حديث إن الله وعدني أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفا بغير حساب

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وله الحمد في الأولى والآخرة.

 

حديث “إن الله وعدني أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفا بغير حساب، مع كل ألف سبعون ألفا وزادني ثلاث حَثَيَات”

الحَثْيَة: مقدار ما يُغترف بكلتا اليدين.

 

ههنا حديثان لا بد من التمييز بينهما، أحدهما حديث “سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب”، والثاني حديث “إن الله وعدني أن يدخِل من أمتي الجنة سبعين ألفا بغير حساب مع كل ألف سبعون ألفا”.

وقد اهتم الرواة بهذين الحديثين اهتماما شديدا، لما فيهما من البشارة لهذه الأمة، وخاصة الثاني منهما، ولذلك فقد جاءت لهما طرق كثيرة، فأستعرض في هذه الدراسة ما تيسر لي الوقوف عليه منها:

* الحديث الأول:

رُوي هذا الحديث من حديث عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وعمران بن حصين وأبي هريرة ورفاعة بن عَرابة وأنس بن مالك:

ـ فأما حديث ابن عباس فرواه البخاري ومسلم وابن حنبل والترمذي والنسائي في الكبرى عن ابن عباس أنه قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال: “عُرضت علي الأمم، فجعل يمر النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد، ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فرجوت أن تكون أمتي، فقيل هذا موسى وقومه، ثم قيل لي انظر، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فقيل: “هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب”. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “هم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون”.

ـ وأما حديث ابن مسعود فرواه الطيالسي وابن أبي شيبة في مسنده وابن حنبل والبخاري في الأدب المفرد وأبو يعلى وابن حبان من طريق حماد بن سلمة وهمَّام بن يحيى عن عاصم ابن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود نحوه. [حماد بن سلمة بصري ثقة فيه لين مات سنة 167. همَّام بن يحيى بصري صدوق ثقة في حفظه لين ومات سنة 164. عاصم ابن بهدلة كوفي صدوق ثقة فيه لين اختلط في آخر عمره ومات سنة 128. زر بن حُبيش كوفي ثقة مات سنة 82]. هذا السند فيه لين.

ـ وأما حديث عمران فرواه مسلم وابن حبان والطبراني في الكبير من ثلاثة طرق عن عمران بن حصين.

ورواه الطيالسي وابن حنبل من طريقين عن قتادة عن الحسن عن عمران بن الحصين عن ابن مسعود نحوه. هذا الطريق بخلاف الطرق الثلاثة التي تقدم ذكرها في الرواية السابقة والتي ليس فيها أنه عن ابن مسعود، وما أرى هذه الرواية إلا وهَما.

ـ وأما حديث أبي هريرة فرواه البخاري ومسلم وابن حبان بنحوه عن أبي هريرة.

ـ وأما حديث رفاعة بن عَرابة فرواه ابن أبي شيبة وابن المبارك في مسنده والطيالسي وابن حنبل وابن ماجه وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني وابن حبان من طرق عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن رفاعة بن عرابة الجهني.

ـ وأما حديث أنس فرواه البزار بنحوه عن أنس.

هذا الحديث مروي في الصحيحين بأكثر من إسناد وله طرق أخرى متعددة فهو صحيح غاية في الصحة.

 

* الحديث الثاني:

رُوي هذا الحديث من حديث أبي أمامة الباهلي وعتبة بن عبد وأبي سعد الأنصاري وأبي هريرة وأبي بكر الصديق وعبد الرحمن بن أبي بكر وعمر بن الخطاب وأبي أيوب الأنصاري وعمرو بن عمير وعمير والد أبي بكر بن عمير وأنس بن مالك وثوبان وحذيفة بن اليمان:

ـ فأما حديث أبي أمامة فرواه ابن حنبل وابن أبي عاصم في السنة وفي الآحاد والمثاني وابن حبان والطبراني في الكبير ومسند الشاميين، من طرق عن صفوان بن عمرو عن سُليم بن عامر الخبائري وأبي اليمان الهوزني عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله وعدني أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفا بغير حساب”. فقال يزيد بن الأخنس السلمي: والله ما أولئك في أمتك إلا كالذباب الأصهب في الذِبَّان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فإن ربي قد وعدني سبعين ألفا مع كل ألف سبعون ألفا، وزادني ثلاث حثيات”. قال: فما سَعة حوضك يا نبي الله؟. قال: “كما بين عدن إلى عمان وأوسع وأوسع”. يشير بيده. قال: فيه مَثْعَبَانِ من ذهب وفضة. قال: فما حوضك يا نبي الله؟. قال: “ماء أشد بياضا من اللبن، وأحلى مذاقة من العسل، وأطيب رائحة من المسك، من شرب منه لم يظمأ بعدها ولم يسودَّ وجهه أبدا”. الأصهب: لونه يضرب إلى شيء من الحمرة. الذِبَّان: جمع ذُباب. المَثْعَب: مسيل الماء.

[صفوان بن عمرو بن هرِم السكسكي حمصي ثقة فيه لين مات سنة 155. سُليم بن عامر الخبائري حمصي ثقة مات بعد سنة 112 ويقال سنة 130. أبو اليمان الهوزني عامر بن عبد الله بن لـُحَي حمصي ذكره ابن حبان في الثقات. أبو أمامة الباهلي صُدي بن عجلان صحابي نزل حمص ومات سنة 86 وقد جاز المئة بست سنوات].

ورواه ابن أبي شيبة وابن حنبل والترمذي وابن ماجه وابن أبي عاصم في السنة والمحاملي في أماليه وابن حبان والطبراني في الكبير ومسند الشاميين والبيهقي في الأسماء والصفات، من طرق عن إسماعيل بن عياش عن محمد بن زياد الألهاني أنه قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا, مع كل ألف سبعون ألفا, لا حساب عليهم ولا عذاب, وثلاثَ حَثَيَات من حثيات ربي”. قال الترمذي: حسن غريب. ورواه الطبراني في الكبير من طريقين عن بقية بن الوليد عن محمد بن زياد به نحوه.

[إسماعيل بن عياش حمصي صدوق فيه لين في روايته عن أهل بلده ضعيف في غيرهم مات سنة 181. بقية بن الوليد حمصي صدوق فيه لين ويدلس عن الضعفاء ويسوي، مات سنة 198. محمد بن زياد الألهاني حمصي ثقة فيه لين مات قبل سنة 140]. والحديث صحيح الإسناد عن أبي أمامة.

ورواه الطبراني في الكبير وفي مسند الشاميين وأبو نعيم في معرفة الصحابة والبيهقي في كتاب البعث والنشور وبقي بن مخلد في كتاب الحوض والكوثر من طرق عن عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن سُليم بن عامر عن أبي أمامة.

سنده بطرقه صحيح عن أبي أمامة.

ـ وأما حديث عتبة بن عبد فرواه البسوي والطبراني في الكبير والأوسط ومسند الشاميين والبيهقي في كتاب البعث والنشور من طرق عن أبي توبة الربيع بن نافع، ورواه ابن حبان عن مكحول البيروتي محمد بن عبد الله بن عبد السلام عن محمد بن خلف الداري عن معمر بن يعمر، ورواه بقي بن مخلد عن عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان عن مروان بن محمد الطاطري، ثلاثتهم عن معاوية بن سلّام عن أخيه زيد بن سلّام عن أبي سلّام عن عامر بن زيد البكالي عن عتبة بن عبد السلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم.

[معاوية بن سلّام حمصي دمشقي ثقة مات قبل سنة 170. زيد بن سلّام دمشقي صدوق ثقة مات قرابة سنة 125. أبو سلّام ممطور الحبشي صدوق ثقة يرسل مات قرابة سنة 105. عامر بن زيد البكالي ذكره ابن حبان في الثقات. عتبة بن عبد السلمي صحابي نزل الشام مات سنة 87]. عامر بن زيد البكالي لم أجد فيه سوى أن ذكره ابن حبان في الثقات، وابن حبان متساهل في التوثيق، فهذا الإسناد لين.

ـ وأما حديث أبي سعد الأنصاري فرواه ابن أبي عاصم في السنة وفي الآحاد والمثاني والبغوي في معجم الصحابة والطبراني في الكبير والأوسط ومسند الشاميين وابن منده وأبو نعيم كلاهما في معرفة الصحابة، من طرق عن أبي توبة الربيع بن نافع عن معاوية بن سلّام عن أخيه زيد بن سلّام عن أبي سلّام عن عبد الله بن عامر عن قيس بن الحارث الكندي عن أبي سعد الأنصاري ـ أو عن أبي سعيد الحُبْراني ـ به. وهذا الطريق مخالف لما رواه أبو توبة نفسه وتابعه عليه راويان آخران، كما تقدم في الطريق السابق، فهو مجرد وهَم من الأوهام.

ـ وأما حديث أبي هريرة فرواه ابن أبي شيبة وابن الجعد والآجري في الشريعة عن أبي معاوية عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة بنحوه. [إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة مدني متروك الحديث واتهم بالكذب مات سنة 144]. فهذا الطريق تالف.

وروى ابن حنبل وابن منده في الإيمان والبيهقي في البعث والنشور عن يحيى بن أبي بكير عن زهير بن محمد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: سألت ربي عز وجل فوعدني أن يدخل من أمتي سبعين ألفا على صورة القمر ليلة البدر، فاستزدت، فزادني مع كل ألف سبعين ألفا، فقلت: أي رب، إن لم يكن هؤلاء مهاجري أمتي؟!. قال: إذن أكمِّلَهم لك من الأعراب. لعلها: إن لم يكن هؤلاء في مهاجري أمتي؟!.

[زهير بن محمد التميمي الخراساني قدم الشام وسكن الحجاز، ثقة إذا حدث من كتابه، صدوق فيه لين إذا حدث من حفظه، رواياته بالشام فيها مناكير، مات سنة 162]. فهذا الإسناد لين.

ثم إن هذه الرواية هي من باب الخطأ، ومما يؤكد ذلك أن الرواية التي ثبت أن أبا هريرة رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم هي الحديث الأول من الحديثين المبحوث عنهما، وليست الحديث الثاني منهما، أي حديث “يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفا بغير حساب”.

وهذا رواه مسلمٌ وابن حنبل وابن راهويه والبزار وابن حبان من طريق محمد بن زياد القرشي الجمحي، والبخاري من طريق سعيد بن المسيب، وابنُ المبارك في مسنده وابن حنبل والدارمي من طريق زياد مولى بني مخزوم، وابنُ حنبل من طريق أبي يونس، وأبو نعيم في صفة الجنة من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، خمستهم عن أبي هريرة بنحوه.

ـ وأما حديث أبي بكر الصديق فرواه ابن حنبل عن هاشم بن القاسم عن المسعودي عن بكير بن الأخنس عن رجل عن أبي بكر الصديق بنحوه. [هاشم بن القاسم بغدادي ثقة مات سنة 207. المسعودي عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة كوفي ثقة ثم اختلط ومات سنة 160. بكير بن الأخنس كوفي ثقة مات قرابة سنة 115]. هاشم بن القاسم سمع من المسعودي بعد اختلاطه، وفي السند راو مبهم، فهذا إسناد تالف.

ـ وأما حديث عبد الرحمن بن أبي بكر فرواه ابن حنبل والبزار عن عبد الله بن بكر السهمي عن هشام بن حسان عن القاسم بن مهران عن موسى بن عبيد عن ميمون بن مهران عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بنحوه. [عبد الله بن بكر السهمي بصري ثقة مات سنة 188. هشام بن حسان بصري صدوق ثقة فيه لين مات سنة 147. القاسم بن مهران مجهول. موسى بن عبيد مجهول. ميمون بن مهران الجزري الكوفي الرقي ثقة مات سنة 117]. فهذا إسناد تالف.

ـ وأما حديث عمر بن الخطاب فرواه الطبراني في مسند الشاميين من طريق عبد السلام بن عاصم عن أبي زهير عن عبد الملك بن أبي سليمان عن هشام القردوسي عن ميمون بن مهران عن مكحول عن عاصم بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب بنحوه. [عبد السلام بن عاصم قال أبو حاتم شيخ، فهو مجهول الحال. أبو زهير عبد الرحمن بن مَغْراء الكوفي الرازي صدوق فيه لين وفي روايته عن الأعمش مناكير، ومات قبل سنة 200. عبد الملك بن أبي سليمان كوفي ثقة فيه لين مات سنة 145]. هذا الإسناد فيه عبد السلام بن عاصم وهو مجهول الحال، وقد رواه الراوي الثقة عن هشام بن حسان عن القاسم بن مهران عن موسى بن عبيد عن ميمون بن مهران، كما في الرواية السابقة، والقاسم بن مهران وموسى بن عبيد مجهولان، وحذف الراوي المجهولُ الحالِ هنا الراويين المجهولين وسوَّى إسناده وجعله عن هشام بن حسان عن ميمون بن مهران، فهذا إسناد تالف.

ـ وأما حديث أبي أيوب الأنصاري فرواه ابن حنبل عن حسن بن موسى، والطبرانيُّ في الكبير من طريق سعيد بن أبي مريم، كلاهما عن عبد الله بن لهيعة عن أبي قبيل عن عبد الله بن ناشر من بني سريع عن أبي رهم قاص أهل الشام عن أبي أيوب الأنصاري بنحوه. [عبد الله بن لهيعة مصري يخطئ من حفظه وكتبه متقنة ويدلس عن المتروكين وكل ما دُفع إليه قرأه، ومات سنة 174. أبو قبيل المعافري حيي بن هانئ مصري صدوق ثقة فيه لين مات سنة 128. عبد الله بن ناشر مجهول. أبو رهم ذكره ابن حبان في الثقات]. فهذا إسناد تالف.

ـ وأما حديث عمرو بن عمير فرواه أبو نعيم في معرفة الصحابة عن أحمد بن محمد بن يوسف عن المنيعي عن عمه عن حجاج عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي يزيد المديني عن عمرو بن عمير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غَبَرَ عن أصحابه ثلاثا لا يرونه إلا في صلاة، فقالوا: يا رسول الله، لم نرك إلا في صلاة منذ ثلاث ليال!. فقال: “إن ربي عز وجل وعدني أن يدخِل من أمتي الجنة سبعين ألفا بغير حساب:. قالوا: ومن هم؟. قال: “الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، وإني سألته أن يزيدني، فقال فإن لك بكل رجل من السبعين ألفا سبعين ألفا، فقلت إذا لا يكملوا ذلك، فقال إذا أكمِلَهم لك من الأعراب”. غَبَرَ يغبُرُ غُبورا: مكث متغيبا. وعلقه ابن سعد في الطبقات عن حماد بن سلمة به نحوه، وعنده “عن أبي زيد المدني”.

[أحمد بن محمد بن يوسف الصرصري ثقة. المنيعي عبد الله بن محمد بن عبد العزيز ابن بنت أحمد بن منيع بغوي بغدادي ثقة معمر مات سنة 317 وقد جاز المئة. عمه علي بن عبد العزيز بن المرزبان البغوي المكي صدوق ثقة مات سنة 286 وقد جاز التسعين. حجاج بن المنهال بصري ثقة مات سنة 217. حماد بن سلمة بصري ثقة فيه لين مات سنة 167. ثابت بن أسلم البُناني بصري ثقة مات سنة 123 تقريبا. أبو يزيد المديني صدوق. عمرو بن عمير مجهول]. فهذا إسناد ضعيف. وقال ابن عبد البر في الاستيعاب بعد ذكره لهذا الحديث: هو حديث في إسناده اضطراب.

ثم ذكر أبو نعيم اختلاف الرواة في تسمية صحابيه، إذ رواه الضحاك بن نبراس عن ثابت وقال عن عمرو الأنصاري، وقال مرة عن عمرو بن حزم، ورواه سليمان بن المغيرة عن ثابت وقال عن عمرو بن عمير أو عامر بن عمير، ورواه عثمان بن مطر عن ثابت وقال عن عمارة بن عمير الأنصاري. وذكر ابن حجر في الإصابة أن الطبراني رواه من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت وقال عن عامر بن عمير، وذكر أن عمارة بن زاذان رواه عن ثابت وقال عن عمارة بن عمير.

سليمان بن المغيرة ثقة، وعمارة بن زاذان صدوق فيه لين، وأما الضحاك بن نبراس وعثمان بن مطر فكل واحد منهما مضعَّف تضعيفا شديدا.

المتقدمون من أهل العلم يذكرون غالبا في مثل هذا ما لديهم من الروايات مجرد ذكر، وقد يأتي بعض مَن بعدهم فينقلونها مجردة عن اسم الراوي الذي روى كل لفظة منها، وبالتالي دون النظر في مراتب أولئك الرواة، فينبني على ذلك أوهام في مسألة الجمع والتفريق.

ومن ذلك هنا أن أبا نعيم روى هذه الرواية في ترجمة عمرو بن عمير الأنصاري رغم أن الذي ذكر نسبة عمرو بن عمير إلى الأنصار هما الضحاك بن نبراس وعثمان بن مطر المضعَّفان تضعيفا شديدا.

ـ وأما حديث عمير والد أبي بكر بن عمير فرواه ابن أبي خيثمة في التاريخ الكبير وأبو نعيم في معرفة الصحابة من طريقين عن معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن أبي بكر بن عمير عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله تعالى وعدني أن يدخل من أمتي ثلاثمئة ألف الجنة بغير حساب”. فقال عمير: يا رسول الله زدنا. فقال نبي الله “وهكذا” بيديه. قال: يا نبي الله زدنا. فقال “وهكذا” بيديه. قال: يا نبي الله زدنا. قال: “وهكذا” بيديه. فقال عمر بن الخطاب: حسبك يا عمير. فقال: مالنا ولك يا ابن الخطاب، وما عليك أن يدخلنا الله الجنة. فقال عمر: إن الله إن شاء أدخل الناس الجنة بواحدة. فقال نبي الله: “صدق عمر”. ورواه الطبراني في الكبير من طريق آخر عن معاذ بن هشام به نحوه، وسقط من رويته قوله “وهكذا” بيديه. [أبو بكر بن عمير وأبوه مجهولان]. فهذا إسناد تالف.

ـ وأما حديث أنس فرواه ابن حنبل وابن أبي عاصم في السنة وابن أبي داود في البعث والطبراني في الأوسط والبيهقي في الأسماء والصفات والبغوي في شرح السنة، من طرق عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس أو عن النضر بن أنس عن أنس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله عز وجل وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربعمئة ألف”. فقال أبو بكر: زدنا يا رسول الله. فقال: “وهكذا”. وجمع كفيه. قال: زدنا يا رسول الله. فقال: “وهكذا”. فقال عمر: حسبك يا أبا بكر. فقال أبو بكر: دعني يا عمر، ما عليك أن يدخلنا الله عز وجل الجنة كلنا؟!. فقال عمر: إن الله عز وجل إن شاء أدخل خلقه الجنة بكف واحد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “صدق عمر”. ظاهر هذا الإسناد أنه لا بأس به.

لكن قال الطبراني بعد تخريجه: هكذا رواه معمر عن قتادة عن النضر بن أنس عن أنس، ورواه معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن أبي بكر بن أنس عن أبي بكر بن عمير عن أبيه. وقال البيهقي: رواه معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة، مرة عن أبي بكر بن عمير عن أبيه، ومرة عن أبي بكر بن أنس عن أبي بكر بن عمير عن أبيه عمير. وكذلك أعله أبو حاتم الرازي والدارقطني بهذا.

فرجع هذا الطريق إلى ما تقدم قبل هذا من حديث أبي بكر بن عمير عن أبيه، وإسناده تالف.

ورواه تمام في فوائده عن أبي عبد الرحمن محمد بن حوشب بن أحمد بن أبي حكيم القرشي من حفظه عن أبي سليمان حوشب بن أحمد عن أبي الجماهر محمد بن عثمان عن سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس. [محمد بن حوشب بن أحمد بن أبي حكيم بيض له ابن عساكر. حوشب بن أحمد دمشقي بيض له ابن عساكر مات قرابة سنة 295. أبو الجماهر محمد بن عثمان دمشقي ثقة مات سنة 224. سعيد بن بشير دمشقي ضعيف مات سنة 168]. فهذا إسناد شديد الضعف.

ورواه البزار من طريق أبي عاصم العباداني وعبد القاهر بن السري السلمي عن حميد عن أنس. [أبو عاصم العباداني  بصري صدوق فيه لين مات قرابة سنة 185. عبد القاهر بن السري بصري لين. حميد بن أبي حميد الطويل بصري ثقة ربما دلس الإسناد ومات سنة 143]. فهذا الطريق لين.

ـ وأما حديث ثوبان فرواه ابن حنبل عن أبي اليمان عن إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفا”. [أبو اليمان الحكم بن نافع حمصي ثقة فيه لين مات سنة 222. إسماعيل بن عياش حمصي صدوق فيه لين في روايته عن أهل بلده ضعيف في غيرهم مات سنة 181. ضمضم بن زرعة حمصي صدوق ثقة فيه لين. شريح بن عبيد حمصي ثقة يرسل. ثوبان صحابي نزل حمص مات سنة 54]. السند منقطع بين شريح بن عبيد وثوبان، فهو ضعيف.

ورواه الطبراني في الكبير عن عمرو بن إسحاق ابن زبريق الحمصي عن محمد بن إسماعيل بن عياش عن أبيه عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان. [عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء ابن زبريق الحمصي لم أجد له ترجمة. محمد بن إسماعيل بن عياش حمصي لين]. فلا يُعتمد على هذا الطريق في إدخال أبي أسماء الرحبي بين شريح بن عبيد وثوبان، فيبقى السند ضعيفا.

ـ وأما حديث حذيفة فرواه ابن حنبل عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة عن ابن هبيرة عن أبي تميم الجيشاني عن سعيد عن حذيفة بن اليمان. [حسن بن موسى الأشيب بغدادي ثقة مات سنة 209. عبد الله بن لهيعة مصري يخطئ من حفظه وكتبه متقنة ويدلس عن المتروكين وكلُّ ما دُفع إليه قرأه، ومات سنة 174. عبد الله بن هبيرة مصري ثقة مات سنة 126. أبو تميم الجيشاني عبد الله بن مالك مصري ثقة مات سنة 77. سعيد: في الرواة عن حذيفة راويان اثنان ممن اسمه سعيد، وكلاهما ثقة. حذيفة بن اليمان صحابي مات سنة 36]. صرح ابن لهيعة هنا بأن ابن هبيرة حدثه، ولكن كان كلُّ ما دُفع إليه قرأه، فالسند ضعيف.

 

* درجة الحديث:

الأحاديث الصحيحة تقصُر عدد الذين يدخلون الجنة بغير حساب على سبعين ألفًا، وتحدد لهم صفاتٍ بها يستأهلون هذه المرتبة العالية، “هم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون”، والروايات التي بعدها لا تقصُر العدد على حد، ولا تحدد لهم صفاتٍ بها يستأهلون هذه المرتبة!.

قال الله تعالى {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسماوات مطوياتٌ بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون}، وأقول قبل الاستنباط من الآية الكريمة: جلَّ ربنا وتعالى وتقدس عن مشابهة المخلوقين، فلا يجوز أن يكون في البال شيء من تشبيه المولى تعالى بخلقه.

ثم أقول: إذا كانت الحَثْيَة الواحدة تستوعب السماوات والأرضين فهذا يعني أن المؤمنين كلهم مشمولون بها، لأنهم ليسوا بخارجين عن أقطار السماوات والأرض، وأن المؤمنين جميعا يدخلون الجنة بغير حساب!، وإذا كان ذلك كذلك فمَن المؤمنون الذين يدخلون الجنة بعد أن يُحاسبوا؟!، ومَن المؤمنون الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا من العصاة والبغاة وغيرهم ممن يدخلون الجنة بعد أن يدخلوا النار ويُخرَجوا منها؟!. وهل يمكن أن يكونوا داخلين في الحثيات الثلاثة فيدخلون الجنة بغير حساب؟!. هذا مخالف للنصوص الصحيحة الثابتة.

ـ فالحديث الأول بهذا اللفظ “سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، هم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون” حديث صحيح، وهذا مقام عالٍ من مقامات التوكل.

ـ والحديث الثاني بلفظ “إن الله وعدني أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفا بغير حساب مع كل ألف سبعون ألفا” حديث غريب، لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الإمام الترمذي رحمه الله بعد تخريجه في كتاب السنن “حسن غريب”. وفي هذا إشارة إلى تضعيفه من حيث المعنى.

إشكال وجواب حول هذا الحديث:

إذا كان إسناد الحديث الثاني صحيحا عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه فلم لا نصححه؟!، ولم لا ترتقي هذه الطرق الكثيرة لمرتبة الصحة؟!.

أبو أمامة جاز المئة بست سنوات، ولم يصحَّ عنه أنه صرح بسماعه لهذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يظهر لي أنه سمعه من إنسان مجهول أخبره به عن النبي صلى الله عليه وسلم، فرواه هو بعد ذلك ذهولا منه عن بيان جهة السماع.

قد يقال: هذه الطريقة لا تصح، لأنه لو صح إيراد مثل هذا الاحتمال لتوقفنا في صحة كل حديث يرويه صحابي من طريقٍ صحيح عنه غيرَ مصرح بسماعه إياه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أقول: هذا الإلزام بهذا الإطلاق غير صحيح، لأنه إنما يصح إيراد مثل هذا الاحتمال في حالة واحدة فقط، وهي فيما إذا كان متن الحديث معارضا للروايات الثابتة التي لا يمكن الجمع بينها وبينه إلا بتكلف وتمحل، كما هنا، وأما رد الحديث الصحيح الإسناد بدون معارضةِ ما هو أصح منه فهو ـ قطعا ـ لا يجوز، وهو سبيل أهل الزيغ والأهواء والبدع.

وتلك الطرق الكثيرة أحدها صحيح، والثاني لين، وسائرها ما بين ضعيف وشديد الضعف وتالف، وكان من الممكن القول بصحة هذا الحديث لولا نكارة المتن.

والظاهر أنه كانت هنالك يد خفية تسعى لإشاعة بدعة الإرجاء في هذه الأمة فتروج مثل هذه الروايات، وبدعة الإرجاء هي القول بأن كل الذين آمنوا ناجون من العذاب ولا يدخلون النار، سواءٌ مَن عمل الصالحات منهم ومَن لم يعمل، وأن العمل الصالح هو من باب النافلة فقط!.

وهذا باب خطير، وشر مستطير، تدخل منه البدع على هذه الأمة، وقد قال ابن تيمية رحمه الله: [فلهذا عَظـُم القولُ في ذم الإرجاء، حتى قال إبراهيم النخعي: “لفتنتـُهم أخوفُ على هذه الأمة من فتنة الأزارقة”. وقال الزهري: “ما ابتـُدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من الإرجاء”. وقال الأوزاعي: “كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان ليس شيء من الأهواء أخوفَ عندهم على الأمة من الإرجاء”. وقال شريك القاضي: “هم أخبث قوم، حسْبك بالرافضة خبثا، ولكن المرجئة يكذبون على الله”. وقال سفيان الثوري: “تركتِ المرجئة الإسلام أرق من ثوبٍ سابـِري”]. والسابـِريّ ضرْب رقيق من الثياب يُعمل بِسابور، موضعٍ بفارس.

وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 30/ 3/ 1437، الموافق 10/ 1/ 2015، والحمد لله رب العالمين.