حوار حول حديث من يجدد لها دينها 4

حوار حول حديث من يجدد لها دينها 4

الحوار الرابع

 

ـ الحافظ الذهبي المتوفى سنة 748 والحافظ ابن حجر المتوفى سنة 852 رحمهما الله تعالى لهما جهد طيب في الجرح والتعديل، لكنهما ليسا من الأئمة في هذا الباب.

أئمة الجرح والتعديل هم الأئمة الحفاظ المتقدمون الذين كان الواحد منهم يُسأل عن راو من الرواة فيستعرض في الحال ما بلغه من أحواله ومروياته فيجيب حسبما ظهر له منها، أما المتأخرون فينظر الواحد منهم في أقوال السابقين ويختار ما يغلب على ظنه أنه القول الذي يلخص تلك الأقوال أو القول الذي يراه أرجح من غيره.

ـ لم أطالب أحدا بعدم ذكر كلمة “دكتور”، لكن أنا لا أستحبها لنفسي، أما غيري فقد لا يرى بها بأسا، ولكلٍّ وجهة.

ـ أستغربُ ممن يضع نفسه في صف المقدِّرين لعلم الحافظ ابن حجر ولكن كلام ابن حجر إذا جاء على غير هوى النفس انقلب مرفوضا!.

ذكرت في الحلقة الثانية من الحوار حول هذا الحديث كلام ابن حجر الذي لخص فيه رأيه في كتاب الثقات لابن حبان حيث قال: “هذا الذي ذهب إليه ابن حبان من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه كان على العدالة إلى أن يتبين جرحه مذهب عجيب، والجمهور على خلافه، وهذا هو مسلك ابن حبان في كتاب الثقات الذي ألفه”.

ما السبب الداعي لتجاهل هذا القول؟!، وإذا كان لم يعجبك أيها الباحث المسكين فبينْ أنه أخطأ في هذه المسألة وأنك لا تقبل قوله فيها مع ذكر الأسباب التي دعتك لذلك.

أما أن تترك المسألةَ معلقة وتهرب إلى غيرها فهذا معيب ولا يليق بطالب علم.

من الغريب حقا أن من لم يعجبه كلام ابن حجر يريد أن يرده بحمْله ـ بالهوى والتشهي ـ على أمر آخر فيقول “فهذا حكم عام ينطبق على الرواة الذين وجد العلماء فيهم جرحا وتعقبوا ابن حبان في ذلك”!.

والواقع هو أن ابن حجر قد أطلق القول في انتقاده طريقة ابن حبان في كتابه الثقات، ولم يكن كلامه عمن وجد العلماء فيهم جرحا، ولا عن الرواة الذين تعقب العلماء فيهم قول ابن حبان. ولكن قاتل الله الهوى كيف يهوي بصاحبه.

ـ بعد تصريح ابن حجر عن ابن حبان بأنه “المعروف بالتساهل في باب النقد” وبعد نقده لكتاب ابن حبان في الثقات وتعجبه منه تأتي مناقشة ابن حجر في أحكامه الجزئية في درجة الراوي، أما الذي ينكر الأصل ويتكلم في الفرع فالعمل العبثي قد يكون المراد منه إضاعة الوقت، وخاصة ممن تُذكر له الأدلة على صحة الأقوال فلا يجد عنها جوابا فلا يقبلها ولا ينفيها، ولكنه يمر معرضا عنها كأنْ لم يسمعها.

ـ أين الجواب عن الحديث الذي أعله الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو زرعة وأبو حاتم والعُقيلي والدارقطني والحاكم وغيرهم؟!، أو إن هؤلاء لا يفهمون علوم الحديث؟!!.

وأين الجواب عن عدد من الأمور التي مرت ثم لم يجد المحاور المسكين إلا أن يتجاهلها وينتقل إلى غيرها. ما هذا العبث؟!!.

ـ أستغربُ ممن ينقل نصوصا عن العلماء المتأخرين دون أن يكون عنده علم بما إذا كانت متوافقة توافقا تاما مع أحكام الأئمة المتقدمين أو لا.

ـ إعلال المرفوع بالموقوف ليس على إطلاقه وليس حكما كليا، نعم، وهذا ما أشرتُ إليه من قبل، لكن الذي يهرب من مسألة إلى أخرى باستمرار ليس عنده وقت لقراءة ما يكتبه غيره ولا للتأمل فيه.

لقد قلت في الحوار الأول “وفي مثل هذا يرى الأئمة من المحدثين أن الرواية المرفوعة معلولة بالموقوفة لحصول الشك فيها، إلا إذا جاءت قرائن تدعم رواية الرفع بحيث يترجح بها أنها ليست من قبيل الوهَم”. قف عند هذا الاستثناء ولا تغفُل ولا تتغافل.

أي إن الأصل عند الأئمة هو إعلال الرواية المرفوعة بالموقوفة، إلا إذا جاءت قرائن تدعم رواية الرفع بحيث يترجح بها أنها ليست من قبيل الوهَم، وأقول هذا ـ بفضل الله تعالى ـ عن دراسة، وليس رجما بالغيب، كما يفعل الجاهلون.

قلتُ من قبل: “أما إذا كنا أربعة أو خمسة مثلا وقال أحدنا طفنا ستة أشواط وقال الآخرون كلهم سبعة فما من شك في رجحان قولهم وأنهم حفظوا ما لم يحفظه الآخَر، وهذا ما يقوله أئمة علم الحديث”. تأمل لتعلم لمَ لا يعل المحدثون الرواية المرفوعة بالموقوفة أو الموصولة بالمرسلة في بعض الأحيان.

مثال:

حديث “لا نكاح إلا بولي” رُوي بالوصل ورُوي بالإرسال، رواه ستة عن أبي إسحاق السَبيعي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم متصلا، ورواه شعبة وسفيان الثوري عن أبي إسحاق السَبيعي عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، ولهذا ـ ولقرائن أخرى ـ صحح البخاريُّ والترمذي والدارقطني الرواية التي جاءت بالوصل على الرواية المرسلة، وليس لمجرد أن من وصل الحديث معه زيادة علم. فتنبه. [انظر: الكفاية للخطيب البغدادي وسنن الترمذي والعلل الكبير للترمذي وعلل الدارقطني].

ـ الذي ينقل عن ابن حجر والبقاعي وابن دقيق العيد والعلائي والسخاوي أن المتقدمين يحكمون في مسألة الرفع والوقف حسب القرائن أقول له: كلامهم هذا فيه رد على من يحْكمون بتصحيح الرواية المرفوعة مطلقا، وهو في هذا الجانب صحيح، ولكن فيه قصور شديد، فالمسألة عند الأئمة المتقدمين ليست متساوية الطرفين، والأصل عندهم هو أنهم يعلون الرواية المرفوعة بالموقوفة إلا إذا كان عندهم قرائن بخلاف ذلك. [انظر: منهج الإمامين البخاري ومسلم في إعلال المرويات الحديثية].

ـ ذكرتُ في الحوار الثالث حول هذا الحديث أن الإمام النَسائي [بفتح النون] روى حديثا من طريقين عن حسين بن ذكوان، الأول من طريق خالد بن الحارث عنه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده موصولا، والثاني من طريق المعتمر بن سليمان عنه عن عمرو بن شعيب مرسلا، ليس فيه عن أبيه عن جده، وعلق قائلا: “خالد بن الحارث أثبت عندنا من المعتمر، وحديث المعتمر أولى بالصواب”.

وإنما رجح النَسائي هنا رواية المعتمر بن سليمان وهي مرسلة على رواية خالد بن الحارث الذي هو أثبت منه وهي متصلة لأن المقام مقام إعلال. هذا لمن عنده معرفة بمقام الإمام النَسائي في علم الحديث.

لم يقف المعجب بنفسه عند هذا ويتساءلْ: لمَ كان ذلك كذلك؟!. ثم راح يرجح طريقة الحافظ زين الدين العراقي على منهج الإمام النسائي!.

عندما جاء الإمام مسلم إلى الإمام البخاري ليسأله عن علة روايةٍ قبَّل بين عينيه وقال: “دعْني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيدَ المحدثين وطبيبَ الحديث في علله”، وعندما سمع منه الجواب قال: “لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أنه ليس في الدنيا مثلك”. وهما إمامان من كبار الأئمة.

رحم الله أئمتنا الذين كانوا يعرفون قدر العلم.

والفرق في المقام العلمي في علم الحديث بين الإمام النسائي المتوفى سنة 303 وزين الدين العراقي المتوفى سنة 806 أكبر بكثير من الفرق بين الإمام البخاري والإمام مسلم.

والإمام النسائي لمن لا يعرفه هو الذي فضله الذهبي في سير أعلام النبلاء في معرفة الحديث وعلله ورجاله على الإمام مسلم وأبي داود والترمذي، وجعله في مصافِّ الإمام البخاري وأبي زرعة الرازي.

ثم يأتي من لا يعرف أقدار أهل العلم فيرجح طريقة الحافظ زين الدين العراقي على منهج الإمام النسائي!.

ـ أنا لا مانع لدي من الاستمرار في الحوار على هذه الصفحة، ولكن عددا من الإخوة اتصلوا بي وأوصلوا لي وجهة نظرهم بأن في هذا كفاية.

والله الموفق.

وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 10/ 11/ 1439، الموافق 23/ 7/ 2018، والحمد لله رب العالمين.

***