حديث إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وله الحمد في الأولى والآخرة.

 

حديث “إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا”

 

البحث في هذا الحديث يتناول مسألتين: إحداهما في رفعه ووقفه، والأخرى في معرفة اللفظ الثابت فيه.

* المسألة الأولى في معرفة هل هذا الحديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو موقوف على الصحابي:

ـ هذا الحديث رواه بالرفع: أبو داود في السنن وابن خزيمة في التوحيد وابن حبان والآجري وابن بطة واللالكائي والخطيب البغدادي وأبو القاسم الأصبهاني من طرق عن أبي معاوية محمد بن خازم عن الأعمش عن أبي الضحى مسلم بن صُبيح عن مسروق عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ورواه ابن بطة من طريق راو عن أبي معاوية ومن طريق محاضر بن المورع ومن طريق وكيع ومن طريق راو آخر عن أبي معاوية بطريق الجمع عن الأعمش عن مسلم بن صُبيح به مرفوعا.

والرواية في الطرق المجموعة لا يحصل بها معرفة من روى الحديث بالرفع تحديدا هل كلهم أو بعضهم؟، لِما شاع عندهم من جمع الرواة في الرواية وهي للكل أو الأول أو الأخير منهم، وربما كان في صنيع ابن بطة في البدء بأحد الطريقين عن أبي معاوية والختم بالطريق الثاني عنه إشارةٌ إلى أن الذي روى الحديث بالرفع هو أبو معاوية.

ـ ورواه بالوقف: ابنُ خزيمة والبيهقي في الأسماء والصفات والخطيب البغدادي من بعض الطرق عن أبي معاوية، ومحمدُ بن نصر وابن خزيمة من طريقين عن وكيع، والدارميُّ في الرد على الجهمية وابن خزيمة واللالكائي من ثلاثة طرق عن شعبة، وأبو الشيخ في العظمة من طريق سفيان الثوري، وابنُ خزيمة من طريق عبد الله بن نمير، خمستهم عن الأعمش عن أبي الضحى مسلم بن صُبيح به موقوفا على ابن مسعود.

ورواه محمد بن نصر من طريق السدي عن أبي مالك عن مسروق به موقوفا.

فالطريق المرفوع معلول بالوقف على الصحابي، وهذا ما فعله الدارقطني إذ قال في كتاب العلل: “رواه أصحاب أبي معاوية غيرَ من سمينا وأصحابُ الأعمش موقوفا، والموقوف هو المحفوظ”.

* المسألة الثانية في معرفة اللفظ الثابت في هذا الحديث بغض النظر عن الرفع والوقف:

ـ هذا الحديث مروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: “إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيُصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، حتى إذا جاءهم جبريل فُزِّع عن قلوبهم، فيقولون يا جبريل ماذا قال ربك؟، فيقول: الحق، فيقولون: الحق، الحق”.

اختلفت الروايات في جزء من الحديث: فرواه بعضهم بلفظ “إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة”، بمعنى أن الصوت المسموع وقت تكلم الله تعالى بالوحي هو صوت السماء، ورواه بعضهم بلفظ “إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة”، وهذه الرواية لا تحدد مصدر الصوت، ورواه بعضهم بلفظ “إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء له صلصلة”، وفي هذه الرواية إشارة إلى أن الصوت هو لله!، ورواه بعضهم بلفظ “إذا تكلم الله بالوحي سمع صوتَه أهلُ السماء”، وهذه الرواية فيها تصريح بنسبة الصوت لله جل وعلا!.

ـ الحديث باللفظ الأول رواه ابنُ حبان والخطيب البغدادي من طريقين عن علي بن الحسين ابن إشكاب، وأبو القاسم الأصبهاني في الحجة من طريق أحمد بن أبي سريج، والبيهقيُّ في الأسماء والصفات من طريق إسماعيل بن محمد الصفار عن سعدان بن نصر، ثلاثتهم عن أبي معاوية محمد بن خازم، وابنُ خزيمة عن سلم بن جنادة عن وكيع، وابنُ خزيمة عن محمد بن بشار عن محمد بن إبراهيم بن أبي عدي عن شعبة، ثلاثتهم أبو معاوية ووكيع وشعبة عن الأعمش عن أبي الضحى مسلم بن صُبيح عن مسروق عن عبد الله بن مسعود.

ورواه كذلك ابن خزيمة عن أبي موسى عن مؤمل بن إسماعيل عن سفيان الثوري عن منصور عن مسلم بن صُبيح به.

ورواه أبو داود في السنن وابنُ خزيمة في التوحيد من طرق مجموعة عن أبي معاوية عن الأعمش به.

ورواه ابن بطة من طريق علي بن حرب وأحمدَ ابنِ حنبل عن أبي معاوية ومن طريق محاضر بن المورع ووكيع، ثلاثتهم بطريق الجمع عن الأعمش عن مسلم بن صبيح به.

والطرق المجموعة لا يحصُل بها معرفة من روى الحديث بذلك اللفظ المروي من أولئك الرواة، لِما شاع عندهم من جمع الرواة في الرواية والاقتصار على لفظِ واحد منهم فيما إذا كانت ألفاظهم متقاربة.

[سليمان بن مهران الأعمش كوفي ثقة قد يدلس الإسناد مات سنة 148. أبو الضحى مسلم بن صُبيح كوفي ثقة مات سنة 100. مسروق بن الأجدع كوفي ثقة ثقة مات سنة 63. عبد الله بن مسعود صحابي جليل نزيل الكوفة مات سنة 32]. فهذا هنا إسناد جيد.

ـ الحديث باللفظ الثاني رواه ابنُ خزيمة في التوحيد عن علي بن الحسين ابن إشكاب والآجريُّ وابن بطة من ثلاثة طرق أخرى عن ابن إشكاب، والخطيبُ البغدادي من طريق محمد بن عمرو بن البختري عن سعدان بن نصر، وابنُ بطة واللالكائيُّ من ثلاثة طرق أخرى، خمستهم عن أبي معاوية، ورواه محمدُ بن نصر عن إسحاق بن راهويه عن وكيع، وابنُ خزيمة من طريق محمد بن جعفر، واللالكائيُّ من طريق وهب بن جرير بن حازم، والدارميُّ في الرد على الجهمية عن محمد بن بشار عن محمد بن إبراهيم بن أبي عدي، ثلاثتهم عن شعبة، ، وأبو الشيخ في العظمة عن محمد بن زكريا القرشي عن أبي حذيفة موسى بن مسعود عن سفيان الثوري، وابنُ خزيمة من طريق عبد الله بن نمير، خمستهم أبو معاوية ووكيع وشعبة وسفيان الثوري وعبد الله بن نمير عن الأعمش عن أبي الضحى مسلم بن صبيح عن مسروق عن عبد الله بن مسعود. فهذا إسناد جيد.

ـ الحديث باللفظ الثالث رواه عبد الله بن أحمد في السنة عن أبي معْمر عن جرير وابنِ نمير وأبي معاوية عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله أنه قال: “إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع أهل السماء له صلصلة كصلصلة الحديد على الصفا”. ورواه النجاد في كتاب الرد على من يقول القرآن مخلوق عن عبد الله بن أحمد به.

[أبو معمر الهُذلي إسماعيل بن إبراهيم بن معمر الهذلي هروي نزيل بغداد ثقة مات سنة 236]. إذا كان هذا النص ثابتا عن عبد الله بن أحمد فظاهر الإسناد أنه جيد.

ورواه محمد بن نصر بما يشبه معناه عن إسحاق بن راهويه عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن السدي عن أبي مالك عن مسروق عن عبد الله بن مسعود أنه قال: “إن الله إذا ألقى الوحي سمع له أهل السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان”. [عبيد الله بن موسى كوفي ثقة فيه لين مات سنة 213. إسرائيل بن يونس كوفي ثقة فيه لين مات سنة 161. إسماعيل بن عبد الرحمن السدي كوفي ثقة فيه لين مات سنة 127. أبو مالك غزوان الغفاري كوفي صدوق]. فهذا إسناد لين.

ـ الحديث باللفظ الرابع رواه عبد الله بن أحمد في نسخة كتاب السنة المنسوبة إليه عن أبيه عن عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله أنه قال: “إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع صوتَه أهلُ السماء، فيخرون سجدا، حتى إذا فزع عن قلوبهم ـ قال سكن عن قلوبهم ـ نادى أهلُ السماء ماذا قال ربكم؟، قالوا الحق”. ورواه النجاد في كتاب الرد على من يقول القرآن مخلوق عن عبد الله بن أحمد به، ونقله السجزي في النسخة المنسوبة إليه من رسالة الرد على من أنكر الحرف والصوت عن عبد الله ابن أحمد به.

ورواه ابن بطة عن أبي القاسم عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي عن الحسن بن عرفة عن المحاربي به.

[أبو القاسم عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي بغدادي ثقة مات سنة 329. الحسن بن عرفة بغدادي ثقة معمر مات سنة 257 وقد جاز المئة. عبد الرحمن بن محمد المحاربي كوفي صدوق ثقة فيه لين وكان يدلس الإسناد ومات سنة 195]. المحاربي ـ زيادة عما فيه من لين ـ لم يصرح بما يدل على السماع، فهذا إسناد ضعيف.

ملحوظة: لم أجد هذا الحديث في مصدر موثوق به من طريق الإمام أحمد بهذا اللفظ ولا من طريقه عن المحاربي بهذا اللفظ ولا بغيره، ورواه ابن بطة عن إسحاق بن أحمد الكاذي عن عبد الله بن أحمد عن أبيه عن أبي معاوية بطريق الجمع بلفظ “إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة”، وعزاه ابن حجر في فتح الباري لأحمد عن أبي معاوية بهذا اللفظ، وقال في تغليق التعليق “رواه الإمام أحمد عن أبي معاوية فوقفه”، وربما أخذها من قول اللالكائي في شرح أصول اعتقاد اهل السنة “رواه أحمد ابن حنبل عن أبي معاوية موقوفا”.

* درجة أسانيد الألفاظ الأربعة الواردة في هذا الحديث:

الروايات المتعددة عن الأعمش باللفظ الأول والثاني تؤكد ثبوت اللفظين عنه، أحدهما “إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة”، والثاني مثله دون لفظة “للسماء”، فالظاهر أنه كان يقوله مرة هكذا ومرة هكذا، وإذا كان الأمر كذلك فهذا يعني أن اللفظ الأول صحيح ثابت عن الأعمش بزيادة هذه اللفظة.

أما اللفظ الثالث “إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء له صلصلة” فهذا مروي في كتاب السنة المنسوب لعبد الله بن الإمام أحمد، والنسخة التي وصلتنا من الكتاب ليست ثابتة عن المؤلف.

ورواه أحمد بن سلمان النجاد في كتاب الرد على من يقول القرآن مخلوق عن عبد الله بن أحمد به، وقد يُظن أن في روايته للحديث بهذا اللفظ تثبيتا لما جاء في نسخة كتاب السنة، وليس كذلك، لأن النجاد روايته لا تصل لمرتبة الاحتجاج، فقد قال فيه الإمام الدارقطني “حدَّث من كتاب غيره بما لم يكن في أصوله”، ورواية مَن هذا حاله لا يصح الاعتماد عليها، ويتأكد هذا بما قاله فيه الحافظ ابن عبدان، فقد سأل حمزة بن يوسف السهمي الإمامَ الحافظ أحمدَ بن عبدان الشيرازي المتوفى سنة 388 عن أحمد بن سلمان النجاد فقال “لا يُدخل في الصحيح”.

وأما ما رواه محمد بن نصر من طريق أبي مالك عن مسروق عن ابن مسعود أنه قال “إن الله إذا ألقى الوحي سمع له أهل السماوات صلصلة” فهو ليس بمعنى الرواية التي تتحدث عن صوت لكلام الله تماما، والسند فيه ثلاثة من الرواة كل واحد منهم ثقة فيه لين، فالسند لين.

وأما اللفظ الرابع المصرح بنسبة الصوت لله سبحانه وتعالى “إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع صوتَه أهلُ السماء” ففي سنده عبد الرحمن بن محمد المحاربي، وهو صدوق ثقة فيه لين، وكان يدلس الإسناد، ولم يصرح بالسماع، فالسند ضعيف.

* شواهد للفظ الأول من روايات الحديث:

روى البخاري والحميدي والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة في التوحيد وابن حبان واللالكائي من ثمانية طرق عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير”. ففي هذا الحديث أن الصوت هو صوت أجنحة الملائكة.

وروى مسلم وعبد بن حميد والترمذي والنسائي في الكبرى وابن حبان عن عبد الله بن عباس عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ولكنْ ربنا تبارك وتعالى اسمه إذا قضى أمرا سبَّح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا، ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ماذا قال ربكم؟، فيخبرونهم ماذا قال، فيستخبر بعض أهل السماوات بعضا حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا”. وفي هذا الحديث ما يشير إلى أن أهل السماء يسبحون عند سماعهم صوت التسبيح من حملة العرش.

وروى محمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة وابن أبي عاصم في السنة والطبري في التفسير وابن خزيمة في التوحيد والآجري والطبراني في مسند الشاميين، عن جماعة عن نُعيم بن حماد عن الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عبد الله بن أبي زكريا عن رجاء بن حيوة عن النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا أراد الله أن يوحي بأمره تكلم بالوحي، فإذا تكلم أخذت السماواتِ منه رجفةٌ شديدة خوفا من الله، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجودا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد”.

[نُعيم بن حماد مروزي سكن مصر صدوق يحدث من حفظه وعنده مناكير كثيرة ومات سنة 228. الوليد بن مسلم الدمشقي ثقة فيه لين كثير التدليس والتسوية مات سنة 195. عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الداراني ثقة مات سنة 154. عبد الله بن أبي زكريا الدمشقي صدوق ثقة مات سنة 117. رجاء بن حيوة الفلسطيني ثقة مات سنة 112. النواس بن سمعان صحابي مات سنة 45 تقريبا].

لكن حديث النواس بن سمعان معلول، فقد ذكر الحافظ أبو زرعة الدمشقي في تاريخه أنه عرض هذا الحديث على شيخه الإمام الحافظ عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي الملقب بدُحيم فقال: لا أصل له.

وليس في هذه الروايات أن لكلام الله تعالى صوتا.

* روايات في نسبة الصوت لكلام الله جل وعلا:

وردت عدة روايات فيها نسبة الصوت لله جل وعلا، أذكر هنا ما وقفت عليه الآن منها مع التعليق على الإسناد:

1 ـ روى محمد بن نصر والنجاد من طريقين عن جرير بن عبد الحميد عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن ابن عباس أنه قال: “إن الله إذا تكلم بالوحي سمع له أهل السماوات صوتا كصوت الحديدة إذا وقعت على الصفا، فيخرون سجدا، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير”.

أقول:

جرير بن عبد الحميد الرازي نشأ بالكوفة ونزل الري، ثقة ربما دلس الإسناد ونُسب في آخر عمره لسوء الحفظ، ولد سنة 110 ومات سنة 188. يزيد بن أبي زياد كوفي صدوق فيه لين ولما كبر زاد سوء حفظه وصار يُلقن فيتلقن، ولد سنة 47 ومات سنة 136. عبد الله بن الحارث بن نوفل مدني ثقة مات سنة 84.

ومما قيل في يزيد بن أبي زياد في باب الجرح والتعديل: قال أحمد بن صالح المصري: ثقة. وقال الإمام أحمد: ليس حديثه بذاك، ليس بالحافظ. وقال يحيى بن معين: ليس بالقوي، لا يُحتج بحديثه، ضعيف. وقال أبو زرعة: لين يكتب حديثه. وقال أبو حاتم والنسائي والبرديجي: ليس بالقوي. وقال ابن عدي: مع ضعفه يكتب حديثه. وقال الدارقطني: لا يُخرج عنه في الصحيح، ضعيف يخطئ كثيرا، يتلقن إذا لـُقن، كان قد اختلط، ضعيف لا يحتج به، ليس بثقة، سيئ الحفظ. وقال ابن حبان: كان صدوقا إلا أنه لما كبر ساء حفظه وتغير وكان يُلقن ما لـُقن فوقعت المناكير في حديثه، فسماع من سمع منه قبل التغير صحيح. وقال ابن سعد: كان ثقة في نفسه إلا أنه اختلط في آخر عمره فجاء بالعجائب. ولم أجد من نص على وقت تغيره.

جرير بن عبد الحميد ولد قبل وفاة شيخه المعمَّر يزيد بن أبي زياد بنحو ستة وعشرين عاما، والغالب على أهل الكوفة أنهم لا يبدؤون بكتابة الحديث إلا بعد العشرين أو نحوَها، فالظاهر أنه سمع من يزيد بعدما كبر وزاد سوء حفظه وصار يقبل التلقين.

هذا وقد وقفت على سنوات وفَيات أربعين شيخا من شيوخ جرير بن عبد الحميد، فوجدت أن أكثرهم ماتوا بعد يزيد بن أبي زياد، وأنه روى عن خمسةٍ وفَياتهم سنة 136 كسنة وفاة شيخه يزيد، وعن واحد فقط وفاته سنة 132، وعن واحد وفاته سنة 131، وعن واحد وفاته سنة 130، وعن واحد وفاته سنة 129، وعن واحد وفاته سنة 128، وإذا كان جرير قد أدرك هذا الأخير وأخذ عنه الحديث وكانت تلك السنة هي سنة بدئه بطلب العلم فهذا يعني أنه بدأ بالأخذ عن يزيد عندما كانت سن الشيخ فوق الثمانين، وهذه من القرائن كذلك على أن جريرا أدرك شيخه هذا بعد التغير.

فإسناد هذه الرواية ضعيف.

2 ـ روى الطبري عن محمد بن حُميد الرازي عن جرير بن عبد الحميد عن مغيرة عن إبراهيم عن عبد الله أنه قال: “إن الوحي إذا قضي في زوايا السماء مثل وقع الفولاذ على الصخرة”.

أقول:

محمد بن حميد الرازي حافظ ضعيف متهم بالكذب مات سنة 248. جرير بن عبد الحميد الرازي ثقة ربما دلس الإسناد ونُسب في آخر عمره لسوء الحفظ، ومات سنة 188. مغيرة بن مقسم الضبي كوفي ثقة يدلس الإسناد وخاصة عن إبراهيم النخعي، ومات سنة 134. إبراهيم بن يزيد النخعي كوفي ثقة مات سنة 96. فإسناد هذه الرواية تالف.

3 ـ روى الطبري قال: حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس أنه قال: “لما أوحى الله تعالى ذكْره إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسولَ من الملائكة فبعث بالوحي، سمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي، فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله، فقالوا الحق، وعلموا أن الله لا يقول إلا حقا، وأنه منجز ما وعد، وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا”.

أقول:

محمد بن سعد هو محمد بن سعد بن محمد بن الحسن بن عطية العوفي: قال الدارقطني لا بأس به، وقال الخطيب كان لينا في الحديث، مات سنة 276. أبوه هو سعد بن محمد بن الحسن بن عطية العوفي، روى عن أبيه وعمه الحسين، قال أحمد: لم يكن ممن يستأهل أن يُكتب عنه ولا كان موضعا لذاك. عمه هو الحسين بن الحسن بن عطية العوفي الكوفي قاضي بغداد متفق على تضعيفه ومات سنة 201. أبوه هو الحسن بن عطية العوفي ضعيف لعله مات سنة 141. أبوه هو عطية بن سعد بن جنادة العوفي لين يدلس الإسناد ومات سنة 111. فهذا السند ضعيف ضعفا شديدا.

4 ـ روى الطبري قال حُدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ قال أخبرنا عبيد قال سمعت الضحاك يقول: كان ابن عباس يقول: “إن الله لما أراد أن يوحي إلى محمد دعا جبريل، فلما تكلم ربنا بالوحي كان صوته كصوت الحديد على الصفا”.

أقول:

لم يذكر الطبري من حدثه بهذا عن الحسين، وحقق الباحث الفاضل أكرم بن محمد زيادة أنه الحافظ الثقة عبدان بن محمد بن عيسى المروزي المتوفى سنة 293. الحسين هو ابن الفرج بغدادي ضعيف يسرق الحديث. أبو معاذ الفضل بن خالد مروزي ذكره ابن حبان في الثقات مات سنة 211. عبيد بن سليمان كوفي مروزي لين. الضحاك بن مزاحم خراساني ثقة فيه لين ويدلس الإسناد، ولم ير ابن عباس، ومات سنة 105. فهذا السند تالف.

5 ـ روى أبو القاسم الأصبهاني في كتاب الحجة عن الحافظ الطبراني عن يحيى بن عثمان بن صالح المصري عن هاشم بن محمد الربعي عن عنبسة بن خالد عن عبد الله بن المبارك عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع أهل السموات لذلك صلصلة كصلصلة الحديد على الصفا، فيُصعقون، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير”.

أقول:

يحيى بن عثمان بن صالح المصري صدوق فيه لين مات سنة 282. هاشم بن محمد الربعي صدوق فيه لين. عنبسة بن خالد الأيلي صدوق فيه لين مات سنة 198. فهذا إسناد ضعيف.

6 ـ روى الطبري في التفسير عن أحمد بن عبدة الضبي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الله إذا قضى أمرا في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها جميعا، ولقوله صوتٌ كصوت السلسلة على الصفا”.

أقول:

روى البخاري وغيره ـ كما تقدم في الشاهد الأول من شواهد اللفظ الأول من روايات حديث ابن مسعود ـ هذا الحديثَ من ثمانية طرق عن سفيان بن عيينة به، وليس في واحد منها هذا اللفظ المستغرب “ولقوله صوتٌ كصوت السلسلة على الصفا”.

ومن تلك الطرق طريقُ أحمد بن عبدة الضبي عن سفيان بن عيينة الذي رواه ابن منده في كتاب التوحيد، وليس عنده هذا اللفظ المستغرب، واللفظ عنده هو بمثل رواية الجماعة.

فاللفظ المروي في تفسير الطبري عن أحمد بن عبدة هنا هو خطأ واضح مجانب للصواب مخالف لرواية الجماعة.

ـ فأسانيد هذه الروايات في نسبة الصوت لله رب العالمين هي ما بين ضعيف وتالف وخطأ.

* ويبدو أن هذه الروايات هي مما تسرب إلى بعض الرواة من مسلمة أهل الكتاب:

ـ فقد روى عبد الرزاق في التفسير والبسوي في المعرفة والتاريخ والدارمي في الرد على الجهمية وعبد الله بن أحمد في السنة والطبري وابن أبي حاتم كلاهما في التفسير والنجاد في الرد على من يقول القرآن مخلوق والطبراني في الأوسط والبيهقي في الأسماء والصفات، من طرق عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنه قال: أخبرني جَزء بن جابر الخثعمي أنه سمع كعب الأحبار يقول: “لما كلم الله موسى كلمه بالألسنة كلها قبل لسانه, وطفق موسى يقول: والله يا رب ما أفقه هذا. حتى كلمه آخر ذلك بلسانه مثل صوته, فقال: يا رب هذا كلامك؟. فقال الله: لو كلمتك بكلامي لم تك شيئا. أو قال: لم تستقم له. قال: يا رب هل من خلقك شيء يشبه كلامك؟. قال: لا, وأقرب خلقي شبها كلامي أشد ما يسمع الناس من الصواعق.

[أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام مدني ثقة ثقة ولد سنة 23 أو قبلها ومات سنة 94. جرير بن جابر أو جَزء بن جابر أو جَرز بن جابر الخثعمي صدوق ذكره ابن حبان في الثقات، ونقل البسوي ما يدل على زهذه وصلاحه وفضله. كعب الأحبار هو كعب بن ماتع الحمْيري من مسلمة أهل الكتاب سكن حمص ومات بها سنة 32 أو بعدها]. فالسند إلى كعب لا بأس به.

قال ابن كثير بعد أن ذكر هذا الأثر في التفسير: “هذا موقوف على كعب الأحبار، وهو يحكي عن الكتب المتقدمة المشتملة على أخبار بني إسرائيل وفيها الغث والسمين”. قلت: وهذا من الغث.

ـ وروى عبد الله بن الإمام أحمد في السنة والنجاد في الرد على من يقول القرآن مخلوق عن محمد بن بكار عن أبي معشر عن محمد بن كعب القُرظي أنه قال: قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام بم شبهت صوت ربك عز وجل؟، قال: شبهت صوته بصوت الرعد حين لا يترجع. ترجيع الصوت: ترديده. [أبو معشر هو نجيح بن عبد الرحمن السندي المدني المتوفى سنة 170، وهو ضعيف].

ورواه الآجري عن عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي عن عبد الوهاب الوراق عن أبي النضر عن معمر عن محمد بن كعب القرظي به. [عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي البغدادي وثقه الخطيب، مات سنة 305 تقريبا. عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق بغدادي ثقة مات سنة 250. أبو النضر لعله هاشم بن القاسم البغدادي وهو ثقة ولد سنة 134 ومات سنة 207. معْمر بن راشد بصري ثقة فيه لين ولد سنة 96 ومات سنة 154. محمد بن كعب القرظي أبوه من سبي قريظة، وهو مدني ثقة ولد سنة 40 ومات سنة 118]. فالسند إلى محمد بن كعب لا بأس به.

* قال عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي المتوفى سنة 600 في عقيدته: روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: “إذا تكلم الله بالوحي سمع صوتَه أهل السماء كجر السلسة على الصفوان فيخرون سجداً”.

قال ابن قدامة في لمعة الاعتقاد: [وأنه سبحانه يكلم المؤمنين في الآخرة ويكلمونه، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه “إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهلُ السماء”، روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم].

قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة 1233 في كتابه تيسير العزيز الحميد والشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة 1285 في كتابه فتح المجيد: روى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: “لما أوحى الجبار إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسولَ من الملائكة ليبعثه بالوحي، فسمعتِ الملائكة صوتَ الجبار يتكلم بالوحي، فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله، فقالوا: الحق، وعلموا أن الله لا يقول إلا حقا”.

هل هذا يحتاج إلى البحث عن سنده ودراسة الإسناد؟ أو يكفي أن نجده في الدر المنثور للسيوطي؟!.

من الغريب أن بعض من يتكلمون في العقائد يقيمون الدنيا ولا يقعدونها على من يحتج في مسألة في فضائل الأعمال بحديث لم يقف على سنده أو بحديث ضعيف الإسناد، ولكن مسائل العقيدة ـ والتي هي أهم من مسائل الأعمال وفضائلها بكثير ـ يستدلون فيها بالروايات التي لم يقفوا على إسنادها أو التي سندها ضعيف!.

قال ابن عثيمين في تعليقه على لمعة الاعتقاد: [قال النبي صلى الله عليه وسلم “إذا أراد الله أن يوحي بأمره تكلم بالوحي”، أخرجه ابن خزيمة وابن جرير وابن أبي حاتم، وأجمع السلف على ثبوت الكلام لله، فيجب إثباته له من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، وهو كلام حقيقي يليق بالله يتعلق بمشيئته، بحروف وأصوات مسموعة، والدليل على أنه بمشيئته قوله تعالى {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه}، فالتكليم حصل بعد مجيء موسى، فدل على أنه متعلق بمشيئته تعالى].

أقول: كلام الله سبحانه وتعالى أزلي، والذي حصل بعد مجيء موسى عليه السلام لميقات ربه هو إسماعه الكلام.

قال أبو الأشبال المنصوري المصري في شرح كتاب الإبانة: [حديث “إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة”: إذا تكلم الله تعالى بكلامه بالوحي سمع أهل السماء من الملائكة للسماء جرسا وأصواتا عالية كجر السلسلة على الصفا، وهو الحجر الأملس، أي: كما لو أتيت بسلسلة أو جنزير ووضعتها على حجر أملس ناعم لا يستقر عليه شيء، ولو أجريت السلسلة على هذا الحجر لا بد أنك تسمع صوتا عاليا، فكذلك إذا تكلم الله تعالى بالوحي سمع الملائكة في السماء لهذا الوحي صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيُصعقون، وهذا من شدة الوحي].

* هل يتكلم الله جل وعلا بصوت أو بدون صوت؟ وهل يسمِع مَن يشاء إسماعه ما شاء من كلامه بصوت أو بدون صوت؟:

الله جل جلاله ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير.

نثبت له صفة الكلام، كما أجمعت على ذلك الأمة، وهو يكلم مَن شاء بما شاء في الوقت الذي يشاء، وقد كلم موسى عليه السلام، ويخاطب عباده يوم الحساب في الموقف العظيم، كما جاء في كتاب ربنا عز وجل وكما صح وثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكن العبد المخلوق الضعيف يكون قد تجاوز قدر نفسه جدا إذا فكر أن يسأل كيف؟، فالله سبحانه وتعالى لا يعلم كيف هو إلا هو، وقد قال الله تعالى شأنه {ولا يحيطون به علما}.

ـ والغريب أنك تجد من يقول بأنه إذا تكلم الله عز وجل سُمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان، وأن الذين ينكرون هذا هم جهمية كفار.

هذا الكلام غير مقبول سندا ولا متنا:

أما السند فضعيف، وأما المتن فهو مخالف لقول الله جل وعلا {ليس كمثله شيء}.

والنتيجة هي أن يكفر المسلمون بعضهم بعضا، وأن يستحلوا دماءهم وأموالهم وأعراضهم. وإلى الله المشتكى.

وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 16/ 3/ 1437، الموافق 27/ 12/ 2015، والحمد لله رب العالمين.