الحوار الأول حول حديث “إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين”

الحوار الأول حول حديث “إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين”

هذا الحديث رواه الحسن بن أبي الحسن البصري التابعي الثقة رحمه الله عن أبي بكرة، والراجح عندي فيه ـ بعد الدراسة ـ أنه منقطع الإسناد، فهو ضعيف.

إشكالات وأجوبة:

ـ قد يقال: لا مانع من أن يكون الحسن البصري قد سمع الحديث من أبي بكرة ورواه عنه بلاغا ثم سئل عن إسناده فأسنده عنه مرة بلفظ السماع ومرة بغير لفظ السماع.

فأقول: الاحتمال العقلي المجرد عن القرائن وارد، ولكن مسألة التصحيح والتضعيف لا تـُبنى عليه، بل على غلبة الظن، والحسن البصري رحمه الله قد اشْتـَهر عنه تدليس الروايات، فلا بد من مزيد التريث والتثبت.

من المتفق عليه عند أهل الحديث أنه لا بد من الرجوع لمنهج علماء الحديث الشريف وخاصة في الإعلال، وهذه بعض النبذ من أقوال أئمة العلل في الجواب عن نظير هذه المسألة:

قال ابن أبي حاتم في كتاب العلل: سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث يسلم بينهن، وقالا: رواه عثمان بن الحكم عن يحيى بن سعيد أنه بلغه عن عائشة، قالا: وهذا أشبهُ، وأفسدَ على يحيى بن أيوب.

وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه يحيى بن حسان عن الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم، فقالا: هذا خطأ، إنما هو “الليث عن يحيى بن سعيد أنه بلغه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها”، وهو الصحيح.

وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث رواه عمرو بن أبي قيس ويوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق عن ابن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم “أنت ومالك لأبيك”. قيل لأبي: وقد روى محمد بن يحيى بن عبد الكريم الأزدي عن عبد الله بن داود عن هشام بن عروة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله. قال أبي: هذا خطأ، وليس هذا محفوظا عن جابر، رواه الثوري وابن عيينة عن ابن المنكدر أنه بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك. قال أبي: وهذا أشبهُ.

وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن حديث رواه ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب أنه قال: حدثني سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحْدثَ القرآنِ بالعرش آية الدين. ورواه ابن المبارك عن معمر عن الزهري أنه قال: بلغنا عن سعيد بن المسيب أنه قال: آخر آية عهدا بالعرش آية الدين. قال أبو زرعة: حديث معْمر أحب إلي.

وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث رواه عنبسة بن عبد الواحد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس أنه قال “إياكم ومجالس الطرق فإن كان لا محالة فأدوا الطريق حقه”. قال أبي: ورواه أبان عن قتادة أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. قلت لأبي: أيهما أصح. قال: إن كان ذلك محفوظا فهو حسن، وما أخوفـَني أن يكون قد أفسد حديثُ أبان ذلك الحديثَ.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد عن الكـُريزي عن ‏يحيى بن سُليم عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن أمه فاطمة ابنة الحسين ‏عن أبيها عن جدها علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا هدى الله عبده الإسلامَ وحسَّن ‏صورته وجعله في موضع غير شائن ورزقه مع ذلك موضعا له فذلك من صفوة ‏الله”. فقلت: حدثنا أبي قال حدثنا عبيس بن مرحوم العطار قال حدثنا يحيى بن ‏سُليم قال سمعت محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان يقول بلغني أن رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم قال ذلك. فقال ابن جنيد الحافظ: هذا الحديث قد أفسد علينا حديثنا. قال ‏ابن أبي حاتم: صدق، فإنه لو كان عنده عن أمه عن أبيها عن جدها علي عن النبي ‏صلى الله عليه وسلم لم يَرْوِ أنه بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ‏

[علي بن الحسين بن الجنيد قال عنه الذهبي في السير: الإمام الحافظ الحجة، وكان من أئمة هذا الشأن، وفاتُه في آخر سنة إحدى وتسعين ومئتين].

فهذه أقوال ثلاثة من كبار أئمة علماء الحديث: أبي حاتم وأبي زرعة وابن الجنيد رحمهم الله، وهم لا يصححون كلتا الروايتين المرويتين عن راو يروي حديثا وتأتي إحداهما بأنه رواه مسندا وتأتي الأخرى بأنه ذكره بلاغا، بل نراهم يشكون حينئذ في الرواية المسندة ويعلونها بالرواية المرسلة بلاغا.

ـ قد يقال:

لكن يعكر على هذه الأقوال نص آخرُ عند ابن أبي حاتم بخلاف ذلك، فقد قال: سألت أبي عن حديث رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟! لينتهن عن ذلك أو لتُخطفن أبصارهم”. ورواه أبان العطار عن قتادة أنه بلغه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول، مرسلا. قال أبو زرعة: ابن أبي عروبة أحفظ، وقتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أصح، كذا رواه عمران القطان أيضا. فقد يقال إن أبا زرعة لم يرجح هنا الرواية التي فيها “أنه بلغه”.

أقول:

هذا الحديث رواه البخاري وابن ابي شيبة وابن حنبل وعبد بن حميد من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ورد هذا في نص السؤال.

ورواه كذلك أبو داود الطيالسي عن همَّام، وأبو العباس السراج في مسنده من طريق آخر عن همَّام، عن قتادة عن أنس.

ورواه كذلك أبو يعلى عن عبيد الله بن عمر القواريري عن خالد بن الحارث ويحيى بن سعيد القطان عن شعبة عن قتادة عن أنس.

ورواه كذلك أبو نعيم في تاريخ أصبهان من طريق عمران القطان، وعلقه أبو زرعة الرازي كما في جوابه على السؤال عن عمران القطان كذلك، عن قتادة عن أنس.

ورواه ابن حنبل عن عفان بن مسلم الصفار وهو ثقة عن أبان العطار عن قتادة عن أنس.

فالظاهر أن الذي حدَّث بهذا الحديث “عن أبان العطار عن قتادة أنه بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم” لم يكن من الثقات وجاءت روايته مخالفة للطرق المتقدمة، فلذا لم يلق لها أبو حاتم ولا أبو زرعة بالا.

وقد رجح أبو زرعة الرواية الموصولة هنا لأن سعيد بن أبي عروبة أحفظ من أبانَ بنِ يزيدَ العطارِ، ولكونه قد توبع على روايته، وتبين بهذا أن هذا النص ليس بخلاف تلك النصوص.

ـ وأما مسألة سماع الحسن البصري من أبي بكرة فقد يقال لم لا نثبت سماعه منه بقول علي بن المديني والبخاري؟!.

أقول: ذكرتُ القرائن الدالة على أنه لم يسمع منه، وهذا قول يحيى بن معين والدارقطني.

وأما إثبات علي بن عبد الله المديني والبخاري لسماع الحسن من أبي بكرة فإنما بنياه على رواية سفيان بن عيينة عن إسرائيل بن موسى البصري لحديث “إن ابني هذا سيد”، حيث قال البخاري في صحيحه عقب روايته للحديث: قال لي علي بن عبد الله: إنما ثبت لنا سماع الحسن من أبى بكرة بهذا الحديث. وحيث إن هذا الطريق قد أخطأ فيه سفيان بذكر السماع فلا يصح الاعتماد عليه، لأن ما بُني على الخطأ فهو خطأ.

هذا وقد قال الذهبي في تاريخ الإسلام: قال علي بن المديني: لم يسمع الحسن من أبي موسى الأشعري، ولا من عمرو بن تغلب، ولا من الأسود بن سريع، ولا من عمران، ولا من أبي بكرة. فإن صح هذا النقل عن ابن المديني فهذا يعني أن له قولا آخر في هذه المسألة بخلاف ما نقله البخاري عنه، ولكن الأقرب أنه وهَم من الذهبي رحمه الله، والله أعلم.

وخلاصة الأمر أنه إذا كان سماع الحسن البصري من أبي بكرة غير ثابت وهو معروف بتدليس الرواية فالسند ضعيف.

وكتبه صلاح الدين الإدلبي، والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *