سيدنا عيسى عليه السلام نبي الله وابن الإنسان

سيدنا عيسى عليه السلام نبي الله وابن الإنسان

 

هذه قراءة فاحصة فيما وصلنا من الأناجيل وغيرها من أسفار النصارى الموجودة بأيديهم اليوم، تؤكد الطبيعة البشرية للمسيح عليه السلام، وتنفي عنه صفة الألوهية التي خلعها عليه الذين حرفوا كلام الله.

إنها لا تضيف جديدا إلى ما يقرره القرآن الكريم، ولكنها تكشف كيف امتد التحريف والتشويه إلى العديد من النصوص الواردة في الأسفار المسيحية ذاتها.

جاء في أسفار العهد الجديد وصف سيدنا عيسى عليه السلام بأنه “ابن الإنسان”، وبأنه “ابن الله”!، ولكن الأول هو الذي كان يطلقه على نفسه، وهو الأكثر استعمالا، إذ وردت هذه الكلمة ثلاثين مرة في إنجيل متى، وأربع عشرة مرة في إنجيل مرقس، وخمسا وعشرين مرة في إنجيل لوقا، وإحدى عشرة مرة في إنجيل يوحنا.

لا بدَّ من التوقف قليلا عند لفظ “ابن الله”، إذ يبدو أنه يدل على معنى “حبيب الله”، لكن قد يتطور في أذهان اللاحقين فيصبح على معنى الاشتراك في الإلهية، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

من الدليل على أن أصل معناه هو المحبة كونه عاما ـ في الأسفار التي بأيديهم ـ لكل المؤمنين وليس خاصا بعيسى عليه السلام، إذ من أقواله المنسوبة إليه قوله: “إني صاعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم”.

ويقول يوحنا: “أما الذين قبلوه فقد أولاهم أن يصيروا أبناء الله“.

بل إن عددا من النصوص في هذه الأسفار تشير إلى أن عيسى عليه السلام نبي من أنبياء الله، حسب إشارته هو عن نفسه.

كان عيسى عليه السلام يعَلـِّم في مجمع وطنه الناصرة، فدُهش السامعون وقالوا: من أين له هذه الحكمة وتلك المعجزات؟!. وأخذتهم الحيرة فيه، فقال لهم: “لا يُزْدرى نبي إلا في وطنه وبيته”.

فهل قوله هذا إلا دليل واضح على أنه يرى نفسه نبيا؟!، وأنه لم يُعرف قدره في الناصرة إلا لأن النبي لا يُزدرى إلا في وطنه وبيته؟!، وقد اتفق على رواية قوله هذا الإنجيليون الثلاثة متى ومرقس ولوقا.

هو حبيب الله:

سأل سيدنا عيسى عليه السلام تلاميذه عما يقول الناس فيه؟، فقالوا: بعضهم يقول هو يوحنا المعمدان، وبعضهم يقول هو إيليا، وغيرهم يقول هو إرميا، أو أحد الأنبياء. فسألهم عما يقولون هم؟، فأجاب سمعان بطرس: أنت المسيح ابن الله الحي. فقال له “طوبى لك”. ثم أوصى ـ حسب هذه الرواية ـ تلاميذه بأن لا يخبروا أحدا بأنه المسيح.

فهو لم ينكر تشبيهه بأحد أنبياء بني إسرائيل، ولم ينكر أنه نبي من الأنبياء، ومن المعلوم أن المراد بالناس هنا هم المؤمنون، وإلا فالذين لم يؤمنوا به فقولهم فيه لا هذا ولا ذاك، ولم يزد على أن امتدح مَن وصفه بأنه المسيح وأنه ابن الله!، ولما كان لا يريد آنذاك أن يُفْصح لجموع المؤمنين بعلو مقامه طلب من تلاميذه أن لا يخبروا أحدا بذلك، وهو كونه المسيح لا غير، أما الوصف بكونه ابن الله فلا يبدو أنه أخذ أي اهتمام، لأن معناه حبيب الله، وهذا مما لا شك فيه عند المؤمنين، ويبدو أن كلمة “ابن الله” ما كانت تعني في لغتهم أكثر من أنه حبيب الله، وإلا تكنْ كذلك لمَا رضي بأن يُقال عنه إنه أحد الأنبياء.

بل وقع التصريح بأن جموع المؤمنين عقيدتهم فيه أنه نبي، إذ أدرك أحبار اليهود والفريسيون أنه يعرِّض بهم في كلامه، فحاولوا أن يمسكوه، ولكنهم خافوا الجموع “لأنهم كانوا يعدونه نبيا”.

وجاء عندهم نص يقول بأنه مر بأعمى فجبل طينا من تفاله، وطلى به عيني الأعمى، وأمره بالاغتسال، فارتد بصيرا، وكان اليوم يوم سبت، فقال بعض الفريسيين: ليس هذا الرجل من الله، لأنه لا يرعى السبت. وقال آخرون: كيف يستطيع خاطئ أن يأتي بمثل هذه الآيات؟!. فقالوا للأعمى: وأنت ماذا تقول فيه وقد فتح عينيك؟!. فقال: “إنه نبي”. فتأمل.

وكانت عقيدة المؤمنين به هي أنه نبي، حتى ما بعد رفعه، إذ اتفق أن اثنين من تلاميذه كانا يسيران في اليوم الثالث بعد رفعه، وكانا يتحدثان ـ حسب الرواية ـ عن الأمور والأحداث التي سبقت ذلك، وإنهما ليتحدثان ويتجادلان إذا عيسى نفسه قد دنا منهما، وأخذ يسير معهما، وقد حُجبت أعينهما عن معرفته، فسألهما عن هذا الحديث الذي يخوضان فيه وهما سائران؟، فوقفا مكتئبين، وأجابه أحدهما: أأنت وحدك تقيم في أورشليم ولا تعلم ما حدث فيها هذه الأيام؟!. فقال لهما: ماذا؟!. قالا له: ما حدث ليسوع الناصري، وكان نبيا، مقتدرا على العمل والقول عند الله والشعب كله، كيف أسلمه الأحبار وأولياء أمرنا ليُحكم عليه بالموت.

إقحام على النصوص:

وعلى هذا فلا يبعد أن يكون لفظ “ابن الله” مُقـْحَما على النصوص، إذ يمكن أن يكون الداعي إلى ذلك هو الحماسَ الديني الشديد عند كتبة الأسفار، أو لدى الناسخين بعد ذلك، أو يكون هذا بتأثير من بولس، الذي ما لبث بضعة أيام بعدما تنصر حتى انطلق ينادي في المجامع بأن يسوع هو ابن الله، وهذا اللفظ محط قصْد لكاتبه، فتطرقُ احتمالِ الوضع والصنعة إليه أقرب.

أما وصف النبوة فقد جاء عرضا في كلام سيدنا عيسى عليه السلام نفسه، وجاء في ضمن وصايا رصينة من حِكمه، فهو أبعد عن تطرق احتمال الوضع والصنعة.

هذه الحكمة “لا يُزدرى نبي إلا في وطنه وبيته” تتلاءم مع أحواله وأقواله عليه السلام، وكذا قوله “ويكون أعداء الإنسان أهل بيته”، وهذه وأمثالها تؤكد أنه عليه السلام لم يكن إلا بشرا نبيا ورسولا.

فإذا أضيف أن وصف النبوة كان هو عقيدةَ المؤمنين سواء في حياة عيسى الدنيوية أو بعد رفعه وسواء عند الجموع أو الأفراد تبين أن هذا هو الحق في عقيدة النصارى الأولين.

إشارات أخرى لوصفه بالنبوة:

وردت الإشارة إليه بوصف النبوة في خطبة لبطرس، وفي أخرى لاسطفانس، إذ يستشهد كل منهما في الدعوة إلى الإيمان بعيسى عليه السلام بالقول المأثور عن موسى عليه السلام: “سيبعث الله ربنا من بين إخوتكم نبيا مثلي، فاستمعوا له في جميع ما يقول لكم”.

ويقول عيسى عليه السلام في إشارة له عن نفسه: “ههنا أعظم من يونان”، [أي أعظم من يونس عليه السلام]، “ههنا أعظم من سليمان” عليه السلام. وليس من وصفٍ جامع بينهم حتى تقع فيه المفاضلة إلا وصف النبوة.

تبقى ملحوظة تستدعي شيئا من المناقشة، ذلك أنه إذا سُلم تفسير “ابن الله” على معنى المحبة والقرب فلا معارضة بينه وبين وصف النبوة، ولا إشكال في ذلك، أما إذا لم يُسلم ذلك التفسير وأريدَ اعتبار عيسى عليه السلام ابنا لله تعالى على معنى الاشتراك والاتحاد وأنه ليس نبيا كالأنبياء ففي كونه ابنَ الله وكونه نبيا تعارض، وإذا كان ذلك كذلك فلابدَّ من الترجيح لرفع الإشكال.

إذا كان عندنا نصوص يُفترض أنها ثابتة وكان فيها نصان ظاهرهما التعارض فلا بد من محاولة الجمع بينهما، وهو هنا ممكن إذا سُلم تفسير “ابن الله” على معنى المحبة والقرب، وهو الذي لا مناص عن القول به.

أما أن يأتي أناس يضربون النصوص بعضها ببعض ليثبِّتوا التعارض ويسدوا باب الترجيح ويقدموا المرجوح على الراجح فهذا فعل أهل الأهواء، وهذا هو الضلال المبين.

وكتبه صلاح الدين الإدلبي، كتبتُ أصل هذا المبحث قبل أكثر من سبعة وثلاثين عاما، وعدلت فيه اليوم بعض التعديلات الخفيفة، في 1/ 5/ 1440، الموافق 7/ 1/ 2019، والحمد لله رب العالمين.