاني: “إن استفتى رجلين نظر في الجواب: فإن اتفقا في الجواب عمل بما قالا، وإن اختلفا فأفتاه أحدهما بالحظر والآخر بالإباحة فاختلف فيه أصحابنا على ثلاثة أوجه: منهم من قال يأخذ بما شاء منهما، ومنهم من قال يجتهد فيمن يأخذ بقوله منهما، ومنهم من قال يأخذ بأغلظ الجوابين، لأن الحق ثقيل، والأوْلى أن يُقال يجتهد فيمن يأخذ بقوله منهما، وأما الذي قال إنه يأخذ بأغلظ الجوابين فقد يكون الحق في أخف الجوابين، قال الله تعالى {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}”. [قواطع الأدلة: 2/ 357].

قال الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463 رحمه الله في كتاب الفقيه والمتفقه: [المستفتي إذا لم يمكنه الجمعُ بين وجهي الخلاف من المفتين لتنافيهما مثل أن يكون أحدهما يحل ويبيح والآخرُ يحرِّم ويحظـُر: فقد قيل يلزمه أن يأخذ بأغلظ القولين وأشده، لأن الحق ثقيل،/ وقيل يأخذ بأسهل القولين وأيسر الأمرين،/ وقيل يأخذ بفتوى أفضلهما عنده في الدين والعلم وأورعهما ويلزمه الاجتهادُ في تعرف ذلك من حالهما،/ قال أبوعبد الله الزبير بن أحمد الزبيري: “إن قال قائل: كيف تقول في المستفتي من العامة إذا أفتاه الرجلان واختلفا فهل له التقليد؟. قيل له إن شاء الله: هذا على وجهين: أحدهما: إن كان العامي يتسع عقله ويكْمُل فهمه إذا عُقـِّل أن يعقل وإذا فـُهِّم أن يفهم فعليه أن يسأل المختلفين في مذاهبهم عن حُججهم فيأخذَ بأرجحها عنده، وإن كان عقله ينقص عن هذا وفهْمُه لا يكمُل له وَسِعَه التقليدُ لأفضلهما عنده”. وقيل يأخذ بقول من شاء من المفتين، وهو القول الصحيح، لأنه ليس من أهل الاجتهاد، وإنما عليه أن يرجع إلى قول عالم ثقة وقد فعل ذلك، فوجب أن يكفيه]. [2/ 428 ـ 432. وفي طبعة أخرى: 2/ 99 ـ 101].

أقول:

يبدو أن ما رجحه الخطيب البغدادي من أن المستفتي المقلد يأخذ بقول من شاء من المفتين مرجوح، وأنه إذا كان المقلد على درجة من حسن الفهم فعليه الاجتهاد في أعيان المفتين ليعمل بقول أوثقهم في نفسه، لأنه قد يمنعه من الأخذ بفتوى أوثقهم في نفسه اتباعُ الهوى، وهو منهي عنه.

بل نقلَ ابن تيمية في المسودة عن الفقيه الحنفي أبي الحسين القدوري المتوفى سنة 428 رحمهما الله أنه قال: “المقلد إذا غلب على ظنه أن بعض المسائل على مذهب فقيهٍ غيرِ الفقيه الذي يقلده أقوى فعليه أن يقلد فيها ذلك الفقيه”. [المسودة: ص 512].

وفي كلام الزركشي ما يؤكد أن القدوري رحمه الله يقول بهذا، فقد قال في البحر المحيط في كلامه عن المقلد: إذا قلنا له أن يجتهد في أعيان المفتين، هل له أن يجتهد في أعيان المسائل التي يقلد فيها بحيث إذا غلب على ظنه أن بعض المسائل على مذهب فقيه أقوى وجبَ عليه تقليده؟. اختلف جواب القاضي أبي الطيب والقدوري، فأوجبه القدوري.

* ـ هل يجوز للمقلد الموازنةُ بين المجتهدين والترجيح بين أقوالهم؟:

المقلد إذا كان عاميا صِرفا فلا اعتداد بظنه أصلا، فقد قال الفقيه الحنفي ابن الهمام رحمه الله في فتح القدير: “العامي لا عبرة بما يقع في قلبه من صواب الحكم وخطئه، ولو أخذ بقول الذي لا يميل إليه قلبه جاز، لأن ميله وعدمه سواء”. [فتح القدير شرح الهداية: 7/ 257].

قال الفقيه الحنفي محمد بن حمزة ابن الفَنَري المتوفى سنة 834 رحمه الله: “أما المقلد فلا اعتداد بظنه”. [فصول البدائع في أصول الشرائع لابن الفنري: 2/ 328]. ثم قال: “ظن المقلد لا عبرة به، ولا يعارض ظنَّ المجتهد ليُعتبر ترجيحه”. [فصول البدائع: 2/ 491].

قال الفقيه الشافعي المعمَّر أبو الطيب الطبري المتوفى سنة 450 رحمه الله: “ليس للعامي استحسان الأحكام فيما اختلف فيه الفقهاء، ولا أن يقول قولُ فلان أقوى من قول فلان، ولا حكْمَ لما يغلب على ظنه ولا اعتبار به”. هكذا نقله عنه ابن تيمية في المسودة والزركشي في البحر المحيط مع الإقرار. [المُسَوَّدة في أصول الفقه لآل تيمية: ص 518. البحر المحيط للزركشي: 8/ 366، وفي طبعة أخرى: 4/ 591].

أقول:

أما مسألة الترجيح بين مراتب المجتهدين والموازنة بين أقوالهم فلا شك في أنه ليس لغير المجتهد أن يقول قولُ فلان أقوى من قول فلان، إذ ليس من المعقول أن يخوض إنسان لا إلمام له بعلم من العلوم في الترجيح بين مراتب العلماء من أهل ذلك العلم، ولا في الموازنة بين أقوالهم واستدلالاتهم.

* ـ هل يجوز الاحتجاج بقول العالم المجتهد؟ وهل قول المجتهد صواب كله؟:

قال أبوشامة رحمه الله: “لا يجوز لأحد أن يحتج بقول المجتهد، لأن المجتهد يخطئ ويصيب”. [المؤمل للرد إلى الأمر الأول: 1/ 99 ـ 100].

أقول:

هذا ملحظ مهم جدا، وفيه ينبه أبوشامة رحمه الله إلى أن المقلد وإن وجب عليه العمل بقول المجتهد فإنه لا يجوز له أن يجعله هو الحجة، لأن الحجة هي في قول الله تبارك وتعالى وقول نبيه صلى الله عليه وسلم وما تفرع عنهما، والمجتهد يبذل جهده ليصل للحكم الشرعي استنادا لتلك الحجج، فقد يصيب في كثير من المسائل وقد لا يصيب في بعضها، كما لا يجوز للمقلد كذلك ـ من باب أولى ـ أن يجعل قول مجتهد حجة يحتج بها على غيره من المجتهدين، وهنالك فرق بين وجوب العمل بقول المجتهد وبين اتخاذه حجة على مجتهد آخر.

قال الفقيه الشافعي الخطيب البغدادي في كتاب الفقيه والمتفقه: “المجتهد بين الإصابة والخطأ”. [الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي: 2/ 117].

قال الفقيه الشافعي أبو إسحاق الشيرازي المتوفى سنة 476 في كتابه التبصرة: “الحق من قول المجتهدين في الفروع واحد، وعلى ذلك دليل يجب طلبه وإصابته، وما سواه باطل، وهو قول أبي إسحاق الإسفراييني، وذهب بعض أصحابنا إلى أن الحق في واحد ولم نُكلف إصابتَه وإنما كُلفنا الاجتهاد في طلبه”. [التبصرة: ص 498].

قال الفقيه المالكي الباجي في كتابه الإشارة: “مذهب مالك أن الحق واحد من أقاويل المجتهدين”. [الإشارة في أصول الفقه: ص 35].

قال الفقيه الحنفي فخر الإسلام البزدوي المتوفى سنة 482 في كتابه في الأصول والفقيه الحنفي السرخسي المتوفى سنة 483 في كتابه في الأصول والفقيه الحنفي علاء الدين السمرقندي المتوفى سنة 539: “المجتهد يخطئ ويصيب”.

قال ابن عبد البر: “القول لا يصح لفضل قائله، وإنما يصح بدلالة الدليل عليه“. [جامع بيان العلم لابن عبد البر: 2/ 994، وفي طبعة أخرى: 2/ 235].

– نقل ابن عبد البر عن يحيى ابن مُزَيْن عن عيسى بن دينار عن ابن القاسم عن الإمام مالك المتوفى سنة 179 رحمه الله أنه قال: “ليس كلما قال رجل قولا ـ وإن كان له فضل ـ يُتَّبع عليه، يقول الله تعالى {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}”. [جامع بيان العلم: 2/ 995، وفي طبعة أخرى: 2/ 235].

[يحيى ابن مُزَين هو يحيى بن إبراهيم بن مُزَيْن نزيل قرطبة فقيه صدوق ثقة مات سنة 259. عيسى بن دينار بن واقد نزيل قرطبة فقيه صدوق مات سنة 212. عبد الرحمن بن القاسم العُتَقِي مصري فقيه صدوق ثقة مات سنة 191].

ـ فائدة:

قال تاج الدين السبكي رحمه الله في كتاب الأشباه والنظائر: ليس الخروج من الخلاف أولى مطلقا، بل بشرطين: أحدهما: أن لا يؤدي الخروج منه إلى محذور شرعي من ترك سنة ثابتة أو اقتحام أمر مكروه أو نحو ذلك، الشرط الثاني: أن يقْوى مدرك الخلاف، فإن ضعُف ونأى عن مأخذ الشرع كان معدودا من الهفوات والسقطات، لا من الخلافيات المجتهَدات، ولا نظر إلى القائلين من المجتهدين، بل إلى أقوالهم ومداركها قوة وضعفا، فمن قوي مدركه اعتُد بخلافه وإن كانت مرتبته في الاجتهاد دون مرتبة مخالفه، ومن ضعُف مدركه لم يُعتدَّ بخلافه وإن كانت مرتبته أرفع، وربما قوي مدرك بعضهم في بعض المسائل دون بعض، بل هذا لا يخلو عنه مجتهد. [1/ 112].

أقول: رحم الله الإمام تاج الدين السبكي رحمة واسعة.

* ـ هل يأثم المجتهد فيما أخطأ فيه بعد بذل جهده واستفراغ وُسْعه؟:

قال الفقيه الحنفي صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود المحبوبي المتوفى سنة 747 رحمه الله في كتابه تنقيح الأصول: “المخطئ في الاجتهاد لا يُعاقب، إلا أن يكون طريق الصواب بيِّنا”.

قال سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني المتوفى سنة 792 رحمه الله في حاشيته عليه المسماة بالتلويح: “المخطئ في الاجتهاد لا يُعاقب ولا يُنسب إلى الضلال، بل يكون معذورا ومأجورا، إذ ليس عليه إلا بذل الوُسْع، وقد فعل، فلم ينل الحقَّ لخفاء دليله، إلا أن يكون الدليل الموصل إلى الصواب بيِّنا فأخطأ المجتهد لتقصير منه وتركِ مبالغة في الاجتهاد، فإنه يُعاقب، وما نُقل من طعن السلف بعضهم على بعض في مسائلهم الاجتهادية كان مبنيا على أن طريق الصواب بيِّن في زعم الطاعن”. [تنقيح الأصول للمحبوبي والتوضيح في حل غوامض التنقيح له والتلويح في كشف حقائق التنقيح لسعد الدين التفتازاني: 2/ 121، وفي طبعة أخرى: 2/ 253].

أقول:

يتساهل بعض الناس في إطلاق القول في بعض المسائل الدينية دون استفراغ الوُسع في البحث والتمحيص، فتقع منهم أخطاء شرعية مخالفة لما في الكتاب والسنة الثابتة، سواء كان القول في العقيدة أو في الفقه أو في السلوك، وقد يُظن أن الإثم مرفوع عن المجتهد بإطلاق، لما رواه الشيخان عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر”. وهذا صحيح إذا صدر الحكم ممن بلغ رتبة الاجتهاد واستفرغ وُسعه في البحث والتمحيص.

أما الذي لم يكن كذلك فهو داخل في الحديث الصحيح الآخر الذي رواه النسائي في السنن الكبرى وأبو داود وابن ماجه وغيرهم عن بُريدة بن الحُصَيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “القضاة ثلاثة، اثنان في النار وواحد في الجنة، رجلٌ عرَف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرَف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس عن جهل فهو في النار”.

* ـ اشتراط بلوغ مرتبة الاجتهاد في منصب الإفتاء والقضاء والإمامة العظمى:

أكثر الفقهاء على أن الاجتهاد شرط من شروط تولي منصب الإفتاء ومنصب القضاء ومنصب الإمامة العظمى.

ـ فأما في منصب الإفتاء فهذه بعض نصوص العلماء في ذلك:

قال الغزالي في مبحث شروط المفتي: “العالم الذي لم يبلغ رتبة الاجتهاد كالعامي في أنه لا يجوز تقليده، على الصحيح”. [الوجيز المطبوع مع شرحه فتح العزيز: 12/ 420].

قال الفقيه الشافعي أحمد بن محمد بن علي ابن الرفعة المتوفى سنة 710 رحمه الله: “المفتي من اتصف بالعدالة المعتبرة في الرواية وأهلية الاجتهاد في الأحكام الشرعية”. [كفاية النبيه: 18/ 135].

قال الفقيه الحنفي كمال الدين بن الهمام المتوفى سنة 861 رحمه الله في فتح القدير: “استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد، وأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفتٍ، والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد على جهة الحكاية، فعُرف أن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى، بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي“. [فتح القدير شرح كتاب الهداية: 7/ 256].

ـ وأما في منصب القضاء فهذه بعض نصوص العلماء في ذلك:

قال الفقيه الحنفي الإمام أبو جعفر الطحاوي المتوفى سنة 321 رحمه الله وهو يتحدث عن الإمام الذي يولي القاضي: “لا ينبغي له أن يولي القضاءَ إلا الموثوقَ به في عفافه وعقله وصلاحه وفهمه وعلمه بالسنة والآثار ووجوه الفقه، ولا يولي صاحبَ رأي ليس له علم بالسنة والأحاديث ولا صاحبَ حديث ليس له علم بالفقه“. [مختصر الطحاوي مع شرحه للجصاص: 8/ 60 ـ 61].

قال الفقيه الحنفي أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد القدوري المتوفى سنة 428 رحمه الله في التجريد: [قال محمد بن الحسن رحمه الله في الأصل: “لا ينبغي أن يستعمل على القضاء إلا الموثوق به في عفافه وصلاحه وفهمه وعلمه بالسنة والآثار ووجوه الفقه التي يُؤخذ منها الكلام، فإنه لا يستقيم أن يكون صاحبَ فقه ليس له علم بالسنة والأحاديث ولا صاحبَ حديث ليس له علم بالفقه”. وهذا نص منه على أن المقلد لا يجوز أن يُولى القضاء، وبذلك قال الشافعي رحمه الله، ومن أصحابنا من قال: يجوز أن يكون المقلد قاضيا يقضي بالتقليد]. [التجريد للقدوري: 12/ 6527].

قال الفقيه الحنفي علي بن أبي بكر المرغيناني المتوفى سنة 593 رحمه الله في بداية المبتدي: “لا تصح ولاية القاضي حتى يجتمعَ في المولـَّى شرائط الشهادة ويكونَ من أهل الاجتهاد”. لكنه نقض ذلك في شرحه المسمى بالهداية فقال: “الصحيح أن أهلية الاجتهاد شرط الأولوية”. [7/ 252، 256، بداية المبتدي المطبوع مع الهداية لصاحب المتن والعناية للبابرتي].

قال الفقيه الشافعي محيي السنة البغوي: “يُشترط أن يكون القاضي مجتهدا”. [التهذيب في فقه الإمام الشافعي: 8/ 167]. ثم قال: “فإن لم يكن ممن يعرف الدليل ويعقل القياس فلا يجوز أن يكون قاضيا، ولا يجوز للإمام أن يقلد رجلا القضاء على أن يحكم بمذهبٍ بعينه، لقوله تعالى {فاحكم بيننا بالحق}، والحق ما دل عليه الدليل، فإن قلده على هذا الشرط لم تصحَّ التولية“. [التهذيب في فقه الإمام الشافعي: 8/ 181].

وقال البغوي: “بالاتفاق لا يجوز أن يقلد فيفتي، كذلك لا يجوز أن يقضي بالتقليد”. [التهذيب في فقه الإمام الشافعي: 8/ 168].

قال العلامة شيخ المالكية القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر المتوفى سنة 422 رحمه الله في كتابه التلقين: “لا يُستقضى إلا فقيه من أهل الاجتهاد، لا عامي مقلد”. [التلقين: 2/ 209].

قال الفقيه المالكي عبد العزيز بن إبراهيم المعروف بابن بَزيزة المتوفى سنة 662 رحمه الله في شرح التلقين: [لا يجوز أن يكون القاضي عاميا عندنا، والمعتمد لنا قوله سبحانه {لتحكم بين الناس بما أراك الله}، وذلك لا يُتصور إلا في أهل الاجتهاد، وقال سبحانه {فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى}، والعامي لا يعرف الحق من الباطل، فلذلك أوجبنا أن يكون فقيها، واشترط القاضي أن يكون من أهل الاجتهاد، وقد اختلف فقهاؤنا هل اشتراط كونه من أهل الاجتهاد واجب أو مستحب، والذي عول عليه القاضي في كتبه كلها أنه شرْط وجوب، قال في شرح الرسالة والمعونة وغيرهما “يجب أن يكون من أهل الاجتهاد عارفا بالكتاب والسنة وطريق الاجتهاد وترتيب الأدلة وكيفية النظر فيها وتخريج الفروع على الأصول”]. [روضة المستبين في شرح كتاب التلقين: 2/ 1353 ـ 1354]. والقاضي هنا هو القاضي عبد الوهاب.

ذكر الفقيه المالكي عثمان بن عمر ابن الحاجب المتوفى سنة 646 رحمه الله في المختصر الفرعي في شروط القاضي أن يكون مجتهدا، فقال الشيخ خليل في شرحه المسمى بالتوضيح: “إن لم يوجد مجتهد فمقلد، فلا تُترك ولاية القضاء عند عدم الاجتهاد، لئلا يؤدي إلى الهرْج وإبطال الحقوق، ولأن إنصاف المظلوم من الظالم واجب، وهو ممكن من المقلد، وقال ابن راشد وابن عبد السلام: إلا أنه ينبغي أن يُختار أعلمُ المقلدين ممن له فقه نفس وقدرة على الترجيح بين أقاويل أهل مذهبه“. [التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب: 7/ 390]. [ابن راشد هو شارح مختصر ابن عرفة الفقهي محمد بن عبد الله بن راشد القفصي المتوفى سنة 736. ابن عبد السلام ـ عند المالكية ـ هو شارح مختصر ابن عرفة الفقهي محمد بن عبد السلام بن يوسف التونسي المتوفى سنة 749].

قال ابن الرفعة في مبحث شروط القاضي: “أن يكون عالما بالأحكام الشرعية بطريق الاجتهاد، لا بطريق التقليد، لقوله تعالى {ولا تقفُ ما ليس لك به علم}، والمقلد لو قيل بصحة توليته لكان إذا استُفتي وحكم قافِيًا ما ليس له به علم، لأنه لا يدري طريق ذلك الحكم، ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة “ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار”، والتقليد لا يخرجه عن أن يكون قاضيا قضاء على جهل، لأنه لا يعرف طريقه، ولأن المقلد لا يجوز أن يكون مفتيا فأولى أن لا يكون قاضيا”. [كفاية النبيه: 18/ 69]. قفا الشيءَ أو الأثرَ يقْفوه: تبِعَه.

قال الفقيه الحنبلي ابن قدامة المتوفى سنة 620 في كتابه المغني: “يُشترط في القاضي أن يكون من أهل الاجتهاد، وبهذا قال مالك والشافعي وبعض الحنفية، وقال بعضهم يجوز أن يكون عاميا فيحكم بالتقليد”. [المغني: 14/ 14].

قال الفقيه الشافعي الماوردي في الأحكام السلطانية: “جوَّز أبو حنيفة تقليد القضاء مَن ليس من أهل الاجتهاد ليستفتيَ في أحكامه وقضاياه، والذي عليه جمهور الفقهاء أن ولايته باطلة وأحكامَه مردودة”. [الأحكام السلطانية للماوردي: ص 113 ـ 114]. هكذا نقل الماوردي عن أبي حنيفة رحمه الله، ولم أجد عنه نقلا في كتب الحنفية في هذه المسألة.

قال الغزالي رحمه الله في الوجيز في الصفات المشترطة في القاضي: “لا بد أن يكونَ مجتهدا، فلا يجوز قضاء المقلد، بل ينبغي أن يستقل بالاجتهاد، والذي يجتهد في مذهب أحد الأئمة له الفتوى على وجه، ويكونُ مقلدا للإمام الميت، ولا ينتصب للقضاء، هذا هو الأصل، فإن تعذرت الشروط وغلب على الولايات متغلبون فسقة فكل من ولاه صاحب شوكة نفَذ حكمُه، للضرورة“. [كتاب الوجيز المطبوع مع فتح العزيز: 12/ 415].

وقال في الوسيط: “هذه الشروط أطلقها أصحابنا، وقد تعذرت في عصرنا، لأن مصدر الولايات خالٍ عن هذه الصفات، وقد خلا العصر أيضا عن المجتهد المستقل، والوجهُ: القطعُ بتنفيذ قضاءِ من ولاه السلطان ذو الشوكة، كيلا تتعطل مصالح الخلق، نعم، يعصي السلطانُ بتفويضه إلى الفاسق والجاهل، ولكن بعد أن ولاه فلا بد من تنفيذ أحكامه، للضرورة”. [الوسيط: 7/ 291]. ووافقه الرافعي في كتاب العزيز، ونقل كلامه المذكور في الوسيط وقال: إنه حسن. [فتح العزيز شرح الوجيز: 12/ 418].

أقول:

أي لا يصح أن يُقال بعدم نفوذ أحكام القاضي الموافقة للأدلة الشرعية بسبب فقده لبعض الشروط التي كان يجب أن تكون فيه، وهذا في غاية الأهمية، لأن بعض الفقهاء أطلق القول بعدم نفوذ أحكامه إذا كان فاسقا أو ليس من أهل الاجتهاد، وهذا الإطلاق غير صحيح، لأن الغاية من نصب القاضي هي إيصال الحقوق لأربابها، فإذا قضى القاضي ـ وهو فاسق أو جاهل ـ لصاحب الحق بما يجب أن يقضي به فلا شك في جواز أن يأخذ صاحب الحق حقه الذي قضى له به، وأما إذا قضى مثلُ ذلك القاضي للمدعي بما لا يستحقه ـ ظلما أو جهلا ـ فلا شك في عدم نفوذ حكمه وفي حرمةِ أخذ المدعي ما قضى له ذلك القاضي به.

فإن قيل: كيف يعرف المدَّعي أن القاضي الفاسق أو الجاهل قد قضى له على وَفق الأدلة الشرعية وأن أخذه لما قضى له به جائز؟!. فالجواب أن معرفة ذلك تكون بسؤال بعض أهل العلم ممن له رتبة الاجتهاد في تلك المسألة، فإن لم يجد فيسأل أقرب المقلدين إلى بلوغ تلك الرتبة.

ويجب التفريق بين جواز تولية الإمام للمقلد منصبَ القضاء وبين نفوذ حكمه إذا وقعت توليته، فلا يجوز للإمام ـ وهذا إذا كان هو من أهل العدالة والاجتهاد أصلا ـ أن يولي منصبَ القضاء مقلدا أو أن يولي عالما بشرطِ أن يقضي بمذهب إمام بعينه، ولكن إذا وقع ذلك نفَذ ما وافق الحقَّ من أحكامه، للضرورة.

ـ لا بد من الإشارة هنا إلى أن الفقهاء نصوا على أن فتوى المفتي وقضاء القاضي يجب قبولهما إلا في عدد من الحالات، وهي أنها تُرد إذا خالفت آيةً من كتاب الله عز وجل صريحةً واضحة في الدلالة على الحكم، أو سنةً ثابتة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم صريحة واضحة كذلك، أو إجماعَ الأمة، أو قياسا واضحا جليا على نص من نصوص الكتاب والسنة، أو قاعدةً من القواعد الشرعية المعتبرة، وبشرط أن لا يكون أيٌّ من هذه المذكورات قد عارضه ما هو أقوى منه.

وقد لخصها القرافي في كتاب الذخيرة حيث قال: قال جماعة من العلماء: “ضابط ما يُنقض من قضاء القاضي أربعة في جميع المذاهب: ما خالف الإجماع أو النص أو القياسَ الجليين أو القواعد، مع سلامة جميع ذلك عن المعارض الراجح”.

ـ وأما في منصب الإمامة العظمى فهذه بعض نصوص العلماء في ذلك:

قال الفقيه الشافعي الإمام البغوي: “من يُنصب للإمامة ينبغي أن يكون عالما مجتهدا يهتدي إلى الأحكام ويعلمها الناس”. [التهذيب في فقه الإمام الشافعي: 7/ 264].

قال القاضي عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي الشافعي المتوفى سنة 756 في كتابه المواقف: “الجمهور على أن أهل الإمامة مجتهد في الأصول والفروع ليقوم بأمور الدين، ذو رأي ليقوم بأمور المُلك”. [المواقف المطبوع مع شرح الشريف الجرجاني: 3/ 585].

قال الفقيه المالكي الإمام الشاطبي الأصولي إبراهيم بن موسى المتوفى سنة 790 رحمه الله في كتاب الاعتصام: “العلماء نقلوا الاتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع، كما أنهم اتفقوا أيضا ـ أو كادوا أن يتفقوا ـ على أن القضاء بين الناس لا يحصل إلا لمن رقِيَ رتبة الاجتهاد، وهذا صحيح على الجملة، ولكن إذا فـُرِض خلو الزمان عن مجتهد يظهر بين الناس وافتقروا إلى إمام يقدمونه لجريان الأحكام وتسكين ثورة الثائرين والحياطة على دماء المسلمين وأموالهم فلا بد من إقامة الأمثل ممن ليس بمجتهد“. [الاعتصام: 3/ 31، وفي طبعة أخرى: 2/ 624].

* ـ أسماء بعض العلماء الذين وُصفوا بالاجتهاد:

ـ الفقيه المالكي القاضي إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد المتوفى سنة 282: قال القاضي عياض في ترتيب المدارك: قال القاضي أبو الوليد الباجي وذكر من بلغ درجة الاجتهاد: لم تحصل هذه الدرجة بعد مالك إلا لإسماعيل القاضي.

ـ قال تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية: محمد بن إبراهيم بن المنذر الإمام أبوبكر النيسابوري نزيل مكة، أحد أعلام هذه الأمة وأحبارها، كان إماما مجتهدا حافظا، قال شيخنا الذهبي: كان مجتهدا لا يقلد أحدا.

ثم قال السبكي: المحمدون الأربعة محمد بن نصر ومحمد بن جرير وابن خزيمة وابن المنذر من أصحابنا قد بلغوا درجة الاجتهاد المطلق. [محمد بن نصر المرْوزي المتوفى سنة 294، تفقه على أصحاب الشافعي بمصر. محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310، أخذ الفقه عن الزعفراني والربيعِ المرادي وهما من تلاميذ الشافعي. محمد بن إسحاق بن خزيمة المتوفى سنة 311، أخذ الفقه عن المزني والربيع وهما من تلاميذ الشافعي. محمد بن إبراهيم بن المنذر المتوفى سنة 318، أخذ عن أصحاب الشافعي، ونقل الذهبي في سير أعلام النبلاء عن النووي أنه قال فيه: “هو في نهاية من التمكن من معرفة الحديث، وله اختيار، فلا يتقيد في الاختيار بمذهب بعينه، بل يدور مع ظهور الدليل”].

ـ قال الزركشي: قال القفال والشيخ أبو علي والقاضي الحسين: لسنا مقلدين للشافعي، بل وافق رأينا رأيه. [البحر المحيط: 8/ 241]. [القفال هو عبد الله بن أحمد بن عبد الله المروزي المتوفى سنة 417، والشيخ أبو علي هو الحسين بن شعيب السنجي المتوفى سنة 427، والقاضي الحسين هو الحسين بن محمد المَرْوَالرُّوذي أو المَرُّوذي المتوفى سنة 462، وهؤلاء الثلاثة من فقهاء الشافعية، وهم من المجتهدين].

ـ قال القاضي عياض في وصف الفقيه المالكي الإمام المازَري المتوفى سنة 536 في كتابه الغنية: إمام بلاد إفريقية وما وراءها من المغرب، وآخِر المستقلين من شيوخ إفريقية بتحقيق الفقه ورتبة الاجتهاد ودقة النظر. [الغنية: ص 65].

ـ أبو شامة شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل المتوفى سنة 665: نقل ابن كثير في البداية والنهاية عن الشيخ تاج الدين الفزاري ابن الفركاح أن أبا شامة بلغ رتبة الاجتهاد، ووصفه الذهبيُّ في تذكرة الحفاظ والسيوطي في طبقات الحفاظ كذلك بالإمام المجتهد.

ـ قال السبكي في طبقات الشافعية: قال أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي: لم أدرك فيمن رأيت وحضرت من العلماء على اختلاف مذاهبهم من كمُلت له شرائط الاجتهاد المطلق إلا ثلاثة، أبا يعلى ابن الفراء وأبا الفضل الهمداني الفرضي وأبا نصر بن الصباغ. [أبو يعلى بن الفراء هو القاضي أبو يعلى، الفقيه الحنبلي شيخ الحنابلة محمد بن الحسين بن محمد بن خلف، المتوفى سنة 458. أبو الفضل الهمداني الفرضي هو الفقيه الشافعي عبد الملك بن إبراهيم بن أحمد المعروف بالمقدسي المتوفى سنة 489. ابن الصباغ هو الفقيه الشافعي أبو نصر عبد السيد بن محمد المتوفى سنة 477].

ـ الفقيه الشافعي أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الإسفَراييني المتوفى سنة 418: وصفه الذهبي في تاريخ الإسلام وأبو سعد السمعاني في الأنساب بأنه بلغ رتبة الاجتهاد.

قال اللبلي في الفهرس: قال الإمام محدث الشام أبو القاسم بن عساكر: كتب إلي الشيخ أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي قال: “إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الأستاذ الإمام أبو إسحاق الإسفَراييني أحد من بلغ حد الاجتهاد”.

ـ الفقيه المالكي أبو بكر بن العربي المعافري محمد بن عبد الله بن محمد المتوفى سنة 543: وصفه الذهبي في تاريخ الإسلام بأنه بلغ رتبة الاجتهاد.

ـ قال الزركشي في البحر المحيط ومحمد بن موسى الدميري المتوفى سنة 808 في النجم الوهاج وأحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي المتوفى سنة 974 في تحفة المحتاج: “لم يختلف اثنان أن ابن عبد السلام بلغ رتبة الاجتهاد وكذلك ابن دقيق العيد، كما قاله ابن الرفعة”. [البحر المحيط: 8/ 241 ـ 242. النجم الوهاج: 10/ 149. تحفة المحتاج: 10/ 109]. [ابن عبد السلام هو الفقيه الشافعي عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام المتوفى سنة 660، وابن دقيق العيد هو الفقيه المالكي ثم الشافعي محمد بن علي بن وهب المتوفى سنة 702].

ووصف الإمامُ الذهبي العزَّ بنَ عبد السلام في كتابه تاريخ الإسلام بأنه شيخ الإسلام وأنه بلغ رتبة الاجتهاد، ووصف تقيَّ الدين بن دقيق العيد في كتابه تذكرة الحفاظ بأنه الفقيه المجتهد وأنه شيخ الإسلام.

ووصف في سير أعلام النبلاء موفقَ الدين عبدَ الله بن أحمد بن محمد بن قدامة صاحب كتاب المغني رحمه الله بالشيخ الإمام القدوة العلامة المجتهد وبشيخ الإسلام، ووصف أبا بكر الرازي أحمد بن علي الحنفي المذهب بالإمام العلامة المفتي المجتهد، ووصف أبا إسحاق الشيرازي بالشيخ الإمام القدوة المجتهد وبشيخ الإسلام.

ـ نقل السيوطي عن الفقيه المالكي ناصر الدين أحمد بن محمد بن منصور المعروف بابن المُنَيـِّر المتوفى سنة 683 أنه قال في أول تفسيره: “المقلد أعمى، والمخصوم أعشى، والمجتهد هو الذي يستبصر إن شاء الله، وقد شاء”. وفسرها السيوطي بقوله: أي وقد شاء الله لي ذلك. [الرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي: ص 101].

ـ الفقيه الشافعي عبد الرحمن بن إبراهيم تاج الدين الفزاري الفركاح المتوفى سنة 690 رحمه الله: وصفه الذهبي في تاريخ الإسلام ومحمد بن شاكر الكتبي في فوات الوَفَيَات بأنه بلغ رتبة الاجتهاد.

ـ نقل السيوطي عن ترشيح التوشيح لتاج الدين السبكي أنه نقل فيه عن الشيخ شهاب الدين بن النقيب صاحب مختصر كفاية النبيه أنه قال: “جلست بمكة بين طائفة من العلماء، فشرعنا نقول لو قدَّر الله تعالى بعد الأئمة الأربعة في هذا الزمان مجتهدا عارفا منهاجَهم أجمعين يركِّب لنفسه مذهبا من الأربعة بعد اعتبار هذه المذاهب المختلفة كلها لازدان الزمان به وانقاد الناس، فاتفق رأينا على أن هذه الرتبة لا تعدو الشيخ تقيَّ الدين السبكي ولا ينتهي لها سواه”. [تقرير الاستناد: ص 55]. [تقي الدين السبكي هو شيخ الإسلام علي بن عبد الكافي المتوفى سنة 756].

ـ قال السيوطي في سرد أسماء بعض من بلغوا درجة الاجتهاد إلى عصره: [عمر بن عبد العزيز، قال الذهبي في العبر إنه بلغ رتبة الاجتهاد، والشافعي سيد المجتهدين، وابن سُريج من كبار المجتهدين، وعدوا على رأس المئة الرابعة أبا الطيب سهل بن محمد الصعلوكي أو الشيخ أبا حامد إمام العراقيين، وكلاهما من المجتهدين، وعدوا على رأس الخامسة الغزالي وهومن المجتهدين كما ذكره ابن الصلاح في فتاويه، وعلى السادسة الرافعي، وعلى السابعة ابن دقيق العيد، وعلى الثامنة البُلقيني، وكلهم موصوف بالاجتهاد، وذكر ابن كثير في تاريخه أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام كان في آخر أمره لا يتقيد بالمذهب بل اتسع نطاقه وأفتى بما أدى إليه اجتهاده، وقال الذهبي في العبر في ترجمته انتهت إليه معرفة المذهب وبلغ رتبة الاجتهاد، ووصفه ابن السبكي في الطبقات بالاجتهاد المطلق، وبعده أبوشامة ووصفه الشيخ تاج الدين الفركاح بأنه مجتهد، ويليه النووي فإن له في شرح المهذب وغيرِه اختياراتٍ من حيث الدليل خارجةً عن المذهب، ولولا أنه بلغ رتبة الاجتهاد لم يفعل ذلك، وبعده ابن دقيق العيد فقد ادعى هو الاجتهاد، وقامت عليه الغوغاء في زمنه بسبب ذلك، ويليه التقي ابن تيمية، وصفه غير واحد بالاجتهاد، ويليه التقي السبكي، فقد وصفه غير واحد في زمانه وبعده بالاجتهاد، ووصفه ولده بالاجتهاد المطلق، ويليه ولده الشيخ تاج الدين، فقد كتب ورقة لنائب الشام في عصره في ضائقة وقعت له فقال في آخرها “أنا اليوم مجتهد الدنيا على الإطلاق، ولا يستطيع أحد أن يرد علي هذه الكلمة”، والرجل مقبول فيما قال عن نفسه، فإن العلماء أدْين وأورع وأخشى لله من أن يتقولوا الباطل، وبعده الشيخ سراج الدين البلقيني، وصفه غير واحد بالاجتهاد، وبعده ولده الشيخ جلال الدين وتلميذه الشيخ ولي الدين العراقي، كلاهما كان لهما أهلية الاجتهاد، وكان في زمنهما العلامة مجد الدين الشيرازي صاحب القاموس ادعى الاجتهاد وصنف في ذلك كتابا سماه الإصعاد إلى رتبة الاجتهاد، وبعده العلامة كمال الدين ابن الهمام، ذُكر عنه أنه ادعى الاجتهاد، وكلامه في شرح الهداية يومئ إلى ذلك]. [تقرير الاستناد: ص 61 ـ 66].

قلت: أكثرُ مَن ذكر السيوطي أنهم بلغوا درجة الاجتهاد هم كذلك، لكن يبدو أن بعضهم لا يستحقون هذه المرتبة، منهم الشيخ جلال الدين البلقيني والشيخ ولي الدين العراقي، والله أعلم.

* ـ دعوى السيوطي أنه بلغ رتبة الاجتهاد:

قال السيوطي رحمه الله بعد أن نقل عن الشهرستاني والزركشي أن الاجتهاد من فروض الكفاية: “هذا الكلام إذا عُرض على أهل العصر شق عليهم جدا، فإنه متى ادُّعِي عندهم ثبوتُ وصف الاجتهاد لأحدٍ موجودٍ الآن ليَسقـُط عنهم الإثمُ والعصيان كبُر ذلك عليهم واستعظموه، وربما عدُّوا هذا القول من الهذيان والخرافات، والسبب في ذلك أن أحدا منهم لا يمكن أن يدَّعيه لنفسه ولا يدعيَه له أحد من خاصته، لخلوه يقينا عن أكثر شروطه”. [تقرير الاستناد للسيوطي: ص 30].

وقال: “كيف يستبعدون ذلك على من خدم العلم نحو ثلاثين سنة؟!، وقد ذكِر في ترجمة القفال أنه كان في أول أمره صناعا صنعة الأقفال ثم اشتغل بالعلم وهو كبير أظنه ابن أربعين ووصل بعد ذلك إلى درجة الاجتهاد”. [تقرير الاستناد: ص 54]. قلت: اشتغل القفال المروزي بالعلم وله ثلاثون سنة وعاش نحوا من تسعين.

ثم قال: “شنع مشنعٌ عليَّ دعوى الاجتهاد بأني أريد أن أعمل مذهبا خامسا!، وربما زادوا أكثر من ذلك، ومثل هذا التشنيع إنما يمشي على عقول العوام ومن جرى مجراهم”. [تقرير الاستناد: ص 69].

قال السيوطي في آخر كتابه إرشاد المهتدين إلى نصرة المجتهدين: “قد منَّ الله علي بانفرادي بالقيام بفرض الاجتهاد في هذا الوقت وحدي على الانفراد، فلله الحمد والمنة”.

أقول:

وددتُ لو كف المشنعون على السيوطي رحمه الله عن تشنيعهم، وليتهم ساعدوه بكتابة الأبحاث المساندة وتعاونوا ليكونوا شركاء في رفع الحرج والإثم عن الأمة، فقد قال الله عز وجل {وتعاونوا على البر والتقوى}.

* ـ غلبة التعصب على المقلدين:

قال أبو الخطاب الكَلْوَذاني في التمهيد: “النظر الصحيح يثمر الحق الذي لا يخالفه إلا معاند، ولهذا نرى الجماعة يرجعون عند إمعان النظر عما كانوا عليه من المذاهب، وإنما لا يتضح الحق لمن قلَّ نظره أو قلد في دينه أو عَدِمَ آلة الاجتهاد”. [التمهيد في أصول الفقه: 3/ 364].

قال الفقيه المالكي شهاب الدين القرافي في كتاب الفروق: [كل شيء أفتى فيه المجتهد فخرجت فتياه فيه على خلاف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي السالم عن المعارض الراجح لا يجوز لمقلده أن ينقله للناس ولا يفتيَ به في دين الله تعالى، فإن هذا الحكم لو حكم به حاكم لنقضناه، وما لا نقره شرعا بعد تقرره بحكم الحاكم أولى أن لا نقره شرعا إذا لم يتأكد، وهذا لم يتأكد، فلا نقره شرعا، والفتيا بغير شرع حرام، فالفتيا بهذا الحكم حرام وإن كان الإمام المجتهد غير عاص به بل مثابا عليه لأنه بذل جهده على حسب ما أمِر به، وقد قال النبي عليه السلام “إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران”، فعلى هذا يجب على أهل العصر تفقد مذاهبهم، فكل ما وجدوه من هذا النوع يحْرُم عليهم الفتيا به، ولا يعْرَى مذهب من المذاهب عنه، لكنه قد يقل وقد يكثر، غير أنه لا يقدر أن يعلم هذا في مذهبه إلا مَن عرف القواعد والقياس الجلي والنص الصريح وعدم المعارض لذلك، وذلك يعتمد تحصيلَ أصول الفقه والتبحرَ في الفقه، فإن القواعد ليست مستوعَبة في أصول الفقه، بل للشريعة قواعد كثيرة جدا عند أئمة الفتوى والفقهاء لا توجد في كتب أصول الفقه أصلا]. [أنوار البروق في أنواء الفروق: 2/ 109 ـ 110].

أقول: رحم الله الشهاب القرافي رحمة واسعة.

قال الفقيه الشافعي عز الدين بن عبد السلام المتوفى سنة 660: [من العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعا ومع هذا يقلده فيه ويترك مَن شهد الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه، جمودًا على تقليد إمامه، بل يتحيَّل لدفع ظواهر الكتاب والسنة ويتأولها بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالا عن مقلـَّده، وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس فإذا ذكِر لأحدهم خلافُ ما وطن نفسه عليه تعجب غاية التعجب، من غير استرواح إلى دليل، بل لِما ألِفه من تقليد إمامه، حتى ظن أن الحق منحصر في مذهب إمامه، ولو تدبره لكان تعجبه من مذهب إمامه أولى من تعجبه من مذهب غيره، فالبحث مع هؤلاء ضائع مفضٍ إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة يجْديها، وما رأيتُ أحدا رجَع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره، بل يصرُّ عليه مع علمه بضعفه وبُعده، فالأوْلى ترْك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجَز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه ولم أهتد إليه، ولا يعلم المسكين أن هذا مقابَل بمثله، ويفْضُل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح، فسبحان الله، ما أكثر مَن أعمى التقليدُ بصره حتى حمله على مثل ما ذكِر!، وأين هذا من مناظرة السلف ومشاورتهم في الأحكام ومسارعتهم إلى اتباع الحق إذا ظهر على لسان الخصم، وقد نقِل عن الشافعي رحمه الله أنه قال: “ما ناظرت أحدا إلا قلت اللهم أجْر الحق على قلبه ولسانه، فإن كان الحق معي اتبعني وإن كان الحق معه اتبعته”]. [قواعد الأحكام: 2/ 135 ـ 136. وفي طبعة أخرى: 2/ 159 ـ 160].

وعلى هذا النهج يقول عصريه الفقيه الشافعي أبوشامة المتوفى سنة 665: “لم يزل علم الفقه كريما يتوارثه الأئمة، معتمدين على الأصلين الكتاب والسنة، مستظهرين بأقوال السلف على ما فيهما من غير تقليد، وكانت تلك الأزمنة مملوءة بالمجتهدين، وكلٌّ صنَّف على ما رأى، وتعقب بعضهم بعضا، مستمدين من الأصلين الكتاب والسنة، وترجيح الراجح من أقوال السلف المختلفة، ولم يزل الأمر على ما وصفتُ إلى أن استقرت المذاهب المدونة، ثم اشتهرت المذاهب الأربعة وهُجر غيرها، فقصُرت همم أتباعهم إلا قليلا منهم، فقلدوا، ولم ينظروا فيما نظر فيه المتقدمون من الاستنباط من الأصلين الكتاب والسنة، بل صارت أقوال أئمتهم بمنزلة الأصلين!، فأخذوها مسلمة مفروغا منها، ففرَّعوا عليها، واستنبطوا منها، ولم يبق لهم نظر إلا فيها، وأعرضوا عن علوم الأصلين، فعُدم المجتهدون، وغلب المقلدون، حتى صاروا ممن يروم رتبة الاجتهاد يعجبون، وله يزدرون، وكثُر التعصب للمذاهب، ثم تفاقم الأمر، حتى صار كثير منهم لا يرون الاشتغال بعلوم القرآن والحديث، ويرون أن ما هم عليه هو الذي ينبغي المواظبة عليه، وتقدِمتُه بين يديه، فينقضي منهم المجلس بعد المجلس لا يُسمع فيه آية تُتلى ولا حديث يُروى، وإن اتفق ذكْر شيء من ذلك لم يكن في المجلس من يعرف صحيحه من سقيمه، ولا إيرادَه على وجهه ولا فَهْمَ معناه”. [المؤمل للرد إلى الأمر الأول: 1/ 99 ـ 100].

نقل السيوطي في كتاب الرد على من أخلد إلى الأرض عن الفقيه الشافعي عماد الدين عبد الرحمن بن أبي الحسن بن يحيى الدمنهوري المتوفى سنة 674 أنه قال في أول كتاب الإرشاد: “لا ينتفع إلا من رفع الله عن قلبه حجاب التقليد، فإنه سبب لحرمان كل خير، وسائق لكل عُوَقة، بل أكثر ما وقع الخلق في الكفر والنفاق منه، وذلك إنما هو من ربْط الجهل على قلوبهم وربْط التقليد على أفهامهم، حتى لا يدَّبَّروا ما يُقال لهم ويستنكفوا عمن يرشدهم، لظنهم الفاسد أنه لا يمكن أن يكون المتأخر أفضل من المتقدم، ويعتقدون أن ذلك من قبيل المستحيل، ولم يعلموا أن مواهب الله تعالى لا تنقطع وفيضَ جوده لا ينفد، وإنما حُرِم ذلك من حُرِمه: إما لفساد طبعه وخلل في عقله، أو لعدم تدبره وتفهمه لما بينه الله تعالى من الآيات الواضحة والدلائل الراجحة، وإلا فكل مَن له طبع سليم وفهم مستقيم إذا رفَع عن قلبه حجاب التقليد وادَّرع جلباب الاجتهاد والتجريد وتعرض لنفحات ربه أفاض بجوده عليه التأييد والتسديد، كما قال تعالى {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}”. [الرد على من أخلد إلى الأرض: ص 66].

عُوَقة: الرجل الذي يشغل الناس عن الخير، أو لعلها: وسائق لكل عائقة، وهي الخصلة التي تشغل الناس عن الخير. ادَّرع الجلباب: أي لبسه.

قال إبراهين بن موسى الشاطبي رحمه الله في كتاب الاعتصام: “بعض المقلدة لمذهب إمام يزعمون أن إمامهم هو الشريعة، حتى إذا جاءهم أحد ممن بلغ درجة الاجتهاد وتكلم في المسائل باجتهاده ولم يرتبط إلى إمامهم رمَوه بالنكير، وفوَّقوا إليه سهام النقد، وعَدُّوه من الخارجين عن الجادة والمفارقين للجماعة، من غير استدلال منهم بدليل، بل بمجرد الاعتياد العامي”. [الاعتصام: 3/ 319 ـ 320، وفي طبعة أخرى: 2/ 864 ـ 865].

قال محمد بن إبراهيم ابن الوزير المتوفى سنة 840 في كتاب العواصم والقواصم وهو يتحدث عن استبعاد شيخه السيد علي بن محمد بن أبى القاسم المتوفى سنة 837 لوجود مجتهد في العصور المتأخرة: “السيد أيده الله بالغَ في الاستبعاد لوجود الاجتهاد في هذه الأزمان، حتى شك في إمكانه وقال إنه متعذر أو متعسر، وهذا يقتضي أنه يعتقد خلو الزمان عن المجتهدين، لأنه لو كان في الزمان مجتهد لزال الشك في التعذر ووجب القطع بالإمكان، وكلماته أيده الله بائحة بخلو الزمان من المجتهدين، وقد غفَل أيده الله عما يلزم من هذا، فإنه يلزم من هذا أن يكون طلب الاجتهاد فرض عين عليه وعلينا معا، لأن هذا حكم فرض الكفاية إذا لم يُقم به، فكان الواجب من السيد أيده الله تعالى على مقتضى تعسيره أن يقول إن الزمان خالٍ عن الاجتهاد وإنه يتعين علينا القيام بما يجب من فريضته فنتعاون على ذلك، هذا كلام العلماء العاملين بمقتضى ما علمهم الله تعالى، وأما أنـَّا نقرُّ أنـَّا لا نعلم مجتهدا ونقر أنه فرْض كفاية ونترك القيام بما أوجب الله علينا من طلبه بل نترسلُ على من اتهمْنا أنه يهمُّ بأداء ما افترض الله علينا من القيام به فهذا ما لا أرضاه للسيد، أيده الله تعالى”. [العواصم والقواصم: 1/ 263]. قوله “بل نترسلُ على من اتهمْنا”: لعل مراده: بل نسترسل في لوم من اتهمْناه.

* ـ هل كل المسائل الشرعية تحتاج إلى علم غزير لتجليتها؟:

بعض المسائل الشرعية حكمه ظاهر لا يخفى على علماء المسلمين ولا على عوامهم، وهذا يحتاج توضيحه لمثال:

ـ قال الإمام الغزالي رحمه الله في أوائل كتابه المستصفى في أصول الفقه: “العلوم ثلاثة: عقلي محض لا يحث الشرع عليه ولا يندُب إليه، كالحساب والهندسة والنجوم وأمثاله من العلوم، فهي بين ظنون كاذبة لائقة وإن بعض الظن إثم وبين علوم صادقة لا منفعة لها، ونعوذ بالله من علم لا ينفع”. ثم ذكر النوعين الآخَرين.

أقول:

الآيات القرآنية كثيرة في الحث على السير في الأرض والتفكر فيها وفي السماء وما بث الخالق عز وجل فيهما، للاستدلال على عظمته وبديع صنعه وحكمته، ولاكتشافِ أوجه تسخيرها للناس مع الاستخلاف في هذه الأرض، وقد قال سبحانه {وسَخَّرَ لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه}، فلا يمكن أن تكون علوم الحساب والهندسة والنجوم وأمثالها من العلوم الصادقة لا منفعة لها، أو أن تكون منافية للشرع بحيث إنه لا يحث عليها ولا يندُب إليها.

وأعجبُ من ذلك قول الإمام مالكِ بن أنس رحمه الله وبعضِ علماء المذهب المالكي، فقد سئل مالك عمن ينظر في النجوم فيقول تُكسف الشمس غدا أو يقـْدَم فلان ونحوه، فقال: “أرى أن يُزجر، فإن انتهى وإلا أدِّب أدبا شديدا”. [الجامع لمسائل المدونة لأبي بكر محمد بن عبد الله بن يونس التميمي الصقلي المتوفى سنة 451].

فالنظر في علم النجوم ومعرفة وقت الكسوف شيء والقول بأن فلانا يقـْدَم غدا أو لا يقـْدَم غدا وربطه بعلم النجوم شيء آخر، فالشطر الأول علم، والثاني كِهانة لا علاقة لها بالعلم.

فتخطئة هذا الإمام الكبير الفقيه في عدم تفريقه بين الصورتين المسؤولِ عنهما وفي حكمه بوجوب زجر من ينظر في علم النجوم ووجوبِ تأديبه إن لم ينزجر: أمر واضح جدا لكل مسلم له أدنى نظر في كتاب الله عز وجل.

لكن ربما غاب هذا عن نظر ذلك الإمام الفقيه!، لعدم الاطلاع الكافي على ذلك العلم ولغلبة الخوف على قلوب كثير من أئمتنا رحمهم الله تعالى، فقد كانوا يخشون أن تتسرب مع تلك العلوم الوافدة بعض العقائد الكفرية أو مقدماتها، وخاصة مع علم النجوم وما قد يجره من التنجيم والكهانة.

وقع مثل تلك الفتوى من مثل ذلك الفقيه الكبير لحكمة أرادها الله، ربما لنعلم أن العالِم مهما علا شأنه في العلم فهو يخطئ ويصيب، وأنه كم ترك الأول للآخِر.

هذا وقد علق الفقيه المالكي الكبير أبو الوليد محمد بن رشد الجد رحمه الله في كتاب البيان والتحصيل على كلام الإمام مالك فقال: [ليس قول الرجل “الشمس تُكسف غدا” من جهة النظر في النجوم وعلم الحساب بمنزلة قوله “فلان يقدَم غدا” في جميع الوجوه، لأن الشمس والقمر مسخران لله تعالى في السماء، يجريان في أفلاكهما من برج إلى برج على ترتيب وحساب وقدر لا يتعديانه، فليس في معرفة وقت كون الكسوف بما ذكرناه من جهة النجوم وطريق الحساب ادعاءُ علم غيبٍ ولا ضلالةٌ وكفرٌ على وجه من الوجوه، لكنه يُكره الاشتغال به، لأنه مما لا يعني، وقد قال صلى الله عليه وسلم “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه”، وفي الإنذار به قبل أن يكون: ضرر في الدين، لأن مَن سمعه من الجهال يظن أن ذلك من علم الغيب وأن المنجمين يدركون علم الغيب من ناحية النظر في النجوم، فوجب أن يُزجرَ عن ذلك قائله ويُؤدَّبَ عليه، كما قال، لأن ذلك من حبائل الشيطان”]. [البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل لابن رشد الجد].

وهنا نجد العالم الفقيه ابنَ رشد الجد بالرغم من أنه تنبه إلى أن قول الرجل “الشمس تُكسف غدا” ليس بمنزلة قوله “فلان يقدَم غدا” في جميع الوجوه وأنه ليس في معرفة وقت الكسوف من جهة النجوم وطريقِ الحساب ادعاءُ علم غيبٍ وليس فيه ضلالةٌ وكفرٌ، نجده يقر كراهة الاشتغال بهذا العلم!، ولخوفه مِن أن يظن مَن يسمع من الجهال عالما يخبر بوقت الكسوف أن المنجمين يدركون علم الغيب نجده يقول بوجوب زجره عن ذلك وتأديبه عليه!.

لكن بعض المالكية رحمهم الله وأثابهم لم يوافقوا على هذا الإطلاق، منهم الشيخ زروق المتوفى سنة 899 رحمه الله، فقد ذكر في شرحه لرسالة ابن أبي زيد القيرواني أن النظر في النجوم على خمسة أوجه، وأن منها ما هو مباح أو مستحب أو واجب.

ـ ومن ذلك قول ابن تيمية المتوفى سنة 728 في الفتاوى الكبرى ومجموع الفتاوى: “الكيمياء باطلة مُحرمة وتحريمها أشد من تحريم الربا، ولا يجوز بيع الكتب التي تشتمل على معرفة صناعتها، وأُفتِيَ بعضُ ولاة الأمور بإتلافها”.

ووافقه على ذلك عدد من الحنابلة من بعده، كالحجاوي المتوفى سنة 960 في كتابه الإقناع، والفتوحي المتوفى سنة 972 في منتهى الإرادات، والبهوتي المتوفى سنة 1051 في شرح منتهى الإرادات وفي كشاف القناع، والخلوتي المتوفى سنة 1088 في حاشيته على منتهى الإرادات.

ربما كان مستند القول بهذا الحكم أنه قد شاعت صورة من صور الغش، حيث يدعي الغشاشون أنهم يقلبون النحاس إلى ذهب مثلا، ومن أجل ذلك يرى ابن تيمية وعدد ممن قلدوه من الحنابلة أن الكيمياء باطلة مُحرمة، وأن تحريمها أشد من تحريم الربا، وأنه لا يجوز بيع الكتب التي تشتمل على معرفة صناعتها، وأقر الإفتاء بأن يقوم ولاة الأمور بإتلافها!!.

تخطئة القول بهذه الفتاوى مع وجوب التفريق بين علم الكيمياء وبين استعمال الغشاشين له هو أمر ظاهر اليوم، يدركه العالم والعامي، وليس بحاجة إلى بلوغ رتبة الاجتهاد لمعرفته.

* ـ الاجتهاد الجماعي:

كثير من الإخوة الأفاضل يروجون لفكرة الاجتهاد الجماعي، والذي أراه ـ والله أعلم ـ أن هذه الفكرة طيبة في أصلها، لكن اللقاء الذي يضم مجموعة ممن لا تتوفر فيهم شروط الاجتهاد لا يثمر اجتهادا ولا ينتج مجتهدا.

ربما يكون من المفيد أن يعمل جماعة من طلاب العلم على إنضاج هذه الفكرة، ولكن ينبغي أن يكون ذلك على خطوات:

الخطوة الأولى في هذا السبيل هي الإقرار بما قاله كثير من علماء الأصول من أن السعي لتحصيل رتبة الاجتهاد هو فرض كفاية.

الخطوة الثانية هي الإيقان بأن تحصيل هذه الرتبة ممكن، وأنه على الرغم من صعوبته فليس بمستحيل، وما لم تتحقق هذه الخطوة فلن يتم بعدها شيء، لأن روح اليأس لا تنتج عملا ولا تحقق أملا.

الخطوة الثالثة أن يعمل من يرى في نفسه الأهلية لتحصيل هذه الرتبة على تحقيق الشروط المطلوبة حتى يصل إليها.

الخطوة الرابعة أن يقدم أبحاثا علمية اجتهادية فيشهدَ له عدد من المجتهدين ـ أو القريبين من تحصيل هذه الرتبة إذا لم نجد من حصَّلها ـ بأنه قد بلغ هذه الرتبة.

الخطوة الخامسة أن يجتمع بعد ذلك عدد من المشهود لهم ببلوغ هذه الرتبة فيقدموا للأمة اجتهادا جماعيا، وهذا لا يعني أن مثل هذا الاجتهاد قد جاز القنطرة وأنه فوق النقد، فالانتقاد القائم على الدليل الشرعي هو حق مكفول لكل من يرى في نفسه تساؤلات حول صحة استدلال المجتهد أو المجتهدين. والله أعلم.

* خلاصة البحث:

كبار الأئمة كانوا ينهَون عن تقليدهم وتقليد غيرهم، تشجيعا لطلاب العلم الشرعي المتمرسين في دراسة أدلته للارتفاع عن مرتبة التقليد المحض والارتقاء لولوج مرتبة الاجتهاد، وذلك لمن تأهل لهذه المرتبة.

الأئمة المجتهدون كانوا يستنبطون من الكتاب والسنة ويستعينون بأقوال الصحابة والتابعين، والترجيحُ بين أقوال الأئمة من خلال دراسة أدلتهم والموازنةِ بينها هو نوع من الاجتهاد.

صحة الاجتهاد تكون بمعرفة الأصول الشرعية، وهي أن يكون من يريد الاجتهاد عارفا لسان العرب بإتقان، وأن يكون مشْرفا على ما تضمنه الكتاب العزيز من الأحكام الشرعية، ومعرفةِ ما تضمنته السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام، ومعرفةِ الإجماع والاختلاف وما ينعقد به الإجماع وما لا ينعقد به، ليتبع الإجماع ويجتهد في الاختلاف، ومعرفةِ القياس والاجتهادِ والأصولِ التي يجوز تعليلها وما لا يجوز تعليله، وأن يكون ثقة مأمونا غير متساهل في أمر الدين.

والمطلوب أن يعرِف مَن يروم رتبة الاجتهاد من كل واحد من هذه العلوم معظمه، لا أن يأتي على جميعه.

الذي يعطي لنفسه حق الاجتهاد في مسألة ولم يستكمل شروط الاجتهاد فيها هو آثمٌ إثما شديدا ويحمل وزرا كبيرا، وهو داخل في الوعيد الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله “القضاة ثلاثة، اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل عرَف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرَف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس عن جهل فهو في النار”.

يُقبل قول العالم في الإخبار عن نفسه أنه وصل إلى حد الاجتهاد إذا كان عدلا.

التقليد مراتب، فالمرتبة العالية منها هي لمتبعي المجتهدين من المقلدين، وهم الذين يتبعون مَن يأخذون بقوله من أهل العلم لِمَا ظهر لهم من صحة مذهبه ورجحان قوله، والمرتبة التي بعدها هي لعامة المقلدين، وهم الذين يقولون بقول مَن يأخذون بقوله من أهل العلم مستمسكين به دون معرفةٍ لهم بصحة مذهبه ورجحان قوله.

التقليد لا يفيد العلم، فإن الخطأ جائز على المقلـَّد، والمقلـِّد معترف بعمى نفسه، وإنما يدَّعي البصيرة لغيره.

الارتقاء في العلم إلى بلوغ رتبة الاجتهاد فرض كفاية، إذا قام به من كل ناحية عددٌ تقع بهم الكفاية سقط الفرض عن الباقين، وإذا قعد الكل عنه عصَوْا جميعا.

عَزَّ المجتهدُ في الأعصار المتأخرة، وليس ذلك لتعذر حصول آلة الاجتهاد، بل لإعراض الناس في اشتغالهم العلمي عن الطريق المفضية إلى ذلك.

سفرُ الرجل لطلب العلم مرغـَّب فيه، وإن كان لتحصيل رتبة الاجتهاد وليس في البلد مجتهدٌ فلا يُشترط له إذن الوالدين ولا يجوز لهما أن يمنعاه.

يجب على العوام تقليدُ المجتهدين في الأحكام، ويجب عليهم الاجتهاد في أعيان المجتهدين كما يجب على المجتهدين الاجتهادُ في أعيان الأدلة، فلا يجوز تقليد كل من انتسب للعلم وتصدر في المجالس، والواجب تقليد عالم عُرف عند الثقات بالعلم والتقوى.

المستفتي من العامة إذا أفتاه اثنان ممن حصَّلوا رتبة الإفتاء واختلفا في الفتوى: إن كان يتسع عقله ويكْمُل فهمه إذا عُقـِّل أن يعقل وإذا فـُهِّم أن يفهم فله أن يسأل المختلفين في مذاهبهم عن حُججهم فيأخذَ بأرجحها عنده، وإن كان دون ذلك وَسِعه التقليدُ لأفضلهما عنده، وليس له في هذه الحالة أن يقول قولُ فلان أقوى من قول فلان، لأنه مقلد وليس من شأنه الكلام في الترجيح.

قول المجتهد من حيث هو ليس بحجة، لأن المجتهد يخطئ ويصيب، وإنما الحجة في قول الله جل وعلا وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وما تفرع عن هذين الأصلين، أي إن الحجة هي الدليل الصحيح الذي استند إليه المجتهد.

القول لا يصح لفضل قائله، وإنما يصح بدلالة الدليل عليه.

لا يأثم المجتهد الذي بلغ رتبة الاجتهاد فيما أخطأ فيه بعد استفراغ وُسْعه في البحث والتمحيص، إلا أن يكون طريق الصواب بَيِّنًا، وهذا يعني أنه لم يصل إلى الصواب في المسألة التي أخطأ فيها وهي ظاهرة بَيِّنة لتقصيره في البحث.

أكثر الفقهاء على أن الاجتهاد شرط من شروط تولي منصب الإفتاء ومنصب القضاء ومنصب الإمامة العظمى.

كثيرون من فقهاء المذاهب الأربعة وُصفوا بأنهم بلغوا درجة الاجتهاد.

من العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعا ومع هذا يقلده فيه ويترك مَن شهد الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه.

الاجتهاد الجماعي فكرة طيبة في أصلها، ويحتاج العمل على إنضاجها إلى خطوات: الإقرار بما قاله كثير من علماء الأصول من أن السعي لتحصيل رتبة الاجتهاد هو فرض كفاية، والإيقان بأن تحصيل هذه الرتبة ممكن وليس بمستحيل، وأن يعمل مَن يرى في نفسه الأهلية لتحصيل هذه الرتبة على تحقيق الشروط المطلوبة حتى يصل إليها، وأن يقدم أبحاثا علمية اجتهادية فيشهدَ له عدد من المجتهدين ـ أو القريبين من تحصيل هذه الرتبة إذا لم نجد من حصَّلها ـ بأنه قد بلغ هذه الرتبة، وأن يجتمع بعد ذلك عدد من المشهود لهم ببلوغ هذه الرتبة فيقدموا للأمة اجتهادا جماعيا.

وهذا لا يعني أن مثل هذا الاجتهاد قد جاز القنطرة وأنه فوق النقد. والله أعلم.

* كلمة الختام:

أتمنى للذين يثبطون طلاب العلم النابهين عن السعي لبلوغ درجة الاجتهاد ـ بحجة الخوف على الفقه من أن يدخل فيه غير أهله ـ أن يكفوا عن التثبيط، لأن هذا يحْبط همة المخلصين الصادقين الذين لديهم الأهلية، ولا يمنع العابثين المغرضين الفاقدين للأهلية.

أتمنى أن يقف مَن ليس عنده الاطلاع الكافي والأهلية لخوض غمار أي علم من العلوم عند المرتبة التي هو فيها، وأن يقلد أوثقَ الناس لديه في ذلك العلم، وأن لا يفاضل بين رتب العلماء وأقوالهم وهو غير أهل لذلك.

أتمنى أن يجتمع أولو العلم والنهى لوضع خطة متكاملة ترسم منهجا للاجتهاد في علوم الدين، بحيث تتخصصُ كل مجموعة منهم في شعبة من الشعب التي يُراد بحثها وتستعينُ كل مجموعة وكل فرد من أفرادها ببحوثِ سائر العلماء، لتكون نتائج الأبحاث مرجعا سهلا ميسرا لكافة المسلمين في العقيدة والفقه والتزكية، وقد قال الله عز وجل {إن الله مع الذين اتقَوْا والذين هم محسنون}.

* وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 4 صفر 1438، الموافق 4/ 11/ 2016، سوى بعض الإضافات اليسيرة، والحمد لله رب العالمين.

تعليق واحد على “رتبة الاجتهاد ورتبة التقليد”

التعليقات مغلقة.