من روائع الإمام البخاري (14) رحمه الله

* من روائع الإمام البخاري رحمه الله: – 14 –

* ـ روى الإمامان البخاري ومسلم رحمهما الله من طريق الليث بن سعد ويونس بن يزيد عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: مَن يكلم فيها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؟!، ومَن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!. فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أتشفع في حد من حدود الله؟!”. ثم قام فاختطب، ثم قال: “إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايْمُ الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”.

ورواه النسائي من طريق شعيب بن أبي حمزة ومن طريق إسحاق بن راشد، والطبرانيُّ في الأوسط من طريق عمر بن قيس الماصر وفيه وهَمٌ في اسم الصحابي، ثلاثتهم عن الزهري به، وإسناد الطريق الأول من هذه الطرق الثلاثة صحيح، والثاني جيد، والثالث ضعيف لا بأس به في المتابعات.

ورواه النسائي كذلك عن محمد بن منصور عن سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة، وفيه: “إنما هلكتْ بنو إسرائيل حين كانوا إذا أصاب الشريفُ فيهم الحدَّ تركوه ولم يقيموا عليه، وإذا أصاب الوضيع أقاموا عليه”. وهذا إسناد صحيح.

* ـ ورواه البخاري عن علي بن المديني عن سفيان بن عيينة أنه قال: وجدتُ في كتاب كان كتبه أيوب بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة أن امرأة من بني مخزوم سرقت، فقالوا: من يكلم فيها النبي صلى الله عليه وسلم؟. فلم يجترئ أحد أن يكلمه، فكلمه أسامة بن زيد، فقال: “إن بني إسرائيل كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه“.

ورواه كذلك عبدُ الرزاق عن معْمرِ بنِ راشد، والنسائيُّ من طريق ابنِ عيينة ومن طريق إسماعيل بن أمية، ثلاثتهم عن الزهري به بلفظ “قطعوه”.

* ـ الحديث واحد، والقصة واحدة، فلا بد أن يكون اللفظ النبوي واحدا.

اللفظ الأول رواه ستة عن الزهري عن عروة عن عائشة، فهو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

اللفظ الثاني رُوي من أربعة طرق عن الزهري:

رواه البخاري عن علي بن المديني عن ابن عيينة عن أيوب بن موسى باللفظ الثاني، لكن رواه النسائي عن محمد بن منصور المكي الثقة عن ابن عيينة عن أيوب بن موسى كذلك باللفظ الأول، وهذا الاختلاف في لفظ الرواية هنا هو من ابن عيينة، لأنه كان يروي بالمعنى، واللفظ الأول موافق لرواية الجماعة، فهو الأصل.

ورواه عبدُ الرزاق عن معْمرِ بنِ راشد باللفظ الثاني، وقد انفرد به معْمر عن سائر الثقات الذين رووا هذا الحديث عن الزهري.

ورواه النسائيُّ من طريق ابنِ عيينة عن الزهري، وابنُ عيينة لم يسمعه منه، وإنما نقله من كتاب أيوب بن موسى عنه، كما تقدم في رواية البخاري السابقة، فرجع هذا الطريق إلى طريق أيوب بن موسى عن الزهري.

ورواه النسائيُّ من طريق إسماعيل بن أمية عن الزهري، وفي السند إليه راو له أوهام وراو سيئ الحفظ، فهو إسناد ضعيف.

فلا شك في أن الرواية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم هي أنه قال “وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد”، وأن من رواه “وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه” فقد وهِم، وأن هذه اللفظة معلولة.

* ـ الحديث باللفظ الثابت الصحيح رواه البخاري في باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان من كتاب الحدود، وهذا الباب مناسب لمعنى الحديث.

وأما باللفظة المعلولة غيرِ الثابتة فرواه البخاري في باب ذكر أسامة بن زيد من كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الباب المناسب لجزء آخر في الحديث، وهو مكانة أسامة بن زيد حِب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلله در هذا الإمام الكبير، ورحمه الله رحمة واسعة.

* ـ وههنا مسألة في غاية الأهمية:

المشهور في عقوبة السارق عند أكثر الذين كانوا قبلنا هو أنه يُقتل أو يُحكم عليه بدفع غرامة مالية تبلغ عدة أضعاف قيمة المسروق.

وجاء الحكم الرباني في هذه الشريعة المحمدية بقطع يد السارق، لا بقتله ولا بغرامة مالية، وفي هذا حِكَم جليلة في الردع عن هذه الجريمة التي تقوض أمن المجتمعات.

أرى أنه لا ينبغي الاستشهاد بالرواية الثانية منسوبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم معزوةً لصحيح البخاري في موضوع حد السرقة عند الذين من قبلنا وخاصة أهل الكتاب، ففيها لفظة غير ثابتة في الحديث، وهذه الرواية وإن كانت مروية في صحيح البخاري فعلا فإن الإمام البخاري رحمه الله قد أوردها في بابٍ غيرِ الباب الملائم لهذه المسألة.

أود أن أشير بهذه المناسبة إلى أنه قد وقع أحيانا في بعض مصنفات الأئمة استشهادٌ بحديث مشتملٍ على عدة نقط في مسألة ما، وهذا يعني أن المصنف يرى صحة الجزء الذي يتعلق بالموضوع الذي هو محل الشاهد على الأقل، لكنه لا يعنى بالضرورة أنه يرى صحة الحديث بكل ألفاظه، وهذا كما وقع للإمام البخاري رحمه الله في عدد من المواضع في صحيحه.

ـ وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 16/ 4/ 1440، الموافق 23/ 12/ 2018، والحمد لله رب العالمين.

 

تعليق واحد على “من روائع الإمام البخاري (14) رحمه الله”

  1. تعليق من الشيخ طه فارس:
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    شيخنا الحبيب المحقق المدقق
    جزاك الله خير الجزاء بما تقدمه من نظرات فاحصة دقيقة، تبين فيها العلل الدقيقة الخفية التي لا يدركها إلا أمثالك
    لقد أفدت من بحثك القيم الذي يدل على دقة نظرك وعمق رؤيتك
    شيخنا الحبيب
    أقترح أن ترسم شجرة توضح فيها الأسانيد والرواة، فهو أسهل لإدراك الأمر وفهمه
    كما أقترح توثيق عقوبة السارق في الأمم السابقة
    ودمتم سيدي موفقين

التعليقات مغلقة.