تكفير من لا يستحق التكفير

كتاب : تكفير من لا يستحق التكفير

بقلم : صلاح الدين بن أحمد بن محمد سعيد الإدلبي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد خاتم النبيين، والمبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد، فكنتُ قد وقفت ـ منذ زمن بعيد ـ على كلام لأحد الباحثين يتحدث فيه عن جوانب من موضوع التكفير، ووجدت أنه لا بد من كتابة بعض التعليقات حول إيغاله في التكفير واستدلاله بما لا دليل له فيه، فكتبت هذا البحث منذ أكثر من ثمانية عشر عاما قمريا، وسميته في ذلك الوقت “التحذير مما اشتبه على المتسرعين في التكفير”.

رأى بعض الإخوة اليوم ـ في خضم انتشار الهجمة الفكرية التكفيرية ـ ضرورة نشره الآن، في 1435/ 2014، فهأنذا أستجيب لطلبهم، وأقدمه للنشر باسمه الجديد “تكفير من لا يستحق التكفير”، راجيا من المولى الكريم أن يتقبل منا جميعا بفضله وكرمه.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على نعمائه، والشكر له على امتنانه، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله تبارك وتعالى شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.

اللهم فصل وسلم وبارك عليه وعلى آله، وعلى من اتبع هديه وتمسك بسنته إلى يوم الدين.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وفقهاً في الدين.

{سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم}.

“اللهم اهدنا لما اختـُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم”.

 

موضوع البحث:

ـ اطلعت على أبحاث كتبها أحد الباحثين تتعلق بموضوع التكفير، اشتبه عليه فيها كثير من المسائل، فوددت أن أوضح بعض جوانب البحث، سائلاً المولى تعالى أن يوفقني للحق والصواب، وأن يجنبني الزلل، وأن ينفع بهذه الإيضاحات كل من قرأها بنية صادقة، بغيةَ الوصول إلى الحق، وأن يجعلنا متبعين للحق حيثما ظهر دليله، إنه ولي الهداية والتوفيق.

ـ قبل البدء بذكر المسائل التي أود مناقشتها في هذا الموضوع أرى أن أبدأ بذكر نقط الاتفاق ولو في الجملة، ثم أنتقل إلى نقط الاختلاف مع التعليق والمناقشة بإذن الله.

 

نقط الاتفاق:

قال الباحث: [يجب على كل مسلم حفظُ إسلامه وصونُه عما يفسده ويبطله ويقطعه، وهو الردة، والعياذ بالله تعالى، قال النووي وغيره: “الردة أفحش أنواع الكفر”].

ثم قال: “وقد كثر في هذا الزمان التساهلُ في الكلام حتى إنه يخرج من بعضهم ألفاظ تخرجهم عن الإسلام ولا يرون ذلك ذنباً، فضلاً عن كونه كفراً”.

ثم قال: “الكفر ثلاثة أنواع: كفر اعتقادي، وكفر فعلي، وكفر لفظي”.

أقول: هذا محل اتفاق في الجملة، لكن لا بالجملة، فمن اعتقد اعتقاداً يناقض ما ثبت ثبوتاً قاطعاً في الكتاب والسنة وعُلم من الدين بالضرورة فقد كفر، ومن فعل فعلاً أو قال قولاً يدل دلالة قاطعة على أنه صادر ممن يعتقد ذلك الاعتقاد فقد كفر.

 

نقط الاختلاف:

 

الكفر القولي والكفر العملي:

قال الباحث: “الأقوال الكفرية تخرِج من الإسلام مِن دون أن يقترن بها اعتقاد أو فعل، هذا ما اتفق عليه العلماء وأجمعوا عليه، فلا التفات إلى ما خالف ذلك”!.

وقال: [وقد كثر في هذا الزمان التساهلُ في الكلام حتى إنه يخرج من بعضهم ألفاظ تخرجهم عن الإسلام ولا يرون ذلك ذنباً، فضلاً عن كونه كفراً، وذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم “إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها في النار سبعين خريفاً”، أي مسافة سبعين عاماً في النزول، وذلك منتهى جهنم، وهو خاص بالكفار، والحديث رواه الترمذي وحسَّنه، وفي معناه حديث رواه البخاري ومسلم، وهذا الحديث دليل على أنه لا يُشترط في الوقوع في الكفر معرفة الحكم ولا انشراح الصدر ولا اعتقاد معنى اللفظ]. ونقل عن العلماء أنهم قالوا: “وإنْ لم ينوِ المعنى”.

ثم قال: [قال إمام الحرمين “اتفق الأصوليون على أن من نطق بكلمة الردة وزعم أنه أضمر تورية كفر ظاهراً وباطناً”، وأقرهم على ذلك، ذكره في نهاية المطلب، يعني إذا كان اللفظ صريحاً].

ثم قال: “اعلم أن الألفاظ قسمان: صريح ليس له إلا وجه واحد، وظاهر يحتمِل معنيين أحدهما أقرب من الآخر أوهما متساويان، فمن نطق بالكفر الصريح وهو عامد ـ أي بغير سبق اللسان ـ وغيرُ مكره وعالمٌ بمعنى اللفظ فهذا يكفر اللافظ به، ولا يدخله التأويل، فلا يُنظر بعد كون اللفظ صريحاً إلى قصد الشخص ولا إلى معرفته بحكم تلك الكلمة أنها تخرِج من الإسلام”.

ثم قال: “فمن سجد لصنم اعتقاداً أو بغير اعتقاد فقد كفر، فمن رأيناه يسجد لصنم كفـَّرناه ولا نسأله هل نويت به عبادته أم نويت غير ذلك؟”.

أقول: يَرِد على هذا الكلام مؤاخذات:

المؤاخذة الأولى:

ذكر الباحث في معرِض استدلاله لما يقول بأن منتهى قعر جهنم هو خاص بالكفار، وأنه مسافة سبعين عاماً في النزول، واستدل بالحديث الذي رواه الترمذي بلفظ “إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها في النار سبعين خريفاً”، معتمداً على تحسين الترمذي للحديث، مستروحاً إلى الجمع في هذه الرواية بين قوله “لا يرى بها بأساً” وقوله “يهوي بها في النار سبعين خريفاً”، ظاناً أن رواية الصحيحين موافقة لهذه الرواية في المعنى!!.

وإذا صح الحديث بهذا اللفظ المذكور فهو دليل على أنه لا يُشترط ـ في الوقوع في الكفر ـ معرفة الحكم ولا انشراح الصدر ولا اعتقاد معنى اللفظ.

ولكن لا يتم للباحث استدلاله بهذه الرواية التي يقول إنه قد حسَّنها الترمذي، لأن الاعتماد على تحسين الترمذي قد لا يكون حسناً، لأنه من المتساهلين في التصحيح والتحسين، شأنه في ذلك شأن الحاكم في مستدركه والذهبي في تلخيص المستدرك، ومن الأدلة على ذلك تحسين الترمذي لهذا الحديث باللفظ المذكور ـ حسب قول الباحث ـ وتصحيح الحاكم له وسكوت الذهبي على تصحيح الحاكم وهو مخالف لروايات الصحيحين وشواهدها.

ومما ينبغي التنبيه عليه أن الإمام الترمذي لم يقل هنا “حديث حسن”، ولكنه قال “حديث حسن غريب”، وبينهما فرق كبير.

اللفظ المذكور رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم، [[1] ]، ولكن رواه البخاري ومسلم بلفظ مغاير له، وهو “إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يَزِلُّ بها في النار أبعدَ مما بين المشرق والمغرب”. [[2] ].

وللرواية الراجحة الواردة في الصحيحين شواهد عن عدد من الصحابة ، [[3] ]، وهي تؤكد ثبوت اللفظ الوارد فيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، دون اللفظ الذي احتج به الباحث.

فتبين من هذا أن اللفظ الصحيح لهذا الحديث هو”إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزلُّ بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب”، وأن الرواية التي فيها “إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً في النار” رواية معلولة، فسقط استدلال الباحث بها.

المؤاخذة الثانية:

اعتمد الباحث على الرواية المرجوحة فاستنبط منها أن الرجل قد يتكلم بكلمة لا يرى بها بأساً فيكـْفرُ ويهوي بسببها إلى نهاية قعر جهنم، وهذا بخلاف أفهام العلماء السابقين، فإنهم فهموا من هذا الحديث أن الرجل قد يتكلم بكلمة لا يرى بها بأساً فيهوي بسببها في النار، لم يذكروا ـ حسبما وقفت عليه من أقوالهم ـ التكفيرَ والـهُوِيَّ إلى نهاية قعر جهنم.

فقد أورده الإمام البخاري في صحيحه وكذا البغوي في شرح السنة في كتاب الرقاق في باب حفظ اللسان، وأورده مسلم في صحيحه والترمذي في سننه في كتاب الزهد، والنسائي في السنن الكبرى في الرقائق، وابن ماجة في سننه في الفتن، والحاكمُ في المستدرك في الإيمان وفي الأهوال، والبيهقي في شعب الإيمان في باب حفظ اللسان في فضل السكوت عن كل ما لا يعنيه وترك الخوض فيه، وذكرَه الهيثمي في كتابه موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان في كتاب الإمارة في باب الكلام عند الأمير، وذكره المنذري في كتابه الترغيب والترهيب في كتاب الأدب في الترغيب في الصمت إلا عن خير والترهيبِ من كثرة الكلام، وذكره الخطيب التبريزي في كتابه مشكاة المصابيح في كتاب الآداب في باب حفظ اللسان والغيبة والشتم.

ومما ينبغي أن يُعلم أنه لا ارتباط بين إيراد الإمام الحاكم هذا الحديثَ ضمن كتاب الإيمان من مستدركه وبين المعنى الذي استنبطه الباحث، لأن المحدثين يذكرون في كتاب الإيمان كثيراً من الأحاديث المتعلقة بشعب الإيمان، من غير أن يكون المراد تكفيرَ من لم يتصف بها، ومناسبة هذا الحديث له أن حفظ اللسان وقولَ الكلمة الطيبة هو من شعب الإيمان، ويتـَّضح وجه المناسبة أكثر بالشق الآخر من الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم “وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يدري أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له رضاه إلى يوم يلقاه”.

وقال النووي في شرح الحديث: “معناه لا يتدبرها ويفكر في قبحها، ولا يخاف ما يترتب عليها، وهذا كالكلمة عند السلطان وغيره من الولاة، وكالكلمة بقذف، أو معناه: كالكلمة التي يترتب عليها إضرار مسلم، ونحو ذلك”. [شرح صحيح مسلم: 18/ 117].

وقال الإمام أبو عمر بن عبد البر: “لا أعلم خلافاً في قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث “إن الرجل ليتكلم بالكلمة” أنها الكلمة عند السلطان الجائر الظالم ليرضيه بها فيما يسخط الله عز وجل، ويزينَ له باطلاً يريده من إراقة دم أو ظلم مسلم ونحو ذلك مما ينحطُّ به في حبل هواه، فيبعُد من الله، وينال سخطه، وهكذا فسره ابن عيينة وغيره”. [التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر: 13/ 51].

ونقل ابن حجر جملة من أقوال العلماء الذين شرحوا هذا الحديث، فنقل جزءً من كلام ابن عبد البر، وأضاف قائلاً: “وزاد ابن بطال: بالبغي أو بالسعي على المسلم، فتكون سبباً لهلاكه وإن لم يرِد القائل ذلك، لكنها ربما أدت إلى ذلك، فيُكتب على القائل إثمها. قال ابن التين: هذا هو الغالب، وربما كانت عند غير ذي السلطان ممن يتأتى منه ذلك. ونقل عن ابن وهب أن المراد بها التلفظ بالسوء والفحش ما لم يرد بذلك الجحد لأمر الله في الدين. وقال القاضي عياض: يحتَمِل أن تكون تلك الكلمة من الخَنَا والرفث، وأن تكون في التعريض بالمسلم بكبيرة أو بمجون، أو استخفاف بحق النبوة والشريعة وإن لم يعتقد ذلك. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: هي الكلمة التي لا يعرف القائل حسنها من قبحها، فيحرم على الإنسان أن يتكلم بما لا يعرف حسنه من قبحه”. [فتح الباري: 11/ 311].

وأنت ترى أنه قد ذكر القاضي عياض احتمالين في تفسير الكلمة التي يقولها المرء غير مكترث بها فتلقيه في النار، وعطف عليهما احتمالاً ثالثاً، هو أنها كلمة الاستخفاف بحق النبوة والشريعة وإن لم يعتقد قائلها ذلك، ولم يقل إن هذا ردة، ويبدو أن هذا العطف هو من باب عطف المحرمات الموبقات بعضها على بعض.

وإذا استنبط العلماء السابقون ـ رحمهم الله وأجزل مثوبتهم ـ أشياء من الحديث الشريف واهتدى أحد المعاصرين لمعنى جديد وفهْم سديد فلا أرى هذا ممتنعاً، ففضل الله واسع، وعطاؤه لا حدَّ له ولا نهاية، {ما يفتحِ الله للناس من رحمة فلا ممسك لها}، ولكن: {قل هاتوا برهانكم}، فلا تـُقبل الدعوى إلا بدليل يثبت صحتها، ويظهر رجاحتها.

المؤاخذة الثالثة:

ادعى الباحث اتفاق العلماء وإجماعهم على أن الأقوال الكفرية تخرج قائلَها من الإسلام من دون أن يقترن بها اعتقاد، وهذا تسرع في دعوى الإجماع دون استقصاء ولا تمحيص، والواجبُ التثبتُ، وخاصة في مثل هذا الموضوع الخطير.

ومما ينبغي التنبه له أن بعض العلماء السابقين رحمهم الله وغفر لهم قد يطلقون دعوى الاتفاق أو الإجماع على أمر ثم يتبين أنه محل خلاف، فالحذرَ الحذرَ من التسرع.

ولست أنفي أن بعض العلماء قد جنح إلى بعض ما ادعى الباحث الاتفاق عليه، ولكنه قول مردود لافتقاره للدليل، وقد قال به بعض الفقهاء:

ـ فمن ذلك ما جاء في كتاب الدرر ـ من كتب الحنفية ـ أن من تكلم بكلمة كفرية وإن لم يعتقد أو لم يعلم أنها لفظة الكفر ولكن أتى بها عن اختيار فقد كفر عند عامة العلماء ولا يُعذر بالجهل!. [انظر: مجمع الأنهر: 1 / 696].

ـ ومن ذلك أن الشيخ عليًّا القاري قال: قال القونوي: “ولو تلفظ بكلمة الكفر طائعا غير معتقد له يكفر، لأنه راض بمباشرته وإن لم يرضَ بحكمه، كالهازل به، فإنه يكفر وإن لم يرض بحكمه، ولا يُعذر بالجهل، وهذا عند عامة العلماء، خلافاً للبعض”!. [شرح الفقه الأكبر: ص 241]. وقال الشيخ علي القاري: “ثم اعلم أنه إذا تكلم بكلمة الكفر عالماً بمعناها ولا يعتقد معناها لكن صدرت عنه من غير إكراه بل مع طواعية في تأديته فإنه يُحكم عليه بالكفر، بناءً على القول المختار عند بعضهم من أن الإيمان هو مجموع التصديق والإقرار، فبإجرائها يتبدل الإقرار بالإنكار”!. [شرح الفقه الأكبر: ص 244]. وقال الشيخ علي القاري: أما إذا تكلم بكلمة ولم يدرِ أنها كفر ففي فتاوى قاضيخان حكاية خلاف من غير ترجيح، حيث قال: قيل لا يكفر لعذره بالجهل، وقيل يكفر ولا يُعذر بالجهل. قال الشيخ علي القاري: والأظهر الأول، إلا إذا كان من قبيل ما يُعلم من الدين بالضرورة فإنه حينئذ يكفر ولا يُعذر بالجهل!. [شرح الفقه الأكبر: ص 244 – 245].

ـ ومن ذلك أن الفقيه المالكي الشيخ محمد عليش سئل: ما قولكم في رجل جرى على لسانه سب الدين من غير قصد هل يكفر؟ أو لا بد من القصد؟. فأجاب: “نعم، ارتد، لأن السب أشد من الاستخفاف، وقد نصوا على أنه ردة، فالسب ردة بالأولى، وفي المجموع: ولا يُعذر بجهل وزلل لسان”!. [فتح العلي المالك: 2/ 348].

وفتوى الشيخ محمد عليش هنا بعدم اعتبار القصد غريبة، لأنها مخالفة لما سأنقله عنه من فتاواه الأخرى المناقضة لها، وأغرب منها ما نقله عن المجموع ـ من كتب المالكية ـ من أن الرجل لا يُعذر بزلل اللسان! فتأمل واعجب!.

* ولكن: هل أقوال سائر العلماء في هذه المسألة موافقة لما ذكره هؤلاء؟ وهل صحيح أنهم أجمعوا على هذا؟!.

لا بد من استعراض أقوالهم وتتبعها، وهذه جملة مما وقفت عليه مما ينقض ذلك:

ـ هذه بعض النصوص عند فقهاء المالكية:

ـ قال القرافي: قال مالك: “إن ناديتَه فأجابك لبيك اللهم لبيك جاهلا لا شيء عليه”. [الذخيرة للقرافي 12/ 21].

ـ قال العتبي في المستخرجة: وسئل مالك عن رجل نادى رجلا باسمه فقال لبيك اللهم لبيك أعليه شيء؟ قال مالك: “إن كان جاهلا أو على وجه السفه فلا شيء عليه”.

قال ابن رشد الجد في شرح هذا القول: “وأما الذي قاله على وجه السفه ولم ير عليه مالك في ذلك شيئا فمعناه: الذي يقوله على وجه الاستخفاف بالداعي له، ولا يُحمل على أحد أنه قال لأحد مجِدًّا معتقدا أنه إلهه إلا أن يقِر بذلك على نفسه وهو عاقل غير مجنون ولا سكران”. [البيان والتحصيل لابن رشد: 16/370 – 371 ].

ـ قال الإمام القاضي عياض: [وأما من تكلم من سقط القول وسخف اللفظ ممن لم يضبط كلامه وأهمل لسانه بما يقتضي الاستخفاف بعظمة ربه وجلالة مولاه غيرَ قاصد للكفر والاستخفاف ولا عامد للإلحاد: فإن تكرر هذا منه وعُرف به دلَّ على تلاعبه بدينه واستخفافه بحرمة ربه وجهله بعظيم عزته وكبريائه، وهذا كفر لا مرية فيه، وأما من صدرت عنه من ذلك الهَنَة الواحدة والفلتة الشاردة ـ ما لم يكن تنقصا وإزراءً ـ فيُعاقب عليها، ويُؤدب بقدر مقتضاها وشنعة معناها وصورة حال قائلها وشرح سببها ومقارنها، وقد سئل ابن القاسم رحمه الله عن رجل نادى رجلاً باسمه فأجابه “لبيك اللهم لبيك”، فقال: إن كان جاهلاً أو قاله على وجه سفه فلا شيء عليه]. قال القاضي عياض معلقًا على كلام ابن القاسم: “وشرْح قوله: أنه لا قتل عليه، والجاهل يُزجر ويُعلم، والسفيه يُؤدب، ولو قالها على اعتقاد إنزاله منزلة ربه لكفر”. [الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض: 2/ 299 – 300]. ومعنى “اللهم”: أي يا الله.

ـ قال الإمام ابن رشد الجد: “فلا يعْلم أحد كفر واحد ولا إيمانه قطعاً، إلا بالنص، أو بأن يظهر منه عند المناظرة والمجادلة والمباحثة لمن ناظره أو باحثه ما يقع له به العلم الضروري بأنه معتقد لما يجادل عليه من كفر، إلا أن أحكامه تجري على الظاهر من حاله، فمن ظهر منه ما يدل على الكفر حُكم له بأحكام الكفر، ومن ظهر منه ما يدل على الإيمان حُكم له بأحكام الإيمان”. [البيان والتحصيل: 16/ 364].

ـ  قال الإمام القرطبي في تفسيره: “وليس قوله تعالى {أنْ تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} بموجبٍ أن يكفر الإنسان وهولا يعلم، فكما لا يكون الكافر مؤمناً إلا باختياره الإيمانَ على الكفر كذلك لا يكون المؤمن كافراً من حيث لا يقصد إلى الكفر ولا يختاره، بإجماع، كذلك لا يكون الكافر كافراً من حيث لا يعلم”. [الجامع لأحكام القرآن: 16/ 308].

ـ  وقال القرافي فيمن تكلم في النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يليق: “ومن لم يقصد الازدراء ولا يعتقده في تكلمه بالسب أو اللعن أو التكذيب أو إضافة ما لا يجوز عليه أو نفي ما يجب له مما هو نقص في حقه وظهرَ عدمُ تعمدِه وقصدِ السب إما لجهالة أو لضجر أو سكر أو قلة ضبط لسان وتهور في كلامه: فإنه يُقتل، ولا يُعذر أحد في الكفر بالجهالة ولا غيرها وهو سليم العقل إلا للإكراه، وأما القاصدُ لذلك المصرحُ فأشبهُ بالمرتد، ويَقـْوَى الخلاف في استتابته”. [الذخيرة: 12/ 23]. فانظر كيف فرَّق بين القاصد وغير القاصد.

ـ  وقال القرافي: “ومشهور المذهب قتـْل السابِّ حدًّا لا كفرًا، والساب المعتقد حِلـَّه كافر، اتفاقاً”. [الذخيرة: 12/ 26].

وقال القرافي كذلك: [إن أتى بسخيف القول غير قاصد للكفر والاستخفافِ كالقائل لما نزل عليه المطر “بدأ الخَرَّاز يرش جلوده”: أفتى جماعة بالأدب فقط لأنه عبث، وأفتى جماعة بقتله لأنه سب، هذا إن كان يتكرر منه، أما الفلتة الواحدة فالأدب]. [الذخيرة: 12/ 30]. والخرَّاز هو الذي يقص الجلود ثم يخرزها فيعمل منها المصنوعات الجلدية.

ـ  قال العلامة ابن الشاط قاسم بن عبد الله الأنصاري المتوفى سنة 723 رحمه الله تعالى رحمة واسعة: “وكيف يلتبس الكفر بالكبائر؟! والكفر أمر اعتقادي، والكبائر أعمال وليست باعتقاد، سواء كانت أعمالاً قلبية أو بدنية”.

وقال: “إن كان السجود للصنم مع اعتقاد كونه إلها فهو كفر، وإلا فلا، بل يكون معصية إن كان لغير إكراه، أو جائزا عند الإكراه”. [إدرار الشروق على أنواء البروق للعلامة ابن الشاط: 4/ 115].

ـ نقل الفقيه المالكي الشيخ محمد عليش عن شيخ الإسلام البُرْزُلي أحد أئمة المالكية في القيروان المتوفى سنة 844 رحمه الله تعالى أنه قال في الحكم بالردة: “والذي عندي في المسألة أنه لا يترتب على من سب أو دعا أو تنقص إلا بشرطين: أحدهما حَمْل اللفظ على مدلوله العرفي، والثاني قصْد استعماله فيه، فإن عُدما أو أحدُهما فالذي عندي فيها أنه يُؤدب أدبا موجعا ويُطال حبسه”. [فتح العلي المالك: 2/ 346].

ـ يرى جماعة من المالكية أنه “إذا تنصرت المرأة راجية بذلك فراق زوجها لكراهتها فيه ضُربت ضربا وجيعا ثم رُدَّت إليه، أحبتْ أو كرهتْ، وإنما تفارقه وتملك نفسها إذا ارتدت كراهيةً في الإسلام وحرصًا على الدين الذي دخلت فيه فلما استـُتيبت رجعت إلى الإسلام”. وخالف بعض المالكية وقال: الردة تزيل العصمة كيف كانت. وتوقف فيها بعضهم. [إيضاح المسالك للونشريسي: ص 318-319]. فكيف يرى الأولون أنها تـُضرب ضربا وجيعا ولا تـُقتل؟! وأنها تـُرد إلى زوجها رغما عنها ولا ينفسخ عقد نكاحها؟! أفليس هذا لأن قرائن الحال دلت على أنها لم تقصد الكفر بقلبها؟!.

ـ قال ابن فرحون عن التردد إلى الكنائس والتزام الزنار في الأعياد وتلطيخ الركن الأسود بالنجاسات وإلقاء المصحف في القاذورات: “وهذه الأفعال دلت على الكفر، لا أنها هي كفر، لما قام من الأدلة على بطلان التكفير بالذنوب”. [تبصرة الحكام: 2 / 282]. وبنحوه قال الشيخ علي بن خليل الطرابلسي الحنفي المتوفى سنة 844. [معين الحكام: ص 191].

ـ قال الشيخ البناني في مسألة وضع البصاق على المصحف: “أما إن بلَّ أصابعه لقصد قلب أوراقه فهو وإن كان محرماً لا ينبغي أن يُتجاسر على القول بكفره وردته، لأنه لم يقصد التحقير الذي هو موجِب الكفر في هذه الأمور”. [حاشية البناني على شرح الزرقاني لمختصر سيدي خليل: 8/ 63]. وقد نقل عنه الشيخ محمد عليش هذا الفرع باختصار مع هذا التعليل وأقره. [منح الجليل: 9/ 206].

ـ سئل الشيخ محمد عليش: ما قولكم في رجل أراد قراءة ربعة قرآن في بيته، فوجد بعض الأجزاء غائباً والفقيه الذي هي موقوفة تحت يده كذلك، فقال “داهية تجيء الربعة وأصحابها”، فهل يرتد بذلك وتجري عليه أحكام المرتد؟. فأجاب: “لم يرتدَّ بذلك، فلا تجري عليه أحكام المرتد، لدلالة السياق على أن مراده الجلد والورق والنقوش، لا مدلولها من ألفاظ القرآن العزيز، نعم، يُنكر عليه ويُزجر ويُؤدب حتى لا يعود إلى مثله. [فتتح العلي المالك: 2/ 347].

ـ وقال الشيخ محمد عليش: “يؤخذ من هذا: الحكمُ فيمن سب الدين أو الملة أو المذهب، وهو يقع كثيراً من بعض سفلة العوام كالحَمَّارة والجَمَّالة والخدامين، وربما وقع من غيرهم، وذلك أنه إن قصد الشريعة المطهرة والأحكام التي شرعها الله تعالى لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فهو كافر قطعاً، وإن قصد حالة شخص وتدينه فهو سب المسلم، ففيه الأدب باجتهاد الحاكم، ويُفرق بين القصدين بالإقرار والقرائن، وبعضهم يجعل القصد الثاني كالأول في الحكم”. [فتح العلي المالك: 2/ 347].

ـ وعلق الشيخ محمد عليش على تمثيل الشيخ خليل للفعل الذي يتضمن الكفر بشد الزنار فقال: “إنْ شده مسلم محبة لذلك الدين وميلاً لأهله، لا هزلا ولعبا وإنْ حَرُمَ”. [منح الجليل: 9/ 206].

ـ وهذه بعض النصوص عند فقهاء الحنفية:

ـ قال الإمام الطحاوي: “ولا يخرج العبدُ من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه”. [العقيدة الطحاوية: الفقرة 61].

ـ قال السَرَخْسي في مبحث تطليق السكران وارتداده: “لأن الردة تنبني على الاعتقاد”. [المبسوط للسرخسي: 10/ 123].

ـ قال الكاساني رحمه الله: “الإيمان في الحقيقة تصديق، والكفر في الحقيقة تكذيب، وكل ذلك عمل القلب”. وقال رحمه الله: “والإيمان والكفر يرجعان إلى التصديق والتكذيب، وإنما الإقرار دليل عليهما”. [بدائع الصنائع: 7/ 178، 134].

ـ  قال ابن نجيم: وفي الجامع الأصغر: إذا أطلق الرجل كلمة الكفر عمداً لكنه لم يعتقد الكفر قال بعض أصحابنا لا يكفر، لأن الكفر يتعلق بالضمير ولم يعقد الضمير على الكفر، وقال بعضهم يكفر، وهو الصحيح عندي، لأنه استخف بدينه. [البحر الرائق: 5/ 134].

فهذا إمام من أئمة الحنفية ـ وهم أكثر أهل المذاهب تكفيرا بالأقوال ـ ينقل عن فقهاء الحنفية في هذه المسألة قولين، فعجبًا لمن يظن هذه المسألة إجماعية!!. وأما صاحب الجامع الأصغر فقد صحح القول بالتكفير، لكنه علله بقوله “لأنه استخف بدينه”، وقضية هذا التعليل تشعر بأن المعنى الذي لأجله يُرجَّح الحكم بالتكفير هو الاستخفاف، والاستخفاف بالدين كفر، وإذا حصل هذا من المكلف فقد عقد الضميرَ على الكفر، وبهذا يقع الاتفاق وينحل الإشكال.

ـ وقال ابن نجيم في مبحث النية في الطلاق بعد ذكر عدة مسائل: “ولا ينافيه قولهم إن الصريح لا يحتاج إلى النية، فظهر بهذا أن الصريح لا يحتاج إليها قضاءً، ويحتاج إليها ديانة”. [الأشباه والنظائر: ص 19]. رحمَ الله ابنَ نجيم رحمة واسعة.

وقال ابن نجيم كذلك: “وكذا قولهم بكفره إذا قرأ القرآن في معرِض كلام الناس، كما إذا اجتمعوا فقرأ {فجمعناهم جمعًا}، وكما إذا قرأ {وكأسًا دهاقًا} عند رؤية كأس، وله نظائر كثيرة في ألفاظ التكفير، كلها ترجع إلى قصْد الاستخفاف به”. [الأشباه والنظائر: ص 22]. فرحمه الله رحمة واسعة.

وقال ابن نـُجَيم كذلك: “وأما الكفر فيُشترط له النية، لقولهم إنَّ كفـْر المكره غير صحيح، وأما قولهم إنه إذا تكلم بكلمة الكفر هازلاً يكفر إنما هو باعتبار أن عينه كفر”. [الأشباه والنظائر: ص 15]. ومعنى “هازلا” أي قاصدا الهزل به، وعيْن الهزل بقضايا الإيمان التي تـُنزه وتـُصان عن الهزل كفر، فمن قصده فقد كفر لتحقق نية الكفر فيه. [وانظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 8 / 197].

ـ وهذه بعض النصوص عند فقهاء الشافعية:

ـ سئل الإمام أبو منصور الأزهري عمن يقول بخلق القرآن: أتسميه كافرا؟. فقال: “الذي يقوله كـُفـْرٌ”. ثم قال في المرة الثالثة: “قد يقول المسلم كفرًا”. [انظر: مجمع بحار الأنوار للفتـَّني: 4/ 419]. فانظر إلى التفريق بين وصف الكلام بأنه كفر ووصف القائل بأنه كافر. [أبو منصور الأزهري هو الفقيه الشافعي اللغوي الورع الثقة الثبت محمد بن أحمد بن الأزهر الأزهري الهروي، صاحب تهذيب اللغة وغيره، المتوفى سنة 370 هـ].

ـ قال أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي نقلاً عن الأصحاب أي من الشافعية والأشاعرة: “والسجود للشمس أو للصنم وما جرى مجرى ذلك: من علامات الكفر وإنْ لم يكن في نفسه كفراً إذا لم يضامَّه عقد القلب على الكفر، ومَن فعل شيئاً من ذلك أجرينا عليه حكم أهل الكفر وإن لم نعلم كفره باطناً”. [أصول الدين لأبي منصور البغدادي: ص 266].

ـ قال النووي في الروضة: قال المتولي: “من اعتقد قِدَم العالم أو حدوث الصانع كان كافرا، وكذا من جحد جواز بعثة الرسل أو أنكر نبوة نبي من الأنبياء، أو عظـَّم صنما بالسجود له أو التقرب إليه بالذبح باسمه: فكل هذا كفر”. [روضة الطالبين للنووي: 10/ 64 ـ 65].

ـ قال الإمام الغزالي رحمه الله: “فإن قيل السجود بين يدي الصنم كفر وهو فعل مجرد لا يدخل تحت هذه الروابط فهل هو أصل آخر؟ قلنا: لا، فإن الكفر: في اعتقاده تعظيمَ الصنم، وذلك تكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآنِ، ولكن يُعرف اعتقادُه تعظيمَ الصنم: تارة بتصريح لفظه، وتارة بالإشارة إن كان أخرس، وتارة بفعل يدل عليه دلالة قاطعة كالسجود حيث لا يحتمِل أن يكون السجود لله وإنما الصنم بين يديه كالحائط وهو غافل عنه، أو غيرُ معتقد تعظيمَه، وذلك يعرف بالقرائن”. [الاقتصاد في الاعتقاد: ص 160]. رحم الله الإمام الغزالي رحمة واسعة.

ـ قال تقي الدين الحصني: “إذا قال شخص إن فعلتُ كذا فهو يهودي أو نصراني أو بريء من الله أو من رسوله أو مستحلٌ الخمرَ ونحوَه لم يكن يمينا، ولا كفارة في الحنث به، ثم إن قصد بذلك تبعيد نفسه عنه ـ يعني عن هذا اليمين ـ لم يكـْفر، وإن قصد به الرضا بذلك أو ما في معناه إذا فعله فهو كافر في الحال، وإذا لم يكفر ـ في الصورة الأولى ـ فليقل لا إله إلا الله محمد رسول الله ويستغفر الله تعالى”. [كفاية الأخيار: 2/ 154].

أي إذا قال شخص “إن فعلتُ كذا فأنا يهودي”، وكثير من العلماء رحمهم الله يرغبون عن الإتيان بهذا اللفظ ولو على سبيل الحكاية، ومراده أن الشخص إذا قال ذلك القول ثم فعل الشيء الذي علـَّق به الحكم فإننا لا نبادر إلى تكفيره، إذ قد يكون قصْده من ذلك القول مجردَ تبعيد نفسه من ذلك الفعل، وأما إذا قصد الرضا بالحكم الذي علـَّقه بذلك الفعل فإذ ذاك يكون كافراً من ساعته. فتأمل هذا التفريق رغم أن ذلك القول مع فعل ذلك الشيء صريح في الكفر.

ـ قال الفقيه الشافعي إسماعيل بن أبي بكر ابن المقرئ المتوفى سنة 837 في كتابه الإرشاد: “الردة كفر مسلمٍ مكلفٍ، بنيةٍ، أو فعلٍ أو قولٍ باعتقاد”. [انظر: فتح الجواد بشرح الإرشاد: 2/ 298].

ـ قال ابن حجر العسقلاني: قال جمهور العلماء: من حلف باللات والعزى لم تنعقد يمينه، وعليه أن يستغفر الله، ولا كفارة عليه، ويُستحب أن يقول لا إله إلا الله. [فتح الباري: 11/ 536]. تأمل حيث لم يكفروا المسلم بهذا إذا لم يكن الظاهر من حاله أنه يريد حقيقة القسم بهما.

ـ قال السيوطي في مبحث النية بعد أن ذكر مدخل النية في الكنايات في العقود: “وتدخل أيضاً فيها في غير الكنايات في مسائل شتى، كقصد لفظ الصريح لمعناه”. [الأشباه والنظائر: ص 44]. فقد أفصح رحمه الله تعالى رحمة واسعة عن أن النية لا يقتصر دخولها على مسائل الكنايات من الألفاظ، بل إنها تدخل كذلك في مسائل تتعلق باللفظ الصريح، ومن تلك المسائل اشتراطُ أن يقصد لافظُ الصريح به المعنى الذي وُضع له ذلك اللفظ واعتـُبر أنه صريح فيه، وهذا يعني أنه لو لم يوجد قصْد لفظ الصريح لمعناه لما وقع حكمه.

ـ قال ابن حجر الهيتمي في مسألة السجود للشمس نقلاً عن كتاب المواقف وشرحه: “لو عُلم أنه لم يسجد لها على سبيل التعظيم واعتقاد الإلهية بل سجد لها وقلبه مطمئن بالتصديق لم يُحكم بكفره فيما بينه وبين الله وإن أُجري عليه حكم الكافر في الظاهر”. [الإعلام بقواطع الإسلام: 2/ 348 المطبوع في آخر كتاب الزواجر].

وقال ابن حجر الهيتمي في تعليل ما أفتى به على رجل بأنه يُخشى عليه من الكفر: “فعملنا بما دل عليه لفظه صريحاً بواسطة القرينة المذكورة، وقلنا له: أنت حيث أطلقت هذا اللفظ ولم تؤول كنت كافراً، لتضمُّن لفظك تسميةَ الإسلام كفراً وإن لم تقصد ذلك، لأنا إنما نحكم بالكفر باعتبار الظاهر، وقصْدك وعدمه إنما ترتبط به الأحكام باعتبار الباطن، لا الظاهر”. [الإعلام بقواطع الإسلام: 2/ 19 بحاشية كتاب الزواجر].

وقال ابن حجر الهيتمي كذلك: “ولو كان في ضيق من حبس أو فقر وقصَد بالتلفظ بمكفر أن يُقتل ليستريح لا حقيقةَ الكفر فهل هو كافر باطناً؟ أو نقول هذه قرينة تنفي الكفر عنه باطناً؟؟ كلٌّ محتمِل، ولعل الثاني أقرب”. [الإعلام بقواطع الإسلام: 2/ 382 المطبوع آخر الزواجر].

ـ قال الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن عيسى المشهور نقلاً عن الفقيه الشافعي الشيخ محمد بن أبي بكر الأشخر في تصوير المسألة على شخص ما: “حَكـَمَ عليه حاكمٌ، فتبرمَ، فقال استهزاءً ليس هذا الشرع بشيء قط: كفرَ، كما لو قال لفتوى أيُّ شيء هذا الشرع؟!، أو قيل له احضرْ مجلس العلم فقال ما هذا بشيء، أو قال قصعة من ثريد خير من العلم، فحينئذ تجري عليه أحكام المرتدين من الاستتابة وغيرها، نعم، إن قال لم أردِ الشرع بل أردت الحكم عليَّ ظننته غير مستند إلى جهة تقتضيه: عُزر تعزيراً بليغاً زاجراً لمثله عن إطلاق مثل هذا القول، ومن تأمل أحوال أهل الزمان لم يشكَّ في استخفافهم بالشرع وحَمَلَته وبالفقه وخَدَمَته”. [بغية المسترشدين للشيخ عبد الرحمن المشهور: ص 248].

* هذا ولو سألت اليوم رجلاً على مذهب التسرع في التكفير عن رجل نادى رجلاً باسمه فأجابه “لبيك اللهم لبيك” وهل يؤثــِّر في الحكم كونُه جاهلاً بأن مثل هذا اللفظ قد يكون كفراً أو كونُه قد قاله على وجه سفه؟ لأجابك في الحال: هذا الرجل كافر، وسواء أكان جاهلاً أو قاله على وجه سفه، وربما قال: هذا بالإجماع!!.

ـ ولو سألته عن رجل صدرت منه كلمة من سَقـَط القول وسُخف اللفظ مما يقتضي الاستخفاف بعظمة ربه وجلالة مولاه غير قاصد للكفر والاستخفاف؟ لأجابك في الحال: هذا كافر.

ـ ولو سألته عن رجل سب الدين أو تنقصه بلفظ فيه معنى السب والتنقص إلا أنه لم يقصد استعماله في هذا المعنى؟ لأجابك في الحال: هذا كافر، وسواء أقصد بلفظه هذا المعنى أو لم يقصد.

ـ ولو سألته عن رجل سب الربعة ـ أي نسخة المصحف الشريف المجزأة إلى ثلاثين جزءً ـ بقوله “داهية تجيء الربعة وأصحابها” وهل يؤثر في الحكم دلالة السياق على أن مراده الجِلدُ والورق والنقوش لا مدلولها من ألفاظ القرآن العزيز؟ لأجابك في الحال: هذا كافر، ولا تأثير لدلالة السياق.

ـ والغريب في الأمر دعوى الإجماع!!، وكأن الإمام مالكا وتلميذَه ابنَ القاسم وسائر العلماء المذكورين وغيرَهم رحمهم الله تعالى ليسوا من علماء المسلمين، ولا من أهل الغيرة على الدين!!.

ـ ولو سألته عن تعريف الفقيه الشافعي ابن المقرئ للردة بأنها “كفرُ مسلمٍ مكلف بنية أو فعلٍ أو قولٍ باعتقاد”؟ وعن اشتراطه للحكم بالردة العملية أو القولية أن يكون الفعل أو القول مقترناً باعتقاد كفري؟ لرد هذا الكلام في الحال، ولنفى ابنَ المقرئ عن دائرة العلماء الفقهاء، ولنسبه إلى مخالفة الإجماع!!.

ـ ولو سألته: هل يكون المؤمن كافرا من حيث لا يقصد إلى الكفر ولا يختاره كما لا يكون الكافر مؤمناً إلا باختياره الإيمانَ على الكفر؟ وما حكم من يلتزم هذا ويدعي عليه الإجماع؟ لبادر بالإنكار والتجهيل، ولربما ثـنـَّى بالتبديع والتضليل، إذ يرى سلاح “الإجماع” الذي كان يشهره في وجه من لا يتفق معه في مُدَّعاه قد سقط من يده وصار في الطرف المقابل. ولكن كيف لو عرف أن الذي قاله وعزاه للإجماع هو الإمام القرطبي صاحب الجامع لأحكام القرآن؟!!.

 

المؤاخذة الرابعة:

إن ترتيب حكم الكفر على من تلفظ بشيء من الأقوال الكفرية من دون أن يقترن بها اعتقادٌ ولا انشراحُ صدر ولا قصدٌ: فيه غفلة عن إيماءات الكتاب العزيز ودلائل السنة النبوية:

ـ فمن الآيات القرآنية الكريمة قوله تعالى {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن مَن شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله، ولهم عذاب عظيم}. [الآية: 106 من سورة النحل]. فقوله تعالى {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} يدل على نفي الحرج في النطق بكلمة الكفر عمن أكره عليها وقلبه مطمئن بالإيمان، وعلى كفر من نطق بها وقلبه غير مطمئن بالإيمان، وفي قوله تعالى {ولكن من شرح بالكفر صدراً} إيماء إلى أن علة كفر الكافر هنا هي انشراح صدره بالكفر، والكفر هو ما سوى اطمئنان القلب بالإيمان وبمحبته وتعظيمه، سواء أكان شكـًّا في الإيمان أو استهزاءً بخصاله أو اطمئنانًا بنقيضه. ولا حاجة إذن للقول بتخصيص {من شرح بالكفر صدراً} بالمكره، إذ لا دليل عليه، ولا داعي للقول به إذا فـُهم معنى الكفر كما ذكرته.

ـ ومن الآيات الكريمة قوله تعالى {وليس عليكم جُناح فيما أخطأتم به، ولكنْ ما تعمدت قلوبكم، وكان الله غفوراً رحيماً} [الآية: 5 من سورة الأحزاب]. فقوله تعالى {وليس عليكم جُناح فيما أخطأتم به} ينفي الحرج عمن أخطأ في دعاء المتبنـَّى لغير أبيه، وفي ضمن ذلك إثباته لمن صدر منه ذلك لا على وجه الخطأ، وفي قوله تعالى {ولكنْ ما تعمدت قلوبكم} إيماء إلى أن علة الإثم في حالة وقوعه هي تعمد القلب لذلك.

ـ ومن الآيات الكريمة قوله تعالى {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، والله غفور حليم}. وقوله تعالى {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان}. [الآية 225 من سورة البقرة، والآية 89 من سورة المائدة]. فقوله تعالى {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} نصٌّ في عدم المؤاخذة باللغو في اليمين، وظاهرٌ في إثبات المؤاخذة بما ليس لغوا في اليمين، وفي قوله تعالى {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} وقولِه {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} إيماء إلى أن علة المؤاخذة في اليمين هي عقد القلب عليها واكتسابه لها.

ـ فهذه الإيماءات القرآنية تشير إلى أن مناط المؤاخذة في الحكم التكليفي هو القصد القلبي، فالآخذ بها يعلم أن العلة فيما استـُثـْني هي عدم وجود القصد، كحالة الإكراه على التلفظ بكلمة الكفر، والخطأِ في دعاء المتبنـَّى لغير أبيه، والحَلِفِ بالله في لغو اليمين، ومن الممكن أن تـُقاس على هذه الحالات نظائرها، ومن غـَفـَل عن هذه الإيماءات ـ وخاصة في قضية التكفير ـ جعل قوله تعالى {ولكنْ من شرح بالكفر صدراً} خاصاً بحالة الإكراه وقَصَرَ المستثنيات على مَحَالـِّـها، وعمَّم حكم التكفير على ما عداها، حتى ولو كان قائلها لا يقصد أي معنى من معاني الكفر!!، وهذا من الجمود على الألفاظ وعدم الغوص على المعاني.

ـ ومن الأحاديث النبوية الشريفة قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق على صحته “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى”. [صحيح البخاري: 1/ 9. صحيح مسلم: 13/ 53].

وقد نقل النووي عن الإمام الشافعي رحمهما الله أن هذا الحديث يدخل في سبعين باباً من الفقه، ثم قال: “وفيه دليل على أن الطهارة وهي الوضوء والغسل والتيمم لا تصح إلا بالنية، وكذلك الصلاة والزكاة والصوم والحج والاعتكاف وسائر العبادات، وتدخل النية في الطلاق والعتاق والقذف، وإن نوى بصريحٍ غيْرَ مقتضاه دُيِّن فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يُقبل منه في الظاهر”. [شرح صحيح مسلم: 13/ 53، 54].

ولا شك في أن النية تدخل في أبواب الإيمان، والعلم، والجهاد، والذكاة، والغصب، والنكاح، والأيمان، والنذر، ويجب أن تدخل كذلك في باب الردة.

وتأمل قوله “وإن نوى بصريحٍ غيْرَ مقتضاه دُيِّن فيما بينه وبين الله تعالى”، فرحمه الله رحمة واسعة.

ـ ومن الأحاديث النبوية حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه ما يزن من الخير ذرة”. [صحيح البخاري: 13/ 393]. وحديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “فيقول الله تعالى اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه”. [صحيح البخاري: 13/ 421. صحيح مسلم: 3/ 31].

وقوله عليه الصلاة والسلام في هذه الأحاديث “في قلبه” دليل على أن أدنى وأقل مراتب المؤمن الذي لا يُخلد في جهنم هي أن يكون في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وأن الكافر مَن ليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وفيها إشارة إلى أن أصل الإيمان أو الكفر هو في القلب وثمرات كل منهما تظهر على الجوارح، فلا يصح أن يُطلق على رجل من أهل الإيمان وصْف الكفر إذا تلفظ بلفظ كفري دون أن يقصد المعنى الكفري.

“اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك”.

ـ ويُستأنس للتفريق بين الحالتين بحديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “أيها الناس، اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل”. فقال رجل: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟. فقال: “قولوا اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم”. [مسند أحمد: 4 / 403. المعجم الأوسط للطبراني من مجمع البحرين: 8 / 191]. وفي سنده أبوعلي الكاهلي، لم أجد فيه سوى أن ذكره ابن حبان في كتاب الثقات. [5 / 562]. ويمكن أن يتقوى بما رُوي عن معقل بن يسار أو غيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي بكر t: “والذي نفسي بيده، لَلشركُ أخفى من دبيب النمل، ألا أدلك على شيء إذا قلته ذهب عنك قليله وكثيره؟! قل اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم”. [الأدب المفرد للبخاري: ص 214-215. مسند أبي يعلى: 1 / 60-62. عمل اليوم والليلة لابن السني: ص 78. العلل للدارقطني: 1/ 191- 192].

ففي هذا الحديث يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم التوجه إلى الله تبارك وتعالى، طالبين أن يحصِّننا ويعصمنا من أن نشرك به ونحن نعلم، وسائلين المغفرة لما قد يقع منا ونحن لا نعلم. أفليس هذا تفريقاً بين الحالتين؟!.

وحسبي أن أكون قد أوضحت أنْ لا حجة للباحث فيما استدل به على دعواه، وأن لا إجماع من العلماء عليها، بل أكثر العلماء قائلون بخلافها، وفاقاً لإيماءات الكتاب العزيز ودلائل السنة النبوية.

أما من قال قولاً كفرياً أو عمل عملاً كفرياً قاصداً معناه الكفري فهو كافر لا شك في كفره حتى وإن لم يقصد بقوله أو عمله الخروجَ من الإسلام، وبين قصْد المعنى الكفري وقصْد الخروج من الإسلام فرْق كبير.

 

أثر حالة غضب المتلفظ في الحكم بتكفيره:

قال الباحث: [وكذلك لا يُشترط في الوقوع في الكفر عدم الغضب، كما أشار إلى ذلك النووي، قال: لوغضب رجل على ولده أو غلامه فضربه ضرباً شديداً، فقال له رجل “ألست مسلماً؟”، فقال “لا” متعمداً كفر. وقاله غيره من حنفية وغيرهم].

وقال الباحث: “لا يوجد في الكتب المؤلفة في المذاهب الأربعة التفريق بين من يسب الله تعالى في حال الرضا ومن يسب في حال الغضب في الحكم بالتكفير، ولم يوجد من أحد منهم استثناء لحالة الغضب”.

أقول: أما المسألة التي نقلها الباحث عن الإمام النووي فإضافة النووي كلمة “متعمداً” تتضمن الإشارة إلى أنه قال “لا” قاصداً معنى ما يقول، وإنما حكم على ذلك الرجل بالكفر لأن غضبه لم يكن بدرجة أفقدته صوابه وأذهلته عن قصده.

وأما أنه لم يوجد من أحد من العلماء استثناء لحالة الغضب فيبدو أن هذا حسب اطلاع الباحث، فقد سئل الإمام الفقيه أصبغ بن الفرج عن الرجل يكون له على الرجل دين، فيلزمه حتى يغضب، فيقول له الغريم “صل على محمد”، فيقول صاحب الدين وهو مغضب “لا صلى الله على من صلى عليه”، هل ترى على هذا القتلَ وتراه كمن شتم النبي وشتم الملائكة الذين يصلون عليه؟ فقال: “لا، إذا كان على ما وصفتَ على وجه الغضب، لأنه لم يكن مضمراً على الشتم، وإنما لفظ بهذا على وجه الغضب، ولا يكون عليه القتل”.

وذكر الفقيه ابن رشد الجد أن هذه المسألة وقعت في بعض الروايات من قول الإمام الفقيه سحنون، وأيا ما كان الأمر فكلاهما من تلامذة تلاميذ الإمام مالك، ومن كبار فقهاء المالكية. ثم قال ابن رشد: “قال يحيى وأبو إسحاق البرني لا يقتل لأنه شتم الناس، وذهب الحارث وغيره في مثل هذا إلى القتل، ولم يعذره واحد منهم بالغضب كما عذره به أصبغ”. [البيان والتحصيل: 16/419].

ولا يخفى أن قول الرجل “لا صلى الله على من صلى عليه” جملة دعائية، فكأنه يقول لا بارك الله فيمن يصلي عليه، وسواء أقصد الناسَ الذين يصلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الملائكةَ الذين يصلون عليه فهذا اللفظ يقتضي الاستخفاف بقدره، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، ولكن لما رأى الفقيه المسؤول أن القرائن تدل على عدم قصد هذا المعنى لم يحكم بردته وقتله، وجاء تعليله لهذا الحكم بقوله “لأنه لم يكن مضمراً على الشتم، وإنما لَفَظَ بهذا على وجه الغضب”.

وليس المراد أن الغضب عذر مانع من الحكم بالكفر بإطلاق، إذ الذي يمنع من هذا الحكم هو وجود القرائن الدالة على أن المتلفظ لم يقصد ذلك المعنى البتة، وقد يكون الغضب من جملة تلك القرائن، وحقيقة قصد المكلف لا اطلاع لنا عليها، وإنما حسابه عند ربه.

ـ ومما يشبه هذه المسالة مسألة اليمين أو النذر في الغضب:

فأما مسألة اليمين في الغضب فقد قال الخطيب الشربيني: “ولغو اليمين ـ كما قالت عائشة رضي الله عنها ـ قول الرجل لا والله، وبلى والله، كأنْ قال ذلك في حال غضب أو لجاج أو صلة كلام”. [مغني المحتاج: 4 / 324-325]. ونقل ابن جُزَيٍّ عن طاوس أنه فسر لغو اليمين بأن يحلف الرجل وهو غضبان. [القوانين الفقهية: ص 179]. وهذا التفسير رواه عطاء بن السائب ـ وهو صدوق لكنه اختلط ـ عن طاوس، ورواه مرة أخرى عنه عن ابن عباس أو عن غيره عن ابن عباس. [تفسير الطبري: 2 / 244. تفسير ابن كثير نقلاً عن تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 267].

وأما حديث “لا يمين في غضب” فسنده ضعيف واه. [انظر: تفسير الطبري: 2 / 244].

وأما مسألة النذر في الغضب فقد قال النووي عن النوع الثاني من أنواع النذر: “نذر لجاج، كإنْ كلمتـُه فلله علي عتق، أو صوم، وفيه: كفارة يمين، وفي قول: ما التزم، وفي قول: أيهما شاء”. وقال الخطيب الشربيني: “وسُمي بذلك لوقوعه حال الغضب، ويقال له يمين اللجاج والغضب، والمراد به ما خرج مخرج اليمين بأن يقصد الناذر منع نفسه أو غيرها من شيء، أو يحث عليه، أو يحقق خبراً أو غضباً بالتزام قـُربة”. [مغني المحتاج: 4 / 355]. أي لا يجب عند الشافعية على الناذر الوفاءُ بالنذر الذي التزمه إذا كان نذر لجاج.

وذكر ابن قدامة الحنبلي نحو هذا ثم قال: “ويُسمى نذرَ اللجاج والغضب، ولا يتعين عليه الوفاء به، وهذا قول عمر وابن عباس وابن عمر وعائشة وحفصة”. [المغني: 13 / 461].

وأما حديث “لا نذر في غضب وكفارته كفارة اليمين” فسنده واهـ. [مسند أحمد: 4 / 433، 439، 440. المعجم الكبير للطبراني: 18 / 200. تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: 13 / 56].

وليس المراد كذلك هنا أن الغضب عذر مانع من انعقاد اليمين ووجوب الوفاء بالنذر بإطلاق، إذ الذي يمنع من ترتب أحكامهما على المتلفظ بكلماتهما هو عدم قصد تلك المعاني بهذه الألفاظ، وقد يكون الغضب قرينة دالة على عدم القصد.

 

 

 

الحالات المستثناة من الكفر اللفظي والعلة في ذلك:      

قال الباحث: “قال الفقهاء: يُستثنى من الكفر القولي حالةُ سبق اللسان، وحالة غيبوبة العقل، وحالة الإكراه”.

ثم قال: “ينبغي أن يُضاف: حالة الحكاية لكفر الغير، وحالة كون الشخص متأولاً باجتهاده في فهم الشرع”.

أقول: يبدو أن الباحث قد أصبح في أسْر القاعدة التي وضعها، وجعل النص الذي وضعه في المستثنيات كأنه نص الشارع، بل كنصِّ الشارع التعبدي، لا كالنص المعقول المعنى، لأن الثاني يمكن استنباط علته والقياس عليها، بخلاف الأول.

وإذا كان الباحث يقر باستثناء خمس حالات من الكفر اللفظي فلا بد من البحث عن العلة التي جعلتها مستثناة من تكفير المتلفظ بكلمة الكفر، وعن السبب الذي يمنع القياس عليها إن كان هنالك سبب.

فأما العلة في استثنائها ـ رغم ما فيها من جريان كلمة الكفر على اللسان ـ فهي أن المتلفظ بها لم يقصد المعنى الكفري، أي لم ينضمَّ الكسب القلبي إلى نطق اللسان، وهذا ما فهمه جمهور العلماء من قول النبي صلى الله عليه وسلم “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى”. وارجع إلى نصوص العلماء الذين نقلتُ أقوالهم في المؤاخذة الثالثة، منهم الإمام مالك، وعبد الرحمن بن القاسم العتقي تلميذ الإمام مالك، والقاضي عياض، والقرافي، والبرزلي، وابن فرحون، وابن الشاط، وابن رشد الجد، والقرطبي المفسر، والشيخ محمد عليش، من فقهاء المالكية، وعبد القاهر البغدادي، وإمام الحرمين، وأبو حامد الغزالي، وابن المقرئ، والسيوطي، وابن حجر الهيتمي، والأشخر، من فقهاء الشافعية، والسرخسي، والشيخ علي بن خليل الطرابلسي، وابن نجيم، والشيخ علي القاري، من فقهاء الحنفية، فستجد أن كلامهم يدور على أن الأقوال والأفعال التي يكفر بها المرء ليست هي الكفر، بل هي من علامات الكفر، وأنها كفر حقيقي إذا انضم إليها عقد القلب على المعنى الكفري، وأن من اقترف شيئاً من ذلك أجرينا عليه حكم أهل الكفر وإن لم نعلم كفره باطناً، وستجد أن من لم يجزم بذلك منهم حكى الخلاف في المسألة، مشيراً إلى أنها ليست إجماعية.

وإذا كانت المستثنيات معقولة المعنى فما السبب الذي يمنع القياس عليها؟!!. لا أجد سببا يمنع القياس هنا.

 

 

حالات ينبغي قياسها على المستثنيات:

فإن قال قائل: الأصل في المتلفظ بكلمة كفرية أن يُحكم عليه بالكفر، واستثنينا بعض الحالات لأنه قد دل الدليل على استثنائها، ولم نجد حالة أخرى نضيفها إليها.

فالجواب: ينبغي أولاً تقرير القاعدة وهي أن مناط الكفر هو عقـْد القلب عليه، وأن الأصل في المتلفظ بكلمة كفرية أن يُحكم عليه بالكفر، وأنه يُستثنى من هذا الأصل الحالات التي ليس فيها عقد القلب على الكفر، كالحالات الخمسة المذكورة في كلام الباحث.

فإن قيل: فهل هناك حالة أخرى؟ وما هي؟.

فالجواب: نعم، هناك حالة أخرى، وهي ما إذا تعارف الناس على استعمال تركيب لغوي في غير معناه الأصلي الذي وُضع له مما قد يقتضي الكفر في أصل معناه.

والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلف بالآباء ثم قال هو للرجل “أفلح وأبيه إن صدق”، فهل نقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قد حلف بغير الله تعالى؟!! وهل نقول إنه حلف بوالد ذلك الرجل؟!!، هذا محال، قال ابن حجر: فيُجاب بأجوبة: الأول: أن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم من غير أن يقصدوا به القَسَم، والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحَلِف، وإلى هذا جنح البيهقي، وقال النووي إنه الجواب المرضي. [فتح الباري: 11/534].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها “تربتْ يمينُك”، فهل نقول إنه دعا على عائشة بالفقر؟!!. قال النووي: [والأصح الأقوى الذي عليه المحققون في معناه أنها كلمة أصلها “افتقرتِ”، ولكن العرب اعتادت استعمالها غير قاصدة حقيقة معناها الأصلي، فيذكرون تربت يداك، وقاتله الله ما أشجعه، ولا أُمَّ له، ولا أب لك، وثكلتـْه أمه، وويلَ أمِّه، وما أشبه هذا من ألفاظهم، يقولونها عند إنكار الشيء أو الزجر عنه أو الذم عليه أو استعظامه أو الحث عليه أو الإعجاب به، والله أعلم]. [شرح صحيح مسلم: 3/ 221]. وانظر [فتح الباري: 1/ 229].

وقال أنس بن مالك t: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سبَّاباً ولا فحَّاشاً ولا لعَّاناً، كان يقول لأحدنا عند الـمَعْتِبة “ما له؟ تربَ جبينه”. قال ابن حجر: قال الداودي: قوله “ترب جبينه” كلمة تقولها العرب جرت على ألسنتهم، وهي من التراب، أي سقط جبينه للأرض، وهو كقولهم رَغِمَ أنفه، ولكن لا يُراد معنى قوله ترب جبينه، بل هو نظير ما تقدم في قوله تربت يمينك. أي إنها كلمة تجري على اللسان ولا يراد حقيقتها. [فتح الباري: 10/ 453].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل t “ثكلتك أمك يا معاذ”. [مسند أحمد: 5/ 231]، فهل دعا عليه بالموت وأن تصبح أمه ثكلى؟!! والجواب بكل تأكيد: لا، وإنما هي كلمة تجري على ألسنة العرب وليس المراد حقيقةَ معناها الأصلي.

ولم يغفـُل علماء أصول الفقه عن إيداع هذه المسألة في المصنفات الأصولية، فقد قال الفقيه الحنفي الأصولي أبوعلي أحمد بن محمد بن إسحاق الشاشي المتوفى سنة 344: “وما يُترك به حقيقة اللفظ خمسة أنواع: أحدها دلالة العرف، وذلك لأن ثبوت الأحكام بالألفاظ إنما كان لدلالة اللفظ على المعنى المراد للمتكلم، فإذا كان المعنى متعارفاً بين الناس كان ذلك المعنى المتعارَف دليلاً على أنه هو المراد به ظاهراً، فيترتب عليه الحكم،… والثالث قد تـُترك الحقيقة بدلالة سياق الكلام”. [أصول الشاشي: ص 85، 90].

ومما لا شك فيه أنه لا بد من مراعاة عرف الناس اللغوي في استعمال الكلام وإفادة الألفاظ للمعاني، فمن تكلم بكلام جرى العرف اللغوي باستعماله في غير معناه الأصلي فالظاهر أنه يريد به المعنى المتعارف عليه، فتجري عليه أحكامه، إلا إذا نوى به غير ذلك.

* ومما يتعلق بهذا المبحث ألفاظ تجري على ألسنة بعض العامة حكمَ الباحث على قائليها بالردة والقتل وحبوط ثواب الأعمال الحسنة جميعها وذهاب عصمة النكاح إذا حصلت من أحد الزوجين وبالنزول إلى نهاية قعر جهنم، ولا بد من إعادة النظر فيها في ضوء القاعدة الأصولية التي قررتـُها في هذا المبحث.

فمن ذلك ما ذكره الباحث في كلامه عن الردة وأحكامها، قال: [وقول بعض الناس “ينساك الموت” تكذيبٌ لقول الله تعالى “كل نفس ذائقة الموت”، وكذلك قولهم “أنا لا أرحمك ولا أخلي الله يرحمك”، وكذلك قول “اللهُ يسكن قلوب الأولياء”]. وقال في موضع آخر: [وكذلك من قال “البهائم لا أرواح لها”، وذلك تكذيب للقرآن، قال تعالى “وإذا الوحوش حُشرت”، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لـَتـُؤَدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يُقادُ للشاة الجلحاء من الشاة القرناء”].

أقول: كأن الباحث فهم من قول بعض الناس “ينساك الموت” أن الموت يتركك بإطلاق، لأن النسيان لا يضاف للموت على الحقيقة، أو ينساك ملك الموت، وعلى كلا التقديرين يُفهم من هذا القول نفي الموت عن المخاطب بهذه الكلمة، وفي هذا تكذيب للآية الكريمة. ولكن الناس الجهلة الذين يقولون هذه الكلمة لا يقصدون بها هذا ولا ذاك، وربما لم يخطر لهم هذا أو نحوه على بال، والمراد منها عند العامة الدعاء بطول العمر والسلامة من المصيبة المهلكة الطارئة، وكأن القائل يتمنى للمخاطب أن لا يصيبه هذا الهلاك وأن يتخطاه إلى غيره، لا أنْ لا يصيبه هلاك مطلقاً فينجوَ من الموت بإطلاق!. ولـمَ لا يكون لزوم حكم الكفر مقصوراً على من قالها وهو يقصد المعنى الذي فيه تكذيب للآية القرآنية الكريمة دون غيره؟!!.

وكأن الباحث فهم من قول بعض الناس “أنا لا أرحمك ولا أخلي الله يرحمك” أن القائل يدَّعي القدرة على منع الله تعالى من إنزال الرحمة على من يشاء، ولو كان الأمر كذلك لكان تكذيباً لقوله تعالى “ما يفتحِ الله للناس من رحمة فلا ممسك لها”، ولكن الناس الجهلة الذين يقولون هذه الكلمة لا يقصدون بها هذا المعنى، وربما لم يخطر لهم هذا أو نحوه على بال، والمراد منها عند العامة تأكيد عزم القائل على أنه لن يخلـِّص المخاطب ولن يدع الخلاص يأتيه من هذه الأسباب التي يتوقعها، لا أنه قادر على منع الله تعالى من تخليص هذا الإنسان متى شاء الحق سبحانه!. ولمَ لا يكون حكم الكفر لازماً لمن قالها قاصدًا المعنى الكفري دون غيره؟!!.

وكأن الباحث فهم من قول بعض الناس “الله يسكن قلوب الأولياء” أن القائل يدعي حاجة الله سبحانه وتعالى إلى مكان يسكنه ويحُل فيه وهو قلوب الأولياء من عباده، ولو كان الأمر كذلك لكان من باب عقيدة حلول الله تعالى بمخلوقاته، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ولكن الناس الذين يقولون هذه الكلمة لا يقصدون بها هذا المعنى، وربما لم يخطر لهم هذا أو نحوه على بال، والمراد منها عندهم أن الله تعالى متجل على قلوب أوليائه وأحبابه المقربين، كما أنه سبحانه جليس لمن يذكره، قريب ممن يتقرب إليه، كل ذلك على المعنى الذي يليق بجلاله وكماله، لا على المعنى الذي تتصوره عقولنا القاصرة، “ليس كمثله شيء وهو السميع البصير”. ولمَ لا يكون حكم الكفر لازماً لمن قالها قاصداً المعنى الكفري دون غيره؟!!.

وكأن الباحث فهم من قول بعض الناس “البهائم لا أرواح لها” أنه ينكر حشرها الوارد في الآية القرآنية الكريمة وإقامة القصاص بينها الوارد في الحديث النبوي الشريف، ولكن قائلها ـ المشار إليه ـ لم ينكر شيئاً من ذلك، وربما لم يخطر له هذا أو نحوه على بال، وكأنه يقصد أن الناس لهم أرواح تستمر الحياة في أجسادهم ما دامت تلك الأرواح فيها، فإذا فارقتها فارقتها الحياة، فإذا أعادها الله تعالى إليها دبَّت فيها الحياة من جديد، وأن البهائم لا أرواح لها كهذه التي للناس، أي لها شيء خاص بها تستمر الحياة في أجسادها ما دام ذلك الشيء فيها، فإذا فارقها فارقتها الحياة، فإذا أعاده الله تعالى إليها دبت فيها الحياة من جديد لتقع المقاصَّة بينها فحسب، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، لا كأرواح الناس. ولمَ لا يكون حكم الكفر لازماً لمن قال تلك الكلمة إذا كان قاصداً المعنى الكفري دون غيره؟!!.

ومن الغريب أن الباحث الذي يطلق الحكم بكفر كثير من الناس الذين نطقوا بهذه الكلمات وأمثالها دون مراعاة لما قصدوه فإنه لا يحكم بكفر بعض الناس الذين يقولون نظيرها إلا إذا قصدوا المعنى الكفري، وذلك حيث يقول مثلاً: [وكذلك قول بعض الجهال “السارق من السارق كالوارث من أبيه” فإنه كفر إن قالها بنية أنها حلال للثاني]. فتأمل واعجب !!.

ولو أنه ذكر مثل هذا التقييد في كثير من أحكامه المطلقة لكان أقرب إلى قول جمهور العلماء المؤيد بالإشارات القرآنية والنصوص النبوية.

حذف جزء من كلام القاضي عياض مما يتوقف عليه فهم المعنى:

قال الباحث: [تتمة فيما يتعلق بالردة: قال القاضي عياض: “الوجه الثاني لاحقٌ به في البيان، وهو أن يكون العامد لِـما قال في جهته صلى الله عليه وسلم غيرَ قاصدٍ للسب والإزراء ولا معتقدٍ له، لكنه تكلم في جهته صلى الله عليه وسلم بكلمة الكفر من لعْنِهِ أو سبه أو تكذيبه أو إضافة ما لا يجوز عليه أو نفيِ ما يجب له، مما هو في حقه صلى الله عليه وسلم نقيصة، مثلَ أن ينسُب إليه إتيانَ كبيرة أو مداهنة في تبليغ الرسالة أو في حكم بين الناس، أو يغض من مرتبته أو شرف نسبه أو وفور علمه أو زهده، أو يكذِّبَ بما اشتهر من أمور أخبر بها صلى الله عليه وسلم وتواتر الخبر بها عن قصد لرد خبره، أو يأتي بسفه من القول أو قبيح من الكلام ونوع من السب في جهته وإنْ ظهر بدليل حاله أنه لم يتعمد ذمَّه ولم يقصد سبه، فحكمُ هذا الوجه حكمُ الوجه الأول، إذْ لا يُعذر أحد في الكفر بالجهالة”. اهـ، ونقل ابن حجر عبارته وقال “إذ المدار في الحكم بالكفر على الظواهر لا القـُصُود والنيات”]. انتهى كلام الباحث.

أقول: لا يشك من قرأ ما نقله الباحث من كلام القاضي عياض رحمه الله في أن القاضي عياضاً قد خصص هذه الفقرة للوجه الثاني من الأوجه التي ذكرها، وأنه ذكر فيه مَن سب النبيَّ صلى الله عليه وسلم أو لعنه ونحو ذلك غير قاصد للسب والإزراء ولا معتقد له، وأن الحكم في هذا هو ذات الحكم المذكور في الوجه الأول، وأن التعليل هو أنه لا يُعذر أحد في الكفر بالجهالة، فمقتضى هذا هو أن القاضي عياضاً رحمه الله يحكم بالكفر على من ذكره في هذا الوجه، وما أظن أحداً يقرأ ما نقله الباحث يفهم منه خلاف هذا.

ولفهم كلام القاضي عياض لا بد من معرفة القدر الذي حذفه الباحث من كلامه مما يتوقف عليه فهم المعنى، وقد حذف الباحث منه أمرين هامين:

الأمر الأول: لم يشر الباحث إلى حكم الوجه الأول الذي ذكره القاضي عياض ليُعرف حكم الوجه الثاني الذي قال فيه إنه مثله!!، وهذا كلامه رحمه الله، قال: “اعلم ـ وفقنا الله وإياك ـ أن جميع من سب النبيَّ صلى الله عليه وسلم أو عابه أو ألحق به نقصاً فهو ساب له، والحكم فيه حكم السابِّ: يُقتل، وعلى هذا وقع الخلاف في استتابته وتكفيره وهل قتله حد أو كفر؟ كما سنبينه”. [الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض: 2 / 214].

فعُرف من هذا أن الحكم في الوجه الأول هو القتل، وأنه وقع اختلاف بين العلماء في استتابة مثل هذا: هل تـُطلب منه التوبة قبل قتله فإن لم يتب قـُتل وإلا فلا؟ أو يُقتل سواء تاب أو لم يتب؟ وأنه وقع اختلاف في تكفيره، وفي أن قتله إذا حكم القاضي بقتله هل هو لأنه تلفظ بالسب؟ أو لأن هذا هو حد الردة؟؟.

فإذا قال القاضي عياض في الوجه الثاني “فحكـْم هذا الوجه حكـْم الوجه الأول” فمعناه أن حكمه القتل، وأن العلماء اختلفوا في استتابته وتكفيره وهل قتله حد أو كفر؟. وكان على الباحث أن يشير إلى ما ذكره القاضي عياض في حكم الوجه الأول ليُعرف حكم مثيله في الوجه الثاني، فلمَ طوى ذكره بتاتاً ولم يشر إليه؟!!. الله أعلم.

الأمر الثاني: لم يقتصر الباحث على حذف الكلام عن الوجه الأول وحكمه، بل حذف من الكلام على حكم الوجه الثاني ما يوضح المراد ويزيل اللَبْس، إذ نقل أن آخر تلك الفقرة المنقولة من كلام القاضي عياض هكذا “فحكم هذا الوجه حكم الوجه الأول، إذ لا يُعذر أحد في الكفر بالجهالة”. وأكد أن هذا هو نهاية القول فيه بقوله عقبه “انتهى”.

والحقيقة هي أن كلام القاضي عياض لم ينته بعد، بل أضاف كلاما موضحا لما قبله حيث قال: “فحكم هذا الوجه حكم الوجه الأول: القتل دون تلعثم، إذ لا يُعذر أحد في الكفر بالجهالة ولا بدعوى زلل اللسان، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان”. [الشفا: 2 / 214 – 215].

لو تمَّم الباحث الفقرة المنقولة لعُلم أن الحكم في الوجه الثاني هو ذات الحكم في الوجه الأول، وهو القتل دون تلعثم، وإنما قال القاضي هنا “القتل دون تلعثم” ليبين أن مثل ذلك القائل حكمه القتل دون تردد، ولا يعفيه من القتل أنه لم يقصد السب والإزراء. فلمَ حذف الباحث “البدل” كما يقول النحويون وأبقى “الـمُبْدَل منه” وإنما يؤتى بالبدل للإيضاح والبيان؟!!.

ولو تمم الباحث الكلام لاتضح المعنى أكثر مما سبق، وهو “إذ لا يُعذر أحد في الكفر بالجهالة ولا بدعوى زلل اللسان”، والباحث يعلم يقيناً أن من زلَّ لسانه بكلمة الكفر لا يكفر، فكيف يقول القاضي عياض بأن المرء لا يعذر في الكفر بدعوى زلل اللسان؟!، ذلك لأن القاضي عياضاً رحمه الله يرى أن من قال كلاماً فيه سب للنبي صلى الله عليه وسلم أو انتقاص فإنه يُقتل، حتى ولو ظهر بدليل حال القائل أنه لم يتعمد ذمه ولم يقصد سبه، وأنه لو ادعى زلل اللسان فإن هذه الدعوى لا تـُسمع منه ولا تعفيه من القتل، فهو يتكلم هنا عن الحكم القضائي، ويرى أنه لا يُعذر أحد أمام حكم القضاء في نطقه بمثل هذا الكلام الكفري، وأنه لا تـُسمع منه دعوى الجهل ولا دعوى زلل اللسان، وأن الذي يعفيه من الحكم عليه بالقتل هو ثبوت الإكراه فقط.

فهل كان القاضي عياض يقصد تكفير من نطق في حق الجناب النبوي بكلام فيه انتقاص وهو غير قاصد وغير معتقد له حتى وإن ظهر بدليل حاله أنه لم يتعمد ذمه ولم يقصد سبه؟!!. هذا القول في واد، وكلامه رحمه الله في واد آخر.

وكذا لو تمَّم الباحث النقل عن ابن حجر الهيتمي الذي نقل عبارة القاضي عياض وعلق عليها لاتضح أن الكلام يدور على الحكم القضائي، فقد قال ابن حجر رحمه الله: “إذ المدار في الحكم بالكفر على الظواهر، ولا نظر للقـُصُود والنيات، ولا نظر لقرائن حاله، نعم، يُعذر مدَّعي الجهل إن عُذر لقرب عهده بالإسلام أو بعده عن العلماء، ويُعذر أيضاً فيما يظهر بدعوى سبق اللسان بالنسبة لدفع القتل عنه وإن لم يُعذر فيه بالنسبة لوقوع طلاقه وعتقه، والفرق أن ذلك حق الله تعالى وهو مبني على المسامحة، بخلاف هذين”. [الإعلام بقواطع الإسلام لابن حجر الهيتمي: 2 / 382].

فيُفهم من سياق كلام ابن حجر الهيتمي رحمه الله أنه يتحدث عن الحكم باعتبار الظاهر، ولا تنس ما تقدم نقله عنه في الكتاب ذاته مما يوضح المراد، فقد قال رحمه الله: “لأنا إنما نحكم بالكفر باعتبار الظاهر، وقصْدُك وعدمه إنما ترتبط به الأحكام باعتبار الباطن لا الظاهر”.

إشكال في كلام القاضي عياض:

ذكر عياض رحمه الله أشياء صريحة في الكفر من السب والانتقاص، وذكر أن العلماء اختلفوا في تكفير مثل ذلك القائل دون أن يبين أنه فيما إذا كان لا يقصد معاني الألفاظ التي تلفظ بها، وهذا ـ وإن كان معلوما من السياق ـ فالأولى البيان، ولعله سها عن ذلك لطول العبارة، وأسأل الله الكريم أن يشملنا وإياه بواسع عفوه ومغفرته.

 

الاستدلال بكلام الإمام تاج الدين السبكي في غير محله:

استدل المتسرع في التكفير القائل بأن من صدر منه لفظ كفري فهو كافر وإن لم يعتقد معنى ذلك اللفظ بكلام للإمام تاج الدين السبكي رحمه الله، إذ يقول السبكي “لا خلاف عند الأشعري وأصحابه بل وسائرِ المسلمين أن من تلفظ بالكفر أو فعل أفعال الكفار أنه كافر بالله العظيم مخلد في النار وإن عرف بقلبه، وأنه لا تنفعه المعرفة مع العناد”. [ طبقات الشافعية الكبرى: 1/ 91].

أقول: لما بتر هذا المستدل النص عن سياقه الذي ورد فيه فهم منه أن كل من تلفظ بالكفر أو فعل أفعال الكفار فهو كافر مخلد في النار، وليس الأمر ـ في الواقع ـ كما فهمه هذا المستدل:

قال الإمام تاج الدين السبكي قبل الكلام المنقول أعلاه [وقد رأيت أقواما يتعصبون على من يقول الإيمان التصديق، ظنا منهم أن القائل بذلك لا يشترط النطقَ في الاعتداد به، وهو تعصب صادر عن عدم المعرفة بمذهب القائلين بهذا القول، ومن هؤلاء أبو محمد بن حزم الظاهري، فإنه قال في كتابه الملل والنحل “ذهب قوم إلى أن الإيمان إنما هو معرفة الله بالقلب فقط وإن أظهر اليهوديةَ أو النصرانية أو سائر أنواع الكفر بلسانه وعبارته، فإذا عرف الله بقلبه فهو مسلم من أهل الجنة، وهذا قول جهم بن صفوان وأبي الحسن الأشعري البصري وأصحابهما”]. [ طبقات الشافعية الكبرى: 1/89-90 ].

ولفهم معنى النص لا بد لك من فهم المسألة في أصلها وعند المردود عليه وعند القائم بالرد:

أصل المسألة هو أن بعض الناس الذين لم يفهموا الإيمان من أهل الزيغ والضلال قالوا إن الإيمان هو المعرفة فقط، أي إن من عرف بقلبه أن الله تعالى موجود وأنه حي عليم قدير سميع بصير وأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو رسول من عند الله أرسله للناس كافة وأنه صادق فيما يبلغه عن ربه عز وجل ولم ينطق رغم هذه المعرفة بالشهادتين واستمر على يهوديته أو نصرانيته أو على سائر أنواع الكفر بلسانه وعبارته: فهذا يُعدُّ ـ عند أولئك الزائغين الضالين ـ مؤمنا من أهل الجنة.

لما رأى المردود عليه وهو ابن حزم أن أبا الحسن الأشعري وأصحابه يقولون إن الإيمان هو التصديق توهَّم أنهم يقولون في الإيمان بمقالة أولئك الزائغين الضالين، ولذلك تعصب على الأشعري والأشاعرة واشتد إنكاره عليهم، وحاشا أبا الحسن الأشعري وأصحابه المنسوبين إليه أن يقولوا بذلك الضلال.

لما رأى القائم بالرد وهو تاج الدين السبكي أن ابن حزم وغيره يتعصبون على من يقول إن الإيمان هو التصديق بيَّن أن سبب تعصبهم عليهم هو ظنهم أن من يقول بذلك لا يشترط النطق بالشهادتين ليكون الإيمان معتدا به، وأن ذلك التعصب صادر عن عدم المعرفة بمذهب القائلين بهذا القول. أي إن الأشاعرة يرون أن الإيمان هو التصديق القلبي الجازم بأركان الإيمان، وأنه لابد من الإذعانِ، أي الخضوعِ والاستسلامِ القلبي لله رب العالمين والانتقالِ عما كان عليه المرء مما يخالف الإيمان، وأنه لا بد من الدخولِ في دين الإسلام، وذلك يكون بالنطق بالشهادتين لمن لا عذر له يمنعه من النطق بهما، ويأتي بعد ذلك العملُ بأركان الإسلام وسائر الأعمال الصالحات التي هي ثمرات الإيمان.

ثم بيَّن الإمام تاج الدين السبكي مدى الجراءة والتسرع عند ابن حزم عندما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري وأصحابه أن الإيمان عندهم هو المعرفة بالقلب فقط وإن أظهر المكلف أنواع الكفر بلسانه وعبارته، وأن هذا شيء لم يقله لا الأشعري ولا أصحابه ولا أحد من سائر المسلمين، فقال: “ومما يعرِّفك ما قلت لك من جراءته وتسرعه: هذا النقلُ الذي عزاه إلى الأشعري، ولا خلاف عند الأشعري وأصحابه بل وسائر المسلمين أن من تلفظ بالكفر أو فعل أفعال الكفار أنه كافر بالله العظيم مخلد في النار وإن عرف بقلبه، وأنه لا تنفعه المعرفة مع العناد”.

فتاج الدين السبكي يتحدث هنا عمن تلفظ بالكفر أو فعل أفعال الكفار وهو قاصد معانيَ ما يقوله وما يفعله، ويشير هنا إلى أن هذا الإنسان ليس جاهلا لتثبت له بالأدلة وجود الله عز وجل وعلمه وقدرته وإرادته وصدْق محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته ورسالته، بل المعرفة موجودة عنده، وأنه يُقـْدِم على تلك الأقوال والأفعال الكفرية رغبة منه في معاندة الله جل وعلا، واستكبارا عن الإذعان والخضوع للحق، فكيف تنفعه المعرفة مع العناد؟!!.

وهذا ما كان عليه إبليس في معرفة الحق وعدم الإذعان والخضوع له، ومثله كثير من الناس الذين يعترفون بالله تعالى وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعموم رسالته ويأبون الدخول في الإسلام، فهؤلاء كفار، وهذا كفر العناد، أي المعاندة لله جل وعلا.

وبهذا تبين أن تاج الدين السبكي لم يكن يتحدث هنا عمن تلفظ بالكفر غير قاصد معنى ما يقول، ولا عمن فعل أفعال الكفار غير قاصد معنى ما يفعل.

 

تحميل كلام الإمام فخر الدين الرازي ما لا يحتمِل:

قال لي أحد المتسرعين في التكفير: “إذا أُكره المسلم على التلفظ بكلام كفري وتلفظ به أو قال إنه غير مسلم فإنه لا يُعد خارجا عن الإسلام إذا هُدد بالقتل أو الضرب الشديد، أما إذا كان تهديده بالضرب الخفيف أو بغير ضرب فإنه يُعد مرتدا، وهذا ما ذكره الإمام الرازي في تفسيره”!!. كذا قال.

أقول: كلام الإمام الرازي في واد، والمعنى الذي يُراد إقحامه على كلامه في واد آخر، فقد قال في تفسير قوله تعالى {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}: “يجب ههنا بيان الإكراه الذي عنده يجوز التلفظ بكلمة الكفر، وهو أن يعذبه بعذاب لا طاقة له به، مثل التخويف بالقتل، ومثل الضرب الشديد والإيلامات القوية”. [ تفسير الرازي: 20/ 121].

فأنت ترى أنه يبين متى يجوز التلفظ بكلمة الكفر، ومُفـَاده أن التخويف بشيء دون الضرب الشديد والإيلامات القوية لا يجوِّز الإقدام على التلفظ بها، فالمسألة هنا هي هل يجوز التلفظ أو لا يجوز؟، وليست هل المتلفظ بذلك في تلك الحالة مرتد أو غير مرتد؟، ولكن كثيرا من الناس لا يعقلون!!.

وقال الإمام القرطبي في تفسيره: “أجمع أهل العلم على أن من أُكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتلَ أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان”. ثم قال: “واختلف العلماء في حد الإكراه، فرُوي عن عمر بن الخطاب t أنه قال ليس الرجل بآمن على نفسه إذا أخَفـْته أو أوثقته أو ضربته، وقال ابن مسعود ما كلام يدرأ عني سوطين إلا كنت متكلما به، وقال النخعي القيد إكراه والسجن إكراه، وليس عند مالك وأصحابه في الضرب والسجن توقيت، إنما هو ما كان يؤلم من الضرب وما كان من سجن يدخل منه الضيقُ على المكرَه”. [الجامع لأحكام القرآن: 10/ 182، 190].

وقال ابن الجوزي: “الإكراه على كلمة الكفر يبيح النطق بها، وفي الإكراه المبيح لذلك عن أحمد روايتان: إحداهما أن يخاف على نفسه أو بعض أعضائه التلف إن لم يفعل ما أُمر به، والثانية أن التخويف لا يكون إكراها حتى يُنال بعذاب”. [ زاد المسير في علم التفسير: 4/496 ].

فأنت ترى أن علماء التفسير يذكرون ما وقفوا عليه من الأقوال والروايات في الحد الذي يبيح للمسلم النطق بكلمة الكفر من أنواع الإكراه، فمن أُكره على ذلك بالحد الأدنى مما ذكروه أو بما فوقه فلا إثم عليه، وأما إذا كان إكراهه بما لا يبلغ الحد الأدنى منه فهو آثم، ولا يقال عنه في هذه الحالة إنه مرتد إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان.

ومما يلتحق بالضرب الموجع والسجن المفجع ما وقع لأحد المسلمين في بلدة من ديار غير المسلمين، إذ سئل عن دينه من قبل أحد الإداريين المتعصبين، وقد عرف أنه إن أخبره بإسلامه ألحق به أضرارا جسيمة من أنواع التعسير والتضييق، لا لذنب سوى أنه يؤمن بالله تعالى ربا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، فلما سأله هل أنت مسلم؟ قال لا، ويقول ذلك المسلم إنه لم يشكَّ في دينه قط وإن قلبه حتى في تلك اللحظة كان مطمئنا بالإيمان.

ومن الغريب أن أحد المتسرعين في التكفير أفتى ذلك المسلمَ بأنه ارتد عن دين الإسلام بذلك الجواب رغم أن قلبه مطمئن بالإيمان!. ولعله يحتج بقول الإمام النووي رحمه الله: “لو غضب رجل على ولده أو غلامه فضربه ضربا شديدا فقال له رجل ألست مسلما؟ فقال لا متعمدا كفر”.

ولو تنبه هذا الذي نصب نفسه مفتيا لمعنى “متعمدا” لكفَّ عن إفتائه بذلك، إذ التعمد هو القصد، فإذا كان الرجل يعني ما يقول أي يقصد ما يقول لفظا ومعنى فقد ارتد ظاهرا وباطنا، أي في القضاء والفتوى، أما إذا لم يقصد معنى ما يقول فهي ردة في حكم القضاء، لا في مقام الإفتاء. وليته يعود إلى تدبر آيات القرآن الكريم، ويكفيه قولُ الله جل وعلا “ولكنْ ما تعمدت قلوبكم”.

وقد بيَّن الإمام الكاساني حكم هذه المسألة بعد التفريق بين الإكراه التام والإكراه الناقص وصرح به إذ قال: “إذا كان الإكراه ناقصا يُحكم بكفره، لأنه ليس بمكره في الحقيقة، لأنه ما فعله للضرورة، بل لدفع الغم عن نفسه، ولو قال كان قلبي مطمئنا بالإيمان لا يُصدق في الحكم، لأنه خلاف الظاهر، كالطائع إذا أجرى الكلمة ثم قال كان قلبي مطمئنا بالإيمان، ويُصَدَّق فيما بينه وبين الله تعالى”. [ بدائع الصنائع: 7/179 ].

 

 

حذف جزء من كلام الإمام النووي مما يفيد في فهم المعنى:       

قال النووي في أصل الروضة ـ أي ناقلا كلام الرافعي ـ في الكلام عن حقيقة الردة: “هي قطع الإسلام، ويحصل تارة بالقول الذي هو كفر، وتارة بالفعل، والأفعالُ الموجِبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح، كالسجود للصنم أو للشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات، والسحر الذي فيه عبادة الشمس ونحوها، قال الإمام: في بعض التعاليق عن شيخي أن الفعل بمجرده لا يكون كفرا. قال: وهذا زلل عظيم من المعلق ذكرته للتنبيه على غلطه. وتحصل الردة بالقول الذي هو كفر، سواء صدر عن اعتقاد أو عناد أو استهزاء”. [7/ 283 – 284].

أقول: نقلَ الباحث هذا النص هكذا “هي قطع الإسلام، ويحصل تارة بالقول الذي هو كفر، وتارة بالفعل، وتحصل الردة بالقول الذي هو كفر، سواء صدر عن اعتقاد أو عناد أو استهزاء”. وحذف منه “والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاءٍ بالدين صريحٍ، كالسجود للصنم”. فكيف أجاز لنفسه حذفه وهو مما يكاد أن يتوقف عليه فهم المعنى؟!، وهذا الجزء الذي تم بتره يلقي ضوءً كاشفا على مناط التكفير في الأفعال المكفرة، وهو صدور ذلك الفعل عن تعمد مع اقترانه بالاستهزاء، وإذا كان كذلك ـ وهذا أمر مجمع عليه ـ فالمكفـِّر المخْرِج عن الملة هو قصد الاستهزاء، وهو من أعمال القلوب، أو هو صدور الفعل الكفري المقرون بالاستهزاء الصريح، أي الفعل الظاهر مع القصد الباطن، وكذلك الأقوال الموجبة للكفر، سواء أصدرت مع اعتقاد معانيها، أو بقصد العناد لله تعالى أو لدينه، أو الاستهزاء به، فمناط التكفير ـ ديانةً ـ هو وجود القصد القلبي، والله أعلم.

 

 

تغليط إمام الحرمين من قال بأن الفعل بمجرده لا يكون كفرا:

قد يقال: ذكر إمام الحرمين رحمه الله ـ كما نقله عنه الرافعي والنووي في النص السابق ـ أن بعض الناقلين لكلام شيخه ـ أي والدِه ـ عزا له أن الفعل بمجرده لا يكون كفرا، وعدَّ إمام الحرمين هذا النقلَ زللا عظيما، وذلك القولَ المعزوَّ لشيخه غلطا لابد من التنبيه عليه، أفلا يكون هذا من إمام الحرمين نصا على أن الفعل بمجرده قد يكون كفرا؟!.

أقول: هذا القول الذي قاله إمام الحرمين في هذه المسألة ضعيف مردود، لم يذكر له دليلا، وهو مخالف للأدلة ولما عليه أكثر العلماء، فلا ينبغي تقليده فيه، وأقوال أهل العلم يُستدل لها، لا بها.

هذا وقد قال النووي في الروضة: قال المتولي: “من اعتقد قِدَم العالم أو حدوث الصانع كان كافرا، وكذا من جحد جواز بعثة الرسل أو أنكر نبوة نبي من الأنبياء، أو عظـَّم صنما بالسجود له أو التقرب إليه بالذبح باسمه: فكل هذا كفر”.

والمتولي هو الفقيه الشافعي الكبير أبو سعد عبد الرحمن بن مأمون المتولي النيسابوري المتوفى سنة 478 رحمه الله.

وقف عند قوله “أو عظـَّم صنما بالسجود له أو التقرب إليه”، ففيه إشارة إلى أن الكفر في ذلك هو تعظيم الصنم، والتعظيم من عمل القلب.

 

 

استدلال الإمام الرازي على بطلان قول من يقول إن الكفر لا يدخل إلا في أعمال القلوب والتعليق عليه:

ذكر فخر الدين الرازي في تفسير قوله تعالى {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} أن الاستهزاء بالدين كيفما كان فهو كفر، ثم قال: “وذلك لأن الاستهزاء يدل على الاستخفاف، والعمدة الكبرى في الإيمان تعظيم الله تعالى بأقصى الإمكان، والجمع بينهما محال”. وهذا حق لا مرية فيه.

ثم استدل بالآية على بطلان قول من يقول “الكفر لا يدخل إلا في أفعال القلوب”. [ 16/124].

أقول: لم يبين رحمه الله تعالى وجه الاستدلال بالآية على ما ذهب إليه في هذا، وفيما قاله نظر، لأن ما ذكره قبل هذا صريح في أن الاستهزاء يدل على الاستخفاف المنافي للتعظيم، والاستخفاف من أعمال القلوب، وهو حاصل من المستهزئين، فثبت بهذا أنه ليس في الآية دليل على بطلان قول من يقول إن الكفر لا يدخل إلا في أفعال القلوب، والله أعلم.

 

الألفاظ المكفرة عند فقهاء الحنفية:

قال الباحث: “بعض الفقهاء من شافعيين ومالكية وغيرهم ذكروا كثيراً مما هو ردة، وأكثرهم تعداداً الحنفية”.

وكأن الباحث بسكوته على ما أورده في معرض الاحتجاج به موافق على أحكام التكفير المذكورة، وخاصة عند الحنفية.

أقول: من اطلع على باب الردة في كتب السادة الحنفية رحمهم الله تعالى رأى تفاصيل وتفاريع كثيرة جداً، وفي كثير منها نظر ظاهر لا يخفى، بحيث يجب أن تقيد بتقييدات موضحة لسبب الحكم على قائلها بالكفر، وإلا فكيف يُحكم بالكفر على من وصف الله تعالى بالفـَوق؟! وعلى من قال رأيت الله في المنام؟! وعلى من قال الإيمان يزيد وينقص؟!! وعلى من صلى في ثوب نجس؟! وعلى من قال باسم الله عند أكل الحرام؟! وعلى من أنكر رؤية الله عز وجل بعد دخول الجنة؟! وعلى من قال بخلق القرآن؟!!. [انظر: البحر الرائق لابن نجيم: 5 / 129 – 134].

فالذي صلى في ثوب نجس لا يصح أن يُحكم عليه بالكفر بإطلاق، لأنه إن فعل ذلك استخفافاً بالصلاة فهو كافر دون شك، للاستخفاف، أما إن فعل ذلك كسلاً فهو كتارك الصلاة كسلاً، وجمهور العلماء يحكمون عليه بالفسق والإثم الشديد، ولا يحكمون عليه بالكفر.

والذي وصف الله تعالى بالفوقية هل يُحكم عليه بالكفر ولو قال آمنت بكلام الله على مراد الله؟! وفي المصدر ذاته أن من قال “الله في السماء” إن قصد حكاية ما جاء في ظاهر الأخبار لا يكفر، فكيف لا يُقال مثل ذلك هنا؟!.

والذي قال رأيت الله في المنام كيف يُحكم عليه بالكفر بإطلاق؟! وقد قال ملا علي القاري: رؤية الله سبحانه وتعالى في المنام فالأكثرون على جوازها من غير كيفية وجهة وهيئة. [شرح الفقه الأكبر: ص 186]. وهو من كبار فقهاء الحنفية، أفنحكم عليه بالكفر؟!.

وأما من يقول الإيمان يزيد وينقص فهم جمهور الأمة ومنهم الإمام البخاري وكثير من الأشاعرة، أفنحكم عليهم بالكفر؟!!.

والذي يقول باسم الله عند أكل الحرام هل هو فاسق آثم أو كافر؟!، أمَّا لو قال ذلك استخفافاً فلا شك في كفره.

وأما من أنكر رؤية الله عز وجل بعد دخول الجنة أو قال بخلق القرآن فالمعتزلة على هذا الرأي ولم يكفرهم جمهور أهل العلم بهذا، بل حكموا عليهم بالضلال والفسق الاعتقادي فقط.

ومن الإنصاف والورع عند ابن نُجيم رحمه الله ـ وهو من كبار علماء الحنفية ـ أنه سرد الكثير من الأقوال والأفعال التي أفتى بعض فقهاء الحنفية قبله فيها بالتكفير ثم ختم كلامه عنها بقوله: “فأكثر ألفاظ التكفير المذكورة لا يُفتى بالتكفير بها، وقد ألزمت نفسي أن لا أفتي بشيء منها”. [البحر الرائق: 5 / 135].

ولكن من العجيب أن يحاول بعض الناس اليوم إحياء القول بالتكفير في تلك المسائل أو في كثير منها، والنتيجة هي أن يكفِّر المسلمون بعضهم بعضاً، ويستبيحَ بعضهم دماء بعض، فينتصرَ بذلك مذهب الخوارج، ويُهجَرَ مذهبُ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب t مذهبُ أهل السنة والجماعة، ويستريحَ أعداء الإسلام والمسلمين!!، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وإليه المشتكى.

 

القاعدة الأصولية في بناء الحكم على اللفظ الصريح:

قال الباحث: “اعلم أن الألفاظ قسمان: صريح ليس له إلا وجه واحد، وظاهر يحتمل معنيين أحدهما أقرب من الآخر أوهما متساويان، فمن نطق بالكفر الصريح وهو عامد ـ أي بغير سبق اللسان ـ وغير مكره وعالم بمعنى اللفظ فهذا يكفر اللافظ به، ولا يدخله التأويل، فلا يُنظر بعد كون اللفظ صريحاً إلى قصد الشخص ولا إلى معرفته بحكم تلك الكلمة أنها تخرِج من الإسلام”.

أقول: كرر الباحث هذا المعنى والاستشهاد به مرات، وهو أن اللفظ الصريح ـ في غير حالات الإكراه وسبق اللسان والجهل بمعنى اللفظ ـ يُحمل على معناه، ولا يدخله التأويل، ويُعتبر اللافظ به كافراً حقيقةً وإن لم يقصد معناه الكفري، ورتـَّب عليه أحكام المرتد من حبوط ثواب الأعمال الصالحة وانفساخ عقد النكاح ووجوب القتل والتخليد في نار جهنم، أي إنه رتـَّب الأحكام على اللفظ الصريح قضاءً وديانة ولو بلا نية.

وهذه غفلة عظيمة عن فهم القاعدة الأصولية وتطبيقاتها الفقهية، فالفقيه الحنفي الأصولي ابن نجيم يقول في مبحث النية: “ولا ينافيه قولهم إن الصريح لا يحتاج إلى النية، فظهر بهذا أن الصريح لا يحتاج إليها قضاءً، ويحتاج إليها ديانةً”. [الأشباه والنظائر: ص 19].

وقال الفقيه الحنفي الأصولي ابن الهمام في مبحث الصريح: “أما قصْده مع صرفه بالنية إلى محتمِله فله ذلك ديانة، كقصد الطلاق من وثاق”. [التحرير: 2/ 38]. وأقره ابن أمير الحاج في شرحه.

وقال البزدوي عن الصريح: “وحكْمه تعلقُ الحكم بعين الكلام وقيامه مقام معناه حتى استغنى عن العزيمة”. وقال علاء الدين البخاري شارحا ومعلقا عليه: “من غير نظر إلى أن المتكلم أراد ذلك المعنى أو لم يرد، أما لو أراد أن يصرف الكلام بالنية عن موجَبه إلى محتمِله فله ذلك فيما بينه وبين الله تعالى”. [كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي: 2/ 381 – 382].

وقال السيوطي رحمه الله تعالى في مبحث النية: “وتدخل أيضاً في غير الكنايات في مسائل شتى كقصْد لفظ الصريح لمعناه”. [الأشباه والنظائر: ص 44].

وقال السيوطي كذلك: “قال العلماء: الصريحُ: اللفظُ الموضوع لمعنى لا يُفهم منه غيره عند الإطلاق، ويقابله الكناية”. [ الأشباه والنظائر: ص 318 ].

وقال السيوطي رحمه الله كذلك: [قد يشكِل على قولهم “الصريح لا يحتاج إلى نية” قولـُهم يُشترط في وقوع الطلاق قصْد حروف الطلاق لمعناه، وليس بمشكل، فإن المراد في الكناية قصْد إيقاع الطلاق، وفي الصريح قصد معنى اللفظ بحروفه، لا الإيقاع، ليخرجَ ما إذا سبق لسانه وما إذا نوى غير معنى الطلاق الذي هو قطع العصمة كالحل من وثاق ويدخلَ ما إذا قصد المعنى ولم يقصد الإيقاع كالهازل”. [الأشباه والنظائر: ص 319]. وهذا كلام نفيس، فاستفده.

أي فيُشترط لوقوع الطلاق عند الشافعية إذا كان باللفظ الصريح قصْدُ معنى الألفاظ ولو لم يقصد إيقاعه، بخلاف ما إذا كان بلفظ من ألفاظ الكناية، فيُشترط حينئذ قصد معنى الألفاظ وقصد إيقاع الطلاق.

وقال ابن حجر الهيتمي: “فعمِلنا بما دل عليه لفظه صريحاً بواسطة القرينة المذكورة، وقلنا له أنت حيث أطلقتَ هذا اللفظ ولم تؤول كنت كافراً، لتضمُّنِ لفظك تسمية الإسلام كفراً وإن لم تقصد ذلك، لأنا إنما نحكم بالكفر باعتبار الظاهر، وقصْدك وعدمه إنما ترتبط به الأحكام باعتبار الباطن لا الظاهر”. [الإعلام بقواطع الإسلام: 2 / 344 وفي الطبعة الأخرى على حاشية الزواجر: 2 / 19].

فتبين أن القاعدة الأصولية التي ذكرها الباحث في بناء الحكم على اللفظ الصريح ولو بلا نيةٍ وقصْدٍ إنما يُحكم بها على المرء قضاءً لا ديانة، وأن اللفظ الصريح قد يدخله التأويل إذا نوى المكلف به غير المعنى الذي يُستعمل فيه عادة، فقول الباحث “ولا يدخله التأويل” مخالف لقول الأصوليين والفقهاء، وكان ينبغي إن أراد التدقيق أن يقول: “فمن نطق بالكفر باللفظ الصريح فهذا يكفر اللافظ به إذا قصد معنى اللفظ ولم يكن له فيه تأويل”.

والذي يدعو إلى هذا التقييد هو أن اللفظ الصريح قد يُستعمل في صريح محكم لا يحتمِل إلا وجهاً واحداً، وقد يُستعمل في صريح يحتمِل أن يقصد القائل به غير المعنى الذي يُستعمل فيه عادة، فمن الأول في باب الطلاق قول الرجل لامرأته مثلاً “أنت طالق من عقد النكاح الذي بيننا فالحقي بأهلك واحتجبي مني واعتدي عدة الطلاق”. ومن الثاني قول الرجل لامرأته: “أنت طالق”. ولا تنس أن هذا اللفظ هو أحد ألفاظ الطلاق الصريحة، بل هو أصرحها.

ومن الأول ـ أي الصريح المحكم ـ في باب الردة قول الرجل مثلاً “محمد صلى الله عليه وسلم رجل عبقري جاء بأحكام وتشريعات أدت إلى رقي العالم لعدة قرون، ولكن هذا الزمن هو زمان العلم والحاسوب والشبكة العنكبوتية فلا بد من تعديل تلك الأحكام والتشريعات لاستمرار الرقي والتطور”. فهذا كفر صريح وردة سافرة لا تحتمل تأويلاً، وكذا من قال إنه لا يؤمن بنبوة الأنبياء المذكورين في القرآن الكريم، أو قال إن قصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام المذكورة في القرآن هي قصة وهمية خيالية، أو إن الجنة والنار ليس لهما حقيقة النعيم والعذاب وإنما يُراد بهما الترغيب والترهيب فقط.

ومن الثاني ـ أي الصريح المحتمِل ـ كثير مما يذكره الباحث ويسميه صريحاً ويبني عليه أحكام الردة، كقول بعض الناس “ينساك الموت”، وقول بعضهم “أنا لا أرحمك ولا أخلي الله يرحمك”، وقول بعضهم “الله يسكن قلوب الأولياء”، فهذه الكلمات ونحوها تحتمل أوجهاً من التأويل.

* ومما ينبغي التنبه له أن الباحث يقسم الألفاظ إلى صريح وظاهر، ويعرِّف الصريح بأنه ليس له إلا وجه واحد، ويذكر من أحكامه أنه لا يدخله التأويل.

والمعروف في علم الأصول غير هذا، فاللفظ ينقسم إلى صريح وكناية، وينقسم من جهة أخرى إلى ظاهر ونص ومفسر ومحكم، فالصريح لفظ يكون المراد به ظاهراً، ومن حكمه أنه يستغني عن النية. [أصول الشاشي: ص 64]. وليس الصريح قسيماً للظاهر كما ذكره الباحث.

وأما ما ذكره الباحث من أن الصريح ليس له إلا وجه واحد ولا يدخله التأويل فليس هذا هو المذكورَ في مبحث الصريح، بل في مبحث المفسر والمحكم. قال أبوعلي الشاشي: “فالظاهر اسم لكل كلام ظهر المراد به للسامع بنفس السماع من غير تأمل، والنص ما سيق الكلام لأجله، وحكم الظاهر والنص وجوب العمل بهما مع احتمال إرادة الغير، وأما المفسَّر فهو ما ظهر المراد به من اللفظ ببيان من قبل المتكلم بحيث لا يبقى معه احتمال التأويل، وأما المحكم فهو ما ازداد قوة على المفسر بحيث لا يجوز خلافه أصلاً”. [أصول الشاشي: ص 68 – 80].

ويسمي إمام الحرمين ما لا يتطرق إلى فحواه إمكان التأويل “النص”، وأما “الظاهر” عنده فهو ما يتطرق إمكان التأويل إليه. [البرهان: 1 / 512، 513]. وهذه مسألة اصطلاحية، ولا مشاحَّة في الاصطلاح، ولكن الأَولى التقيد بمصطلحات العلماء.

وإذا كان الباحث يسمي ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً ولا يدخله التأويل “صريحاً” فله ذلك إذا نبه على أن هذا اصطلاح خاص به مخالف لمصطلحات أهل العلم، والمشكلة الكبرى في أبحاثه أنه يغفـُل كثيراً عن التعريف الذي اصطلح هو عليه، فيدخل كثيراً من الألفاظ الكفرية التي تحتمل أكثر من وجه واحد في باب “الصريح”، بدلاً من “الظاهر”، ويحكم بناءً على ذلك بامتناع تطرق الاحتمال والتأويل إليها، ليصل إلى تكفير المتلفظ بها حتى ولو لم يقصد الاحتمال الكفري، لا قضاءً فحسب، بل قضاءً وديانة، مع دعوى الإجماع على ذلك، وهذه أخطاء متراكبة بعضها فوق بعض!.

* وفي الفقه أبواب يتخلف فيها الحكم عن اللفظ الذي هو أصرح الصريح لأن قائله لم يقصد معنى ذلك اللفظ، منها باب اليمين والنذر والطلاق:

اليمين:

قد يقول الرجل في خلال حديثه “بلى والله” أو”لا والله” وهو لا يقصد اليمين، فهل يُعد قوله هذا مع عدم القصد يميناً بحيث تجب عليه كفارة اليمين إذا حنِث رغم أن قوله “والله” من أصرح الصريح في اليمين؟؟.

جمهور العلماء على عدم وجوب الكفارة إذا لم يعقد قلبه على اليمين، فقد قالت عائشة رضي الله عنها في تفسير قول الله عز وجل {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم}: “هم القوم يتدارؤون في الأمر، يقول هذا لا والله، وبلى والله، وكلا والله، يتدارؤون في الأمر لا يعقد عليه قلوبهم”. ثبت هذا عنها بعدة أسانيد، ورُوي كذلك عن جماعة من السلف. [مصنف عبد الرزاق: 8 / 473- 474. تفسير الطبري: 2/240 – 241]. وعزاه ابن قدامة لعمر وعائشة وابن عباس وأبي هريرة وعطاء والقاسم وعكرمة والشعبي وأبي مالك وزرارة بن أوفى والحسن والنخعي ومالك والشافعي وأحمد. [المغني: 13 / 449 – 450. وانظر: الكافي لابن عبد البر: 1 / 384. مغني المحتاج للخطيب الشربيني: 4 / 324].

النذر:

قد يقول الرجل في لجاجه وغضبه “إن كلمتُ فلاناً فلله علي صيام ثلاثة أيام” مثلاً وهولا يقصد النذر، فهل يُعد قوله هذا نذراً بحيث يجب عليه الوفاء به رغم أن قوله “لله عليَّ” من أصرح الصريح في النذر؟؟.

يرى كثير من العلماء عدم وجوب الوفاء بالنذر إذا لم يلتزمه الناذر على سبيل التقرب إلى الله تعالى، أي دون عقد القلب على قصد معنى التقرب، كأن يقصد به الحثَّ على فعل شيء أو المنعَ من فعله.

ومن هذا أن مولاة أبي رافع الصائغ قالت لأبي رافع كل مملوك لها حر وكل مال لها هَدْي إن لم يطلق زوجته، فسأل أبو رافع زينبَ ابنة أم سلمة، فقالت لها: خلي بين الرجل وامرأته. فسأل حفصة، فقالت لها مثل ذلك، فسأل عبدَ الـله بن عمر، فقال لها: كفري عن يمينك وخلي بين الرجل وبين امرأته. [مصنف عبد الرزاق: 8 / 486 – 487، 490] بسند جيد.

وقال طاوس بن كيسان رحمه الله: “إنْ قال إنْ لم أفعل كذا وكذا فعليَّ صيام، عليَّ مشي، علي صلاة، علي هدْي، فهي يمين من الأيمان”. [مصنف عبد الرزاق: 8 / 446 – 447، 453] بسند جيد.

وسئل الحسن البصري وجابر بن زيد عن رجل قال إن لم أفعل كذا وكذا فأنا محْرِم بحجة؟ فقالا: “ليس الإحرام إلا على من نوى الحج، يمين يكفرها”. [مصنف عبد الرزاق: 8 / 453].

وعزاه ابن قدامة لعمر وابن عباس وابن عمر وعائشة وحفصة وجماعة من التابعين والشافعي وأحمد. [المغني: 13 / 461 – 462].

وعلق الخطيب الشربيني على نذر اللجاج بقوله: “وسُمي بذلك لوقوعه حال الغضب، والمراد به ما خرج مخرج اليمين، بأن يقصدَ الناذر منْعَ نفسه أو غيرِها من شيء أو يحثَّ عليه أو يحقق خبراً أو غضباً بالتزام قربة”. [مغني المحتاج: 4 / 355].

الطلاق:

قد يقول الرجل لامرأته “أنت طالق” وهولا يقصد الطلاق بمعنى انحلال عقد الزواج، بل يقصد أنها طالق من قيود الظالمين مثلا، فهل يُعد قوله هذا مع عدم قصد الطلاق طلاقاً مفرِّقاً بين الرجل وزوجته رغم أن قوله “أنت طالق” من أصرح الصريح في الطلاق؟؟.

اللفظ الصريح في الطلاق يقع الطلاق به إذا نوى معنى اللفظ سواء نوى إيقاعه به أو لم ينوه، بخلاف ألفاظ الكناية، فإنها لا يقع الطلاق بها إلا إذا نوى إيقاعه، وفي حالة الطلاق باللفظ الصريح فإن للمرأة أن تدَّعي أمام القاضي على الزوج أنه طلقها، وعلى القاضي أن يحكم بالطلاق وما يترتب عليه إذا ثبت عنده أن الزوج تلفظ بذلك، وهذا في حكم القضاء، وهذا معنى القاعدة التي قررها العلماء في مبحث الصريح، وهي أن الصريح لا يحتاج إلى نية، أي قضاءً.

أما فيما بين المرء وبين الله تعالى فإنه إذا كان يعلم من نفسه أنه إنما قال ذلك اللفظ لا يقصد به الطلاق المعهود ـ كما إذا نوى أنها طالق من وَثاق الظالمين مثلا ـ فإن الطلاق لا يقع ويبقى عقد الزواج مستمراً، لأنه لم يطرأ عليه ما ينقضه، وللمرأة أن تبقى مع زوجها على عقدهما السابق إذا غلبَ على ظنها صدقـُه، وهذا معنى كون الصريح يحتاج إلى نية ديانةً.

قال الإمام الشافعي رحمه الله: “فإن قال أنت طالق أو قد طلقتكِ أو فارقتك أو سرحتك لزمه، ولم يُنَوَّ في الحكم، ويُنَوَّى فيما بينه وبين الله تعالى، لأنه قد يريد طلاقا من وثاق، كما لو قال لعبده أنت حر، يريد حر النفس”. [مختصر المزني: ص 192].

قال أبو إسحاق الشيرازي:”وإن قال أنت طالق وقال أردت طلاقاً من وثاق لم يُقبل في الحكم، لأنه يدَّعي خلاف ما يقتضيه اللفظ في العرف، ويُدَيَّن فيما بينه وبين الله تعالى، لأنه يحتمِل ما يدعيه، فإن علمت المرأة صدقه فيما دُيِّن فيه الزوج جاز لها أن تقيم معه”. [المهذب: 17 / 96].

وهذا ينقض قولَ من قال إن اللفظ الصريح لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، وكذا قولَه إن الصريح لا يدخله التأويل، وكذا قولَه فلا يُنظر بعد كون اللفظ صريحاً إلى قصد الشخص، وينقض ما يرتبه من أحكام على قائل اللفظ الصريح غير قاصد معناه ديانةً بالإضافة إلى ترتيبها عليه قضاءً.

وقال ابن قدامة: “وإن قال أردت بقولي أنت طالق أي من وثاقي دُيِّنَ فيما بينه وبين الله تعالى، فمتى علم من نفسه ذلك لم يقع عليه فيما بينه وبين ربه، وهل تـُقبل دعواه في الحكم؟ يُنظر: فإن كان في حال الغضب أو سؤالها الطلاقَ لم يُقبل في الحكم، لأن لفظه ظاهر في الطلاق وقرينة حاله تدل عليه”. [المغني: 10 / 357]. وانظر: [الإنصاف للمرداوي: 8 / 465]. أي لا يُقبل منه في الحكم أنه لم يقصد الطلاق إذا كانت قرينة الحال تدل على أنه أراده.

وقال ابن عبد البر: “ولو قال أنت طالق وقال أردت من وثاق لم يُقبل قوله ولزمه الطلاق، إلا أن يكون هنالك ما يدل على صدقه”. [الكافي: 1 / 474]. ومفهومه أنه إذا كان هنالك قرينة تدل على صدقه قـُبل قوله ولم يلزمه الطلاق.

فهل أحكام “اللفظ الصريح” هي فعلاً ما أطلق الباحث القول فيه وكأنه محل اتفاق؟! أم إن أقواله في هذا الباب مخالفة لما اتفق عليه أهل العلم؟!!.

 

دعوى تعطيل أحكام الردة:

قال الباحث: “فمن نطق بالكفر الصريح وهو عامد فهذا يكفر اللافظ به، ولا يدخله التأويل، لأنه لو كان يدخله التأويل لتعطل تطبيق أحكام الردة وتلفظ من يشاء بما يشاء من الصريح ثم يقول كلامي له تأويل، وهذا باب من الفوضى كبير”.

وقال الباحث في معرض رده على بعض الناس: “ويجوز على قوله أن يقول الرجل أي قول من أقوال الكفر ويدافع عن نفسه بقوله أنا ما كنت منشرح البال إنما هو باللسان، فيُعفى من الاستتابة ثم ترتيب القتل عليه، فيكون ذلك هدماً لباب من أبواب الشرع وهو أحكام المرتدين”.

أقول: من نطق بكلام كفري فإنه يُؤاخذ بظاهر قوله، فيستتيبه القاضي الشرعي إذا ثبت أنه نطق بذلك، فإن تاب فبها ونعمت، وإن أبى التوبة عامله معاملة المرتد، وأما نيته وتأويل كلامه إن كان متأولاً فهذا بينه وبين ربه، و”إنما الأعمال بالنيات”.

ألا ترى إلى أن الذي قال لزوجته أنت طالق فإنه يُؤاخذ بظاهر قوله، وإذا أثبتت عليه زوجته هذا القول أمام القاضي فإن القاضي يرتب عليه الأحكام المتعلقة بالطلاق، وقد تكون هذه التطليقة هي الثالثة فتبين منه زوجته البينونة الكبرى، وأما نيته وتأويل كلامه إن كان متأولاً فهذا بينه وبين ربه.

وشتان بين الحكم على المرء بالكفر ظاهراً والحكم عليه به باطناً، أي قضاءً أو ديانة، ومن علمَ الفرق بينهما كَفَّ عن القول بأن اللفظ الصريح لو كان يدخله التأويل لتعطل تطبيق أحكام الردة، أو لتلفظ من يشاء بما يشاء ثم ادعى التأويل، أو لانهدم باب من أبواب الشرع وهو أحكام المرتدين.

وما مثال هذا إلا كمن قال لو كان لفظ الطلاق الصريح يدخله التأويل لتعطل تطبيق أحكام الطلاق!.

 

كلام إمام الحرمين في التكفير ظاهراً وباطناً:

قال الباحث: “قال إمام الحرمين: اتفق الأصوليون على أن من نطق بكلمة الردة وزعم أنه أضمر تورية كفر ظاهراً وباطناً. وأقرهم على ذلك، ذكره في نهاية المطلب، يعني إذا كان اللفظ صريحاً”.

وأشار الباحث إلى كلام إمام الحرمين مرات عديدة، محتجاً به على تكفير المتلفظ بكلام كفري وهولا يقصد معناه: ظاهراً وباطناً، أي قضاءً وديانةً.

أقول: لا حجة للباحث في كلام إمام الحرمين على صحة طريقته في التسرع بالتكفير، وكلام إمام الحرمين الذي نقله عن الأصوليين وأقرهم عليه يُؤول بأحد تأويلين:

التأويل الأول: قال ابن حجر الهيتمي بعد أن نقل كلامَه: “وكأن معنى قصْدِه التوريةَ أنه اعتقد مدلول ذلك وقصد أن يوري على السامع، وإلا فالحكم بالكفر باطناً فيه نظر”. [الإعلام بقواطع الإسلام: 2/348]. وانظر إلى اعتراض ابن حجر على تكفير مثل ذلك الرجل باطناً، إذ قال: “وإلا فالحكم بالكفر باطناً فيه نظر”.

التأويل الثاني: قال ابن حجر الهيتمي وشمس الدين الرملي: ونقل الإمام عن الأصوليين أن إضمار التورية ـ أي فيما لا يحتملها كما هو ظاهر ـ لا يفيد، فيكفر باطناً أيضاً لحصول التهاون منه، وبه فارق قبولَه في نحو الطلاق باطناً. [ تحفة المحتاج: 9/85. نهاية المحتاج: 7/ 394 [.

ومُفاده أن الذي نطق بكلام كفري وزعم أنه أضمر تورية إن كان ذلك من الصريح المحكم الذي لا يتطرق إليه الاحتمال ولو بوجه من الوجوه بحيث إنه يدل على تهاون قائله بربه ودينه فهذا الذي نكفره ظاهراً وباطناً.

لكن طريقة الباحث في التكفير لا تتفق مع هذا، إذ إنه يجعل كثيراً مما يقوله الجهلة كفراً وإن كان له محامل، ويحكمُ على مثل ذلك القائل بالكفر وإن لم يقصد المعنى الكفري، ويسد عليه باب تأويل لفظه بما يقصده ويعتقده مما يحتمله ذلك اللفظ.

وههنا مسألة مهمة لا بد من التنبيه عليها، وهي أن الإيمان بالله تعالى ليس مجرد معرفة نظرية بأن الله تعالى هو الرب الخالق السميع البصير، ولو كانت المعرفة المجردة إيماناً لكان إبليس مؤمناً ولكان كثير من اللادينيين مؤمنين!، وهيهات، ولكن الإيمان هو المعرفة مع الإذعان القلبي لله رب العالمين، ومن أذعن واستسلم لله تعالى بقلبه فلا بد أن يكون معظماً لله، والذي ينطق بكلمة الردة الصريحة المحكمة التي لا تحتمل تأويلاً من دون عذر ليس معظماً لله، ومن لم يكن قلبه معظما لله تعالى فليس بمؤمن، وهو كافر ظاهراً وباطناً “لحصول التهاون منه”.

وانظر إلى كلام إمام الحرمين رحمه الله حيث قال “وزعم أنه أضمر تورية”، ففيه إشارة إلى حال ذلك القائل، إذ يكفر بالله تعالى أو بشريعته وأحكامه كفراً ظاهراً بيِّناً صريحا محكما لا مرية فيه ولا احتمال، ثم يزعم أنه لا يقصد معاني ما قال، فكيف يُصدَّق في هذه المناقضة الواضحة والفرية الفاضحة؟!.

 

* وبعد أن نَجَزَ الغرض في الكلام على بعض ما يتعلق بالتكفير بالأقوال والتكفير بالأفعال أنتقل إلى الكلام على التكفير بالاعتقادات، فأقول مستعينًا بالله تعالى:

التكفير بالاعتقادات:

المجسمة:

قال الباحث: “من نسبَ إلى الله الجسمية واعتقد أنه جسم أو قال ذلك كفرَ، والجسم هو كل شيء له حجم أي طول وعرض وعمق”.

وقال الباحث في تعديد المكفرات: “وكذلك اعتقاد أن الله جسم جالس على العرش ولو قال بلا كيف”.

ونقل الباحث عن الزركشي في تشنيف المسامع عن صاحب الخصال من الحنابلة عن الإمام أحمد ابن حنبل تكفير من قال إنه تعالى جسم لا كالأجسام.

أقول: لا شك في كفر من جسَّمَ تجسيما صريحا، كالذي يقول إن الله جسم كالأجسام، أو جسم له طول وعرض وعمق، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

ولكن ما حكم من قال إن الله تعالى جسم لا كالأجسام؟.

نقل الباحث تكفيره عن الإمام أحمد نقلاً عن كتاب الخصال!. وقد أفادني أحد الإخوة جزاه الله خيرا بصورة عن صفحة من كتاب الخصال لابن البناء الحنبلي، وفيها: “قالت الأشعرية إذا قال جسم لا كالأجسام فسق، ومذهب أحمد يكفره”. ولم أجد أحدا من فقهاء الحنابلة يوافقه على هذا النقل الغريب.

ولست أدري لمَ ينقل الباحث نصا عن بعض العلماء يؤيد توجهه ويسكت عن النصوص الكثيرة التي تخالف مشربه! بل لا يشير إليها حتى مجرد إشارة! ويوهم القارئ أن ما ذكره هو قول العلماء كافة في المسألة!، حتى لكأنها إجماعية!. فهل هذا هو مسلك المنصفين؟! وهل هذه الطريقة هي طريقة علماء المسلمين؟!.

وإليك بعضَ تلك النصوص الكثيرة التي تخالف ذلك التوجه:

ـ قال القاضي عياض رحمه الله: “وأما من أضاف إلى الله تعالى ما لا يليق به ليس على طريق السب ولا الردة وقصدِ الكفر ولكن على طريق التأويل والاجتهاد والخطـأ المفضي إلى الهوى والبدعة من تشبيه أو نعت بجارحة أو نفي صفة كمال: فهذا مما اختلف السلف والخلف في تكفير قائله ومعتقِدِه، واختلف قول مالك وأصحابه في ذلك، فأكثر قول مالك وأصحابه ترك القول بتكفيرهم”. [الشفا: 2/ 272[. ثم قال عن المشبهة ونحوهم “والصواب ترك إكفارهم”. [الشفا: 2/ 294[.

وكلام القاضي عياض رحمه الله هنا محمول على من لا يشبه الله تعالى بخلقه تشبيهاً صريحاً، كما سيتضح من النصوص التالية، أما من يشبه الله تعالى بخلقه تشبيهاً صريحاً فلا شك في كفره، وذلك كما نُسب إلى بعض الناس أنه قال وهو جالس على كرسي بأن الله جل وعلا جالس على العرش كجلوس القائل على كرسيه، وبأنه قال وقد نزل درجة من درجات المنبر بأن الله جلَّ وعلا ينزل إلى السماء الدنيا كنزوله هو، وهذا لا شك في كفر معتقِدِه، لكن إن ثبت هذا عن المنسوب إليه بالسند الصحيح، فإن لم يثبت بالسند الصحيح فلا يجوز ذكره ونقله، وخاصة إذا كان قد قيل في عالم من علماء المسلمين.

ـ قال الفخر الرازي: “اعلم أن المشهور عن قدماء الكرامية إطلاق لفظ الجسم على الله تعالى، إلا أنهم يقولون لا نريد به كونه تعالى مؤلفاً من الأجزاء ومركباً من الأبعاض، بل نريد به كونه تعالى غنياً عن المحل قائماً بالنفس، وعلى هذا التقدير فإنه يصير النزاع في أنه تعالى جسم أو لا نزاعاً لفظياً”. [أساس التقديس: ص 100[.

ـ وقال الرازي: “من يثبت كونه تعالى جسما متحيزا مختصا بجهة معينة هل يُحكم بكفره أم لا؟ للعلماء فيه قولان: أحدهما أنه كافر، وهو الأظهر، والقول الثاني أنا لا نكفرهم”. [أساس التقديس: ص 257 [. وانظر إلى إنصافه رحمه الله كيف حكى القولين وبيَّن الأظهر والأرجح منهما، وهذا فيمن أثبت الجسمية مع التحيز والاختصاص بجهة.

ـ قال العز ابن عبد السلام: “والأصح أن معتقد الجهة لا يكفر”. [فتاوى سلطان العلماء: ص 103].

ـ قال ابن دقيق العيد: “اختلف الناس في التكفير وسببه حتى صُنف فيه مفرداً، والذي يرجع إليه النظر في هذا أن مآل المذهب هل هو مذهب أو لا؟ فمن أكفر المبتدعة قال إن مآل المذهب مذهب، فيقول: المجسمة كفار، لأنهم عبدوا جسماً، وهو غير الله تعالى، فهم عابدون لغير الله تعالى، ومن عبد غير الله كفر”. ثم قال: “والحق أنه لا يُكفر أحد من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة عن صاحبها، فإنه حينئذ يكون مكذباً للشرع، وليس مخالفة القواطع مأخذاً للتكفير، وإنما مأخذه مخالفة القواعد السمعية القطعية طريقاً ودلالة”. ] إحكام الأحكام: 2/ 210 [.

ـ إذا أوصى رجل بوصية لأجهل الناس من المسلمين فقال المتولي ـ وهو من كبار فقهاء الشافعية ـ: “يُصرف إلى الإمامية المنتظرة للقائم وإلى المجسمة”. نقله عنه النووي والحصني. [كفاية الأخيار: 2 / 22].

ـ قال النووي فيمن يكفر ببدعته: “فممن يكفر من يجسِّم تجسيماً صريحاً”. ]المجموع شرح المهذب: 4/ 253[.

ـ قال الخطيب الشربيني: اختـُلف في كفر المجسمة، قال في المهمات “المشهور عدم كفرهم”، وجزم في شرح المهذب في صفة الأئمة بكفرهم، قال الزركشي في خادمه وعبارة شرح المهذب من جسَّم تجسيماً صريحاً، وكأنه احترز بقوله صريحاً عمن يثبت الجهة فإنه لا يكفر، كما قاله الغزالي، وقال الشيخ عز الدين إنه الأصح، وقال في قواعده: إن الأشعري رجع عند موته عن تكفير أهل القبلة، لأن الجهل بالصفات ليس جهلاً بالموصوفات. [مغني المحتاج: 4/134-135[.

ـ قال ابن حجر الهيتمي: “والمشهور من المذهب كما قاله جمع متأخرون أن المجسمة لا يُكفرون، لكن أطلق في المجموع تكفيرهم، وينبغي حمل الأول على ما إذا قالوا جسم لا كالأجسام، والثاني على ما إذا قالوا جسم كالأجسام”. [الإعلام بقواطع الإسلام: 2/ 358 المطبوع آخر الزواجر[.

ـ قال الزركشي: “وأما المخطئ في الأصول والمجسمة فلا شك في تأثيمه وتفسيقه وتضليله، واختـُلف في تكفيره، وللأشعري قولان، قال إمام الحرمين وابن القشيري وغيرهما وأظهر مذهبيه ترك التكفير، وهو اختيار القاضي في كتاب إكفار المتأولين”. [البحر المحيط: 6/239[.

ـ قال عضد الدين الإيجي بعد أن ذكر المكفرات: “وأما غير ذلك فالقائل به مبتدع وليس بكافر، ومنه التجسيم”. قال الدَوَّاني معلقاً على ذكر التجسيم: “أي القول بأن الله تعالى جسم بلا كيف، وأما المصرحون بالجسمية المثبتون للوازمها من غير تستر بالبلكفة فهم يُكفرون”. [العقائد العضدية مع شرح الدواني: 2/293[. البلكفة: كلمة منحوتة من قولك بلا كيف.

ـ قال الشعراني: [قال الكمال ابن أبي شريف في حاشيته على شرح جمع الجوامع: “ومن قال منا بأن لازم المذهب مذهب كفـَّر المبتدعة الذين يلزم مذهبَهم ما هو كفر، فإن المجسمة مثلاً عبدوا جسماً، وهو غير الله تعالى بيقين، ومن عبد غير الله كفر”. قال الكمال: “والصحيح أن لازم المذهب ليس بمذهب، وأنه لا كفر بمجرد اللزوم، لأن اللزوم غير الالتزام”]. [اليواقيت والجواهر: 2/ 123[.

ـ قال الخرشي في أمثلة اللفظ المقتضي للكفر: “وكذا إذا قال الله جسم متحيز”. قال العدوي في حاشيته: “أي آخذ قدراً من الفراغ، والمراد أنه قال جسم كالأجسام، هذا هو الذي يكفر قائله أو معتقده، وأما من قال جسم لا كالأجسام فهو مبتدع، على الصحيح”. [ شرح الخرشي على متن الشيخ خليل وحاشية العدوي: 8/62[.

ـ قال الشيخ محمد بن أبي بكر الأشخر: “وقسْم لا يكفرون، كالمعتزلة والقدرية والزيدية وفرقة من الحنابلة اعتقدوا التجسيم لكن ليس كسائر الأجسام”. [انظر: بغية المسترشدين للشيخ عبد الرحمن المشهور: ص 248[.

ـ قال الشيخ يوسف النبهاني: “قال بعض العلماء بكفر القائلين بالجهة، لأن ذلك يستلزم اعتقاد التجسيم في جانب الله عز وجل، لكن جمهور العلماء على تبديعهم وعدم تكفيرهم، لأن لازم المذهب ليس بمذهب”. [شواهد الحق: ص 63[.

فهذه نصوص العلماء بتكفير من قال عن الله تعالى جسم كالأجسام، وأما الذي يقول جسم لا كالأجسام أو بلا كيف فلا يُكفر.

 

 

 

 

 

الخوارج:

نقل الباحث عن الإمام أبي منصور عبد القاهر البغدادي أن أهل الحق قالوا بأن القدرية والخوارج مخلدون في النار ولا يخرجون منها، ونقل عنه أن الأصحاب ـ ولعله يعني الشافعيين والأشاعرة ـ أجمعوا على تكفير الغلاة من الخوارج.

وقال الباحث: “على أن من الخوارج صنفاً هم كفار حقيقة، فأولئك لهم حكمهم الخاص”.

ثم قال: [وقولنا في الخوارج باستثناء بعضهم من الذين لم يكفروا، لثبوت ما يقتضي التكفير في بعضهم، كما يؤيده قول بعض الصحابة الذين رووا أحاديث الخوارج، وأما ما يُروى عن سيدنا علي من أنه قال “إخواننا بغَوا علينا” فليس فيه حجة للحكم على جميعهم بالإسلام، لأنه لم يثبت إسناداً عن علي، وقد قطع الحافظ المجتهد ابن جرير الطبري بتكفيرهم، وغيره، وحُمل ذلك على اختلاف أحوال الخوارج بأن منهم من وصل إلى حد الكفر ومنهم من لم يصل].

أقول: تعرض الباحث لذكر الخوارج، ونقل تكفيرهم عن ابن جرير الطبري، وانتهى إلى أن منهم من وصل إلى حد الكفر ومنهم من لم يصل، وكأنه يستند في ذلك إلى ما نقله أبو منصور البغدادي من اتفاق أهل الحق على تكفير الغلاة من الخوارج ولكنه لم يبين من هم الغلاة منهم؟!.

ولعله يعني بهم من كفـَّروا علي بن أبي طالب t وخرجوا على إمامته وكفـَّروا جماعة من كبار الصحابة y واستحلوا دماء المسلمين وأموالهم، لأنه يرى أن تكفيرهم هو قول بعض الصحابة الذين رووا أحاديث الخوارج، وأن ما يُروى عن سيدنا علي من أنه قال “إخواننا بغوا علينا” لم يثبت إسناده عنه.

أما قول الباحث بأن ما يُروى عن سيدنا علي من حكمه بعدم تكفير الخوارج لم يثبت إسناداً عنه: فهذا غير صحيح، لأنه قد ثبت عن طارق بن شهاب أنه قال: كنت عند علي فسئل عن أهل النهر: أهم مشركون؟. قال: من الشرك فروا. قيل: فمنافقون هم؟. قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً. قيل له: فما هم؟. قال: “قوم بغوا علينا”. [[4] ].

وأما قوله بأن تكفير الخوارج الغلاة في خارجيتهم هو قول بعض الصحابة الذين رووا أحاديث الخوارج فقد رمى به دون ذكْر اسم الصحابي الذي رُوي عنه ذلك، ولا تخريج الرواية، ولا دراسة سندها!.

فأما ذلك الصحابي فهو أبو أمامة الصُدَيُّ بن عجلان، وقد رُويت عنه بسند ضعيف. [[5] ].

ثم إنه لو صحت تلك الكلمة عن أبي أمامة لوجب حملها على أنه كفر دون الكفر الأكبر، لأن علياً ومن معه من الصحابة الذين قاتلوا الخوارج عاملوهم معاملة البغاة، لا معاملة المرتدين، ولأن علياً t أعرف بحال الخوارج وقد أنكر على من نسبهم إلى الكفر، واكتفى بنسبتهم إلى البغي.

ومعاملة علي والصحابة الذين معه للخوارج معاملة البغاة لا معاملة المرتدين أمر مشهور في كتب التاريخ، ولم يقاتلهم الصحابة حتى قتلوا عبد الله بن خباب وأم ولده ورفضوا تسليم القاتلين وقالوا كلنا قتله، ولما قاتلهم الصحابة وهزموهم لم يجهزوا على جرحاهم، بل أمر علي t بمداواتهم، ولم يجعل أموالهم فيئاً، وردَّ أمتعتهم إلى أهليهم، أي إلى ورثتهم من المسلمين، ولكنه قسم السلاح وعدة الحرب من الدواب ونحوها بين المقاتلين. [انظر: تاريخ الطبري: 6/ 3363، 3383 – 3384. سنن الدارقطني: 3/ 131- 132. البداية والنهاية لابن كثير: 7/ 316]. [[6]].

وفي هذا دليل على أن الخوارج بغاة خارجون على الإمام العدل، لا مرتدون.

وأما ما نقله الباحث من تكفير الخوارج عن الإمام ابن جرير الطبري وغيره فهذا من التسرع، وسكوته عن مجرد الإشارة إلى الفقهاء المقتدين بعلي t في عدم تكفيرهم أمر غريب، وهذه بعض أقوال العلماء الذين نصوا على غير مدعاه:

نقل الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الإمام الخطابي وهو أحد كبار العلماء الشافعيين المتوفى سنة 385 أنه قال: أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالتهم فرقة من فرق المسلمين. ونقل عن ابن بطال الفقيه المالكي من شراح صحيح البخاري أنه قال: ذهب جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين عن جملة المسلمين. ثم قال ابن حجر: وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فساق وأن حكم الإسلام يجري عليهم، لتلفظهم بالشهادتين ومواظبتهم على أركان الإسلام، وإنما فسقوا بتكفيرهم المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد، وجرهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم والشهادة عليهم بالكفر والشرك. [فتح الباري: 12/ 300 – 301].

وقال القاضي عياض: فقد كان نشأ على زمن الصحابة وبعدهم في التابعين من قال بهذه الأقوال من القدر ورأي الخوارج والاعتزال، فما أزاحوا لهم قبراً، ولا قطعوا لأحد منهم ميراثاً. ثم قال عن أهل البدع: فأكثرُ قولِ مالك وأصحابه تركُ القول بتكفيرهم، وأكثر أقوال السلف تكفيرهم، وممن رُوي عنه معنى القول الآخر بترك تكفيرهم علي بن أبي طالب وابن عمر والحسن البصري، وهو رأي جماعة من الفقهاء النظار والمتكلمين، واحتجوا بتوريثِ الصحابة والتابعين ورثةَ أهل حروراء ومن عُرف بالقدر ممن مات منهم، ودفْنِهم في مقابر المسلمين، وجرْي أحكام الإسلام عليهم. [الشفا: 2/ 294، 275].

وقال ابن رشد الجد: “وأما الأهواء المضلة كالخوارج والقدرية وشبههم فمن كفـَّرهم بمآل قولهم لم يجِز أن يُعطـَوا من الزكاة، ومن لم يكفرهم بمآل قولهم أجاز أن يُعطـَوا منها إذا نزلت بهم حاجة، وهو الأظهر”. [البيان والتحصيل: 2/ 392. وانظر: 16/ 362 – 365].

وقال ابن قدامة المقدسي: “الخوارج الذين يكفـِّرون بالذنب ويكفرون عثمان وعلياً وطلحة والزبير وكثيراً من الصحابة ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم: فظاهر قول الفقهاء من أصحابنا المتأخرين أنهم بغاة، حكمهم حكمهم، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء وكثير من أهل الحديث، ومالك يرى استتابتهم، فإن تابوا وإلا قـُتلوا على إفسادهم، لا على كفرهم، وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنهم كفار مرتدون”. ثم نقل عن ابن عبد البر أنه قال “لا أعلم أحداً وافق أهلَ الحديث على تكفيرهم وجعْلهم كالمرتدين”. ثم قال: “وكذلك لم يُحكم بكفر ابن ملجم مع قتله أفضلَ الخلق في زمنه متقرباً بذلك”. [المغني: 12/ 239، 241، 276].

وقال ابن عابدين: “ذكر في فتح القدير أن الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم ويكفرون الصحابة حكمُهم عند جمهور الفقهاء وأهل الحديث حكم البغاة، وذهب بعض أهل الحديث إلى أنهم مرتدون، قال ابن المنذر: ولا أعلم أحداً وافق أهل الحديث على تكفيرهم”. [رد المحتار: 3/ 293].

وقال ابن حجر الهيتمي: “المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون أن الخوارج لا يكفرون، كسائر أهل البدع”. ثم قال: “الخوارج لم يكفروا غيرهم إلا بتأويل، ولم يسمُّوا الإسلام كفراً، وحينئذ فالمعتمد ما في شرح مسلم وغيره من عدم تكفيرهم”. [الإعلام بقواطع الإسلام: 2/ 341، 342].

هذه بعض أقوال أهل العلم في غلاة الخوارج، فهل يصح بعد هذا دعوى الاتفاق على تكفيرهم وخلودهم في النار؟!.

 

القدرية والمعتزلة:

نقل الباحث عن الإمام أبي منصور البغدادي أنه قال: “إن أكثر المعتزلة قالوا: إن الله غير قادر على مقدور غيره وإن كان هو الذي أقدر القادرين على مقدوراتهم”.

ونقل عن الإمام أبي منصور الماتريدي أن القدرية قالوا: “يقـْدر الله جل ثناؤه على حركات العباد وسكونهم، فلما أقدرهم على تلك الحركات والسكون زالت عنه القدرة عليها”.

وقال الباحث: “قال المعتزلة: المعاصي ليست واقعة بمشيئة الله وتقديره وخلقه، بل بمشيئة العبد وخلقه”. وأضاف: “فالمعتزلي يقول: ما شئتُ كان، وما شاء الله لم يكن”.

وقال: “وقد ثبت عن المعتزلة أنهم يقولون: إن الله كان قادراً على خلق مقدورات العباد وحركاتهم وسكناتهم قبل أن يعطيهم القدرة عليها، فلما أعطاهم القدرة عليها صار عاجزاً”. وقال: “لم يطـَّلع الشافعي على ما يقضي بكفر المعتزلة من أقوالهم، كقولهم بأن العبد يخلق أفعال نفسه بقدرة أعطاه الله إياها، وأن الله كان قادراً على خلق مقدور العبد قبل أن يعطيه القدرة عليه فصار بعد أن أعطاه القدرة عاجزاً عن مقدور العبد ونحو ذلك مما هو صريح في نسبة النقص إلى الله تعالى”.

ثم نقل عن الشيخ مرتضى الزبيدي أنه قال: “ولذلك لم يتوقف علماء ما وراء النهر في تكفير المعتزلة”.

ونقل عن أبي منصور البغدادي أنه قال: “اعلمْ أن أصحابنا وإن أجمعوا على تكفير المعتزلة والغلاة من الخوارج فقد أجازوا لعامة المسلمين معاملتهم في عقود البِيَاعَات، دون الأنكحة ومواريثهم والصلاة خلفهم وأكل ذبائحهم”. [والبِياعات هي السِلَع].

أقول: لقد أكثر الباحث من الكلام عن القدرية والمعتزلة، ونقل مذهبهم في مسألة خلق أفعال المكلفين مما فهمه عنهم القائلون بتكفيرهم، ونسب الشافعيَّ رحمه الله إلى قلة الاطلاع على أقوالهم، وسكت عن أقوال الفقهاء الذين اطـَّلعوا على بدعة القائلين بخلق الأفعال ـ لا بالمعنى الذي ذكره الباحث ـ ولم يكفروهم، حتى لَيُخيَّل إلى القارئ أن كل العلماء الذين عرفوا مذهبهم قد أجمعوا على تكفيرهم، وهذا خلاف الواقع، واليك البيان:

لا شك في كفر القائلين بأن الله تعالى غير قادر على مقدور غيره وإن كان هو الذي أقدر القادرين على مقدوراتهم، ولا شك في كفر القائلين بأن الله تعالى كان قادراً على خلق مقدورات العباد وحركاتهم وسكناتهم قبل أن يعطيهم القدرة عليها فلما أعطاهم القدرة عليها صار هو سبحانه عاجزاً عنها، ولا شك في كفر القائل ما شئتُ كان وما شاء الله لم يكن، كما لا شك في كفر من ينفي علم الله تعالى بالأشياء قبل وقوعها، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، بل ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وهو العلي القدير.

هذا اعتقاد المسلمين كافة، يؤمنون برب العالمين، وبقدرته المطلقة على كل الممكنات، والآيات القرآنية الكريمة كثيرة في هذا المعنى، وليس بعد بيان الله تعالى بيان.

ولكن هل المعنى الذي ذكره الباحث هو حقيقة مذهب القدرية والمعتزلة؟! أو هو ما فهمه عنهم الذين ألزموهم بلازم قولهم على سبيل الرد عليهم والتشنيع على بدعتهم؟!، وإذا كان ذلك كذلك فما حقيقة مذهبهم؟.

يجيبنا على هذا السؤال الإمام أبو الحسن الأشعري الذي كان منهم ثم انتقل عنهم إلى مذهب أهل السنة حتى صار من كبار أئمة أهل السنة، إذ يقول: “واختلفت المعتزلة هل يُوصف الله بالقدرة على جنس ما أقدر عليه عباده أم لا؟ وهم فرقتان: فزعمت فرقة منهم أنه إذا أقدر عباده على حركة أو سكون أو فعل من الأفعال لم يُوصف بالقدرة على ذلك ولا على ما كان من جنس ذلك، وأن الحركات التي يقدر البارئ عليها ليست من جنس الحركات التي أقدر عليها غيره من العباد، وزعمت فرقة أخرى منهم أن الله إذا أقدر عباده على حركة أو سكون أو فعل من الأفعال فهو قادر على ما هو من جنس ما أقدر عليه عباده، وهذا قول الجبائي وطوائف من المعتزلة”. [مقالات الإسلاميين: 1/ 274].

فكلام المعتزلة كلام فلسفي دقيق، لسنا بحاجة إليه، ويكفينا في صفات ربنا تبارك وتعالى ما أنزله إلينا من البينات والهدى، ولكنهم أقحموا أنفسهم في لجج بحر الفلسفة، فوقعوا في مثل هذا الهذيان، وخلاصة مقالتهم هي: هل يُوصف الله تبارك وتعالى بالقدرة على جنس الأفعال التي منح عباده القدرة عليها؟ أو إن قدرته العلية المطلقة هي فوق ذلك؟ بمعنى أنه سبحانه منح بقدرته عبادَه المكلفين قدرة على أفعالهم الاختيارية فعلاً أو تركاً حسب مشيئتهم التي منحها هو لهم كذلك، فالإنسان ـ عندهم ـ يخلق أفعاله الاختيارية بالمشيئة والقدرة التي أودعهما الله فيه، والله سبحانه وتعالى قادر على أن يُقـْدِره على ذلك، وقادر على أن ينزع منه هذه القدرة، لا بمعنى أنه أقـْدره على ذلك ثم زالت عنه القدرة فأصبح عاجزاً عما أقدر عليه العباد!!، فهذا إن قاله أحد منهم كفـَّرناه به، ولكنا لا نعلم أن عامة القدرية والمعتزلة قالوه، بل ولا أن واحدا من القدرية والمعتزلة قد قاله، ولا نعلم أن المعتزلي يقول ما شئتُ كان وما شاء الله لم يكن، ولو كان ذلك كذلك لما اختلف العلماء في تكفيرهم، بل لحكموا على من لم يكفرهم بالكفر.

كان أول من قال بالقدر في البصرة معبد الجهني، فانطلق يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، لسؤال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يقول هؤلاء في القدر، فوافقا عبدَ الله بنَ عمر رضي الله عنهما داخلاً المسجد، فسأله يحيى بن يعمر: يا أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قِبَلَنا ناس يقرؤون القرآن، ويتقـَفـَّرون العلم، وإنهم يزعمون أنْ لا قدرَ وأنَّ الأمر أُنُفٌ؟!. أي مستأنَف. فقال ابن عمر: “فإذا لقِيتَ أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثلَ أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر”. ثم حدَّث عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث جبريل في السؤال عن الإسلام والإيمان والإحسان. [صحيح مسلم: 1/150 – 157. شرح السنة للبغوي: 1/ 7 – 9]. ونقل النووي في شرحه لصحيح مسلم اختلافَ العلماء في فهم كلام ابن عمر هذا هل المراد به تكفيرهم أو لا؟. [شرح صحيح مسلم: 1/ 156].

بدأت مقالات القدرية إذن بالظهور قرابة سنة سبعين للهجرة، وفي حياة الإمام الشافعي كانت بدع المعتزلة في غاية الظهور، ولم يكن أهل البدع والأهواء مستخفين بها، فهل يُتوقع أن الإمام الشافعي رحمه الله لم يبلغه من مذاهب المعتزلة ما يكفرهم به لو كان مثلُ ذلك عندهم؟!، هذا في غاية البعد، وإذا كان هو غيرَ مطلع على مذاهبهم فكيف غفـَل أئمة المذهب من بعده عن ذلك حتى أجازوا الصلاة خلف المعتزلة وقبلوا شهادتهم إذا كانوا عدولا؟!، هذا أبعد من البعيد.

ومن الغريب أن ينقلَ الشافعية عن الإمام الشافعي أنه نص في كتاب الأم والمختصر على قبول شهادة أهل البدع والأهواء إلا الخطابية وينفردَ أبو منصور البغدادي في كتابه أصول الدين [ص 308] بأن الشافعي أشار في كتاب القياس إلى رجوعه عن قبول شهادة المعتزلة وأهل الأهواء!، لذا فإن من جاء بعده كالرافعي والنووي وغيرهما لم يلتفتوا إلى ما حكاه وانفرد به من مسألة الرجوع عن قَبول شهادتهم. [وانظر: المجموع للنووي: 4/ 254. كفاية الأخيار للحصني: 2/ 170-171].

الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله من أعرف الناس بمذاهب القدرية والمعتزلة وأكثرهم اطلاعاً عليها، ومع ذلك لم يكفرهم، فقد صح عنه أنه سئل عن الرجل يكون له قرابة قدري؟ فقال: “القدر لا يخرجه من الإسلام”. [السنة للخلال: ص 531]. وروي عنه من طريقين أنه سئل عن عيادة القدري فقال: “إذا كان داعية فلا”. [السنة للخلال: ص 561]. وسئل عن الصلاة خلف القدري فقال: إن كان يخاصم فيه ويدعو إليه فلا يصلى خلفه. [السنة لعبد الله بن أحمد: ص 106]. وصح عنه أنه سئل عمن قال بالقدر: يكون كافراً؟. فقال: [إذا جحد العلم، إذا قال “إن الله لم يكن عالماً حتى خلق علماً فعلم” فجحد علم الله فهو كافر]. [السنة لعبد الله بن أحمد: ص 106. السنة للخلال: ص 529].

فهل الإمام أحمد لا يعرف مذاهب القدرية والمعتزلة؟!، هذا شبيه بالمحال، ومع ذلك فقد كان هو والعلماء الذين في عصره يصلون الجُمَع والأعياد خلف المعتزلة. [انظر: المغني لابن قدامة: 3/ 22]. فهل كانوا يعتقدونهم كفاراً ويصلون خلفهم؟!!، مستحيل، فإذا نُقل عن الإمام أحمد أنه كفر القائلين بخلق الأفعال فهذا من باب كفر دون كفر.

ونهْيه عن الصلاة خلف القدري إن كان يخاصم فيه ويدعو إليه دليل على أنه يرى صحة الاقتداء به إذا لم يكن مخاصماً فيه وداعياً إليه، وهذا يعني أنه ـ عنده ـ ليس بكافرٍ الكفرَ المخرجَ من الملة وإن كان مبتدعا.

ومن العلماء الذين أطلقوا القولَ بعدم تكفير المعتزلة أو رجحوه: الإمامُ المجتهد ابن دقيق العيد، وابن أبي شريف، وأقره عليه الشعراني، والإمام أبو القاسم الأنصاري تلميذ إمام الحرمين، وأقره عليه الدواني، وابن حجر الهيتمي، والأشخر.

[انظر: إحكام الأحكام لابن دقيق العيد: 2/ 210. اليواقيت والجواهر للشعراني: 2/ 123. شرح الداوني للعقائد العضدية: 2/ 292. الإعلام بقواطع الإسلام للهيتمي: 2/ 350، 374. بغية المسترشدين للشيخ عبد الرحمن المشهور: ص 248].

وكذا القاضي عياض وابن رشد الجد، وقد تقدم نقل نصوصهم في المبحث السابق، وغيرهم كثير.

ـ قال الإمام النووي: “فلو كان بجواره مسجد قليل الجمع وبالبعد منه مسجد أكثر جمعاً فالمسجد البعيد أولى إلا في حالين: أحدهما أن تتعطل جماعة القريب لعدوله عنه، الثاني أن يكون إمام البعيد مبتدعاً كالمعتزلي وغيره”. [المجموع: 4/ 198].

ـ وقال النووي في المنهاج: “وما كثر جمعه أفضل إلا لبدعة إمامه”. قال الخطيب الشربيني في شرحه: “كمعتزلي وقدري ورافضي”. [مغني المحتاج: 1/ 231]. فلو كان الشافعية مجمعين على كفر المعتزلة والقدرية فهل يطلق الفقهاء الشافعيون القول بصحة الصلاة خلفهم؟! ودون أدنى إشارة إلى وقوع أي اختلاف في المسألة؟!.

ـ وقال النووي: “لم يزل السلف والخلف يرون الصلاة وراء المعتزلة ونحوِهم ومناكحتـَهم وموارثتـَهم وإجراء سائر الأحكام عليهم”. [المجموع: 4/ 254. مغني المحتاج للخطيب الشربيني: 4/ 135].

ـ قال الإمام القرافي المالكي: “مع أن الصحيح عدم تكفيرهم بخلق الأفعال”. [الذخيرة: 12/ 36].

ـ ورجَّح جلال الدين المحلي الفقيه الأصولي الشافعي أن منكري خلق الله تعالى لأفعال العباد لا يكفرون، وأشار إلى أن بعض العلماء كفروهم، قال: “ولا نكفر أحداً من أهل القبلة ببدعته، كمنكري صفاتِ الله وخَلـْقـَه أفعالَ عباده وجوازَ رؤيته يوم القيامة، ومنا من كفرهم”. [شرح المحلي على جمع الجوامع: 2/ 420].

ـ قال الخطيب الشربيني في شرح المنهاج: “ولم يبين المصنف من لم يُكفـَّر ببدعته ومن يُكفـَّر بها، ومن القسم الأول منكر صفاتِ الله تعالى وخلـْْقـَه أفعالَ عباده”. [مغني المحتاج شرح المنهاج: 4/ 435 – 436].

ـ وذكر ابن حجر الهيتمي أن من قال إنه يخلق أفعاله فهو كافر، واستثنى من ذلك من يقول هذا بالمعنى الذي تقوله المعتزلة، أي فلا يكفر، قال رحمه الله في سرده للمكفرات: “أو قال إنه يخلق فعل نفسه، لا بالمعنى الذي تقوله المعتزلة”. [الزواجر عن اقتراف الكبائر: 1/ 30]. وصرح في موضع آخر كذلك بعدم التكفير إذ قال: “وزعْمُ أن الله تعالى لا يخلق فعل العبد لا كفـْرَ به أيضاً”. [الإعلام بقواطع الإسلام: 2/ 374].

ـ فكيف يصح بعد هذا إطلاقُ القول بتكفير المعتزلة القدرية؟! بل ودعوى إجماع الشافعية والأشاعرة على تكفيرهم ومعاملتهم معاملة المرتدين في النكاح والصلاة والذبائح؟! كيف يصح هذا والإمام النووي الشافعي الأشعري يقول: “لم يزل السلف والخلف يرون الصلاة وراء المعتزلة ومناكحتهم وموارثتهم وإجراء سائر الأحكام عليهم”؟!.

ـ ومن الغريب ادعاءُ الباحث أن ابن أمير الحاج يكفر القائلين بخلق أعمالهم، واستدلالـُه على دعواه بنص غامض من كتاب التقرير والتحبير الذي شرح به ابن أمير الحاج كتاب التحرير لابن الهمام.

والحقيقة التي لا شك فيها هي أن صاحب “التقرير والتحبير” لا يكفر القائلين بخلق أعمالهم، بل هو قائل بعدم تكفيرهم، بخلاف ما ادعاه الباحث، ولعل سبب الخطأ في فهم عبارته يرجع إلى غموضها من جانب، وإلى تسرع الباحث وعدم ترويه من جانب آخر.

والدليل على أن ابن أمير الحاج يقول بعدم تكفير القائلين بخلق أعمالهم أمران:

الأول: قال ابن الهمام: “وجهْلُ المبتدع كالمعتزلة مانعي ثبوت الصفات زائدةً لا يصلح عذرا، لوضوح الأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة، لكن لا يكفر، إذ تمسكه بالقرآن أو الحديث أو العقل”. فذكر ابن أمير الحاج في تذييله على هذا المبحث المبتدِعَ المخالف لأهل السنة في مسألة الصفات وخلق الأفعال، وأضاف قائلا: “ولعل إلى هذا أشار المصنف ماضيا بقوله إذ تمسكه بالقرآن أو الحديث أو العقل”. [انظر: التحرير مع التقرير والتحبير: 3/ 316 – 317]. فجعْله المخالفَ في مسألة الصفات وخلقِ الأفعال مشمولا بإشارة المصنف الواردة في المبتدع الذي لا يكفر ببدعته: دليل واضح على خلاف ما نسبه الباحث إليه.

الثاني: ذكرَ ابن الهمام في موضعين من كتابه أن المبتدع المخالف في مسألة الصفات لا يكفر، وأقره ابن أمير الحاج في الموضعين، ثم قرن بين المخالف في مسألة خلق الأفعال والمخالف في مسألة الصفات وجعلهما من بابة واحدة، فدل هذا على أنه يسوي بينهما في عدم التكفير. [انظر: التحرير مع التقرير والتحبير: 2/ 240. 3/ 316 – 317].

ـ فإن قلتَ: كيف لم يكفر جمهور العلماء المبتدع الذي يقول إنه يخلق أفعال نفسه بمشيئته؟!.

فالجواب هو أنه يقول إنه يخلق أفعال نفسه الاختيارية بقدرة أودعها الله فيه، هذا ما سمعته مرات من أستاذي ووالدي الشيخ أحمد ابن الشيخ محمد سعيد الإدلبي رحمهما الله تعالى رحمة واسعة وأسكنهما فسيح جناته، وفيه إشارة إلى أنه لو كان يعتقد أنه يفعل ذلك بقدرته هو من تلقاء ذاته لكفر قطعاً، ولكنه إذ يعتقد أنه يفعل ذلك بقدرة أودعها الله فيه وبمشيئة أقدره الله عليها والله تعالى هو المعطي بقدرته وإرادته وحكمته: فبذلك ينجو من الكفر، مع ما ينضاف إلى ذلك من الشبهة التي تمسك بها في قوله تعالى {إنما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً}. [الآية 17 من سورة العنكبوت].

ولكن لو عرف هذا المبتدع قدر نفسه فكبح جماح غرورها لقال: إن العبد له الكسب، كما قال تعالى {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}، والله تبارك وتعالى هو الخالق، كما قال جل شأنه {ألا له الخلق والأمر}. وليس في إسناد الخلق للعباد في الآية الكريمة دليل على جواز أن ينسُبوه لأنفسهم، فالله تبارك وتعالى له ذلك، كما أن له أن يقسم بمخلوقاته وليس لهم أن يقسموا بها.

ـ فإن قلتَ: وكيف لم يكفر جمهور العلماء المبتدعَ الذي ينكر صفات الله تعالى الثابتة بالقرآن الكريم من العلم والقدرة والكلام ونحوها؟!.

فالجواب ما ذكره ابن حجر الهيتمي بقوله: “فإن قلت: المعتزلة تنكر الصفات السبعة أو الثمانية ولم يكفروهم؟!. قلت: هم لا ينكرون أصلها، وإنما ينكرون زيادتها على الذات، حذراً من تعدد القدماء، فيقولون إنه تعالى عالم بذاته قادر بذاته وهكذا”. [الإعلام بقواطع الإسلام: 2/ 350].

وإن تعجب فاعجب لقول الباحث “ومن الكفر قولُ المعتزلة الله قادر بذاته لا بقدرة، عالم بذاته لا بعلم، لأنه يلزم منه نفي كونه قادراً”.

أقول: بل لا يلزم من قولهم هذا نفيُ كونه قادراً عالماً، ولذلك لم يكفرهم العلماء بهذا.

ـ  ذكر الباحث قول الإمام الشافعي رحمه الله لحفص الفرد وهو يناظره في مسألة خلق القرآن “لقد كفرتَ بالله العظيم”، واستشهد بهذا القول عدة مرات في موضوع التكفير، وأغفل تأويل الشافعية لهذه الكلمة بما لا يصل إلى الكفر الأكبر.

قال الإمام النووي في المجموع: “وأما من يقول بخلق القرآن فهو مبتدع، واختلف أصحابنا في تكفيره، فأطلق أبوعلي الطبري في الإفصاح والشيخ أبو حامد الأسفراييني ومتابعوه القولَ بأنه كافر، ونقل المتولي تكفير من يقول بخلق القرآن عن الشافعي، وقال القفال وكثيرون من الأصحاب: يجوز الاقتداء بمن يقول بخلق القرآن وغيره من أهل البدع. قال صاحب العدة: هذا هو المذهب”. ثم أضاف النووي قائلاً: [وهذا هو الصواب، فقد قال الشافعي رحمه الله تعالى “أقبلُ شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية، لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم”. ولم يزل السلف والخلف يرون الصلاة وراء المعتزلة ونحوِهم ومناكحتـَهم وموارثتهم وإجراءَ سائر الأحكام عليهم، وقد تأول الإمام الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي وغيره من أصحابنا المحققين ما نُقل عن الشافعي وغيره من العلماء من تكفير القائل بخلق القرآن على أن المراد كفران النعمة، لا كفران الخروج عن الملة، وحَمَلَهم على هذا التأويل ما ذكرته من إجراء أحكام الإسلام عليهم]. وبنحوه يقول الزركشي والحصني وابن أمير الحاج. [المجموع للنووي: 4/ 253 – 254. البحر المحيط للزركشي: 6/ 239. كفاية الأخيار: 2/ 170 – 171. التقرير والتحبير: 3/ 303].

خطأ الباحث في فهم كلام ابن أمير الحاج:

قال الباحث: “قال ابن أمير الحاج: ونُقل عن الشافعي لا أرد شهادة أحد من أهل الأهواء إلا الخطابية فإنهم يعتقدون حل الكذب، والظاهر أنه لم يثبت عنده ما يفيد كفرَهم”. ثم قال الباحث: “يعني أنه لم يطلع على ما يقضي بكفر المعتزلة من أقوالهم، فأما حمْل كلامه على جميعهم فلا يليق بعلم الشافعي وجلالته”.

أقول: كأن الباحث فهم من كلام ابن أمير الحاج أنه يعترض على الشافعي في قبول شهادة أهل الأهواء ـ في الجملة ـ ومنهم المعتزلة، وأنه يعتذر عنه بأنه لم يثبت عنده ما يفيد كفر المعتزلة، وأن الشافعي لو اطلع على ما يقضي بكفرهم لرد شهادتهم!.

ولكن الواقع هو غير هذا، فابن أمير الحاج لا يقول بكفر المعتزلة، كما سبق بيانه، إذن فلا يستقيم فهم عبارته على النحو الذي فهمه الباحث، ولو أنه تأنى وربط كلامه بعضه ببعض لتبين له مراده.

تعليق ابن أمير الحاج بقوله “والظاهر أنه لم يثبت عنده ما يفيد كفرهم” لا ارتباط له بقبول الشافعي شهادة أهل الأهواء، بل بتعليله استثناء الخطابية من المبتدعة الذين يقبل شهادتهم، فقد علل الشافعي رحمه الله استثناءهم بكونهم يعتقدون حِلَّ الكذب في الشهادة لموافقيهم، وإذا كانوا يستحلون ذلك ولو لشبهة فلا جرم كانت شهادتهم مردودة، وهذا لا مرية فيه. وهنا يأتي تعليق ابن أمير الحاج بأن الشافعي لم يثبت عنده ما يفيد كفر الخطابية، أما هو فقد ثبت عنده كفرهم، فهم مردودو الشهادة لكفرهم حتى ولو لم يعتقدوا حل الكذب في الشهادة لموافقيهم، وقد ذكر في كتابه كفرهم في أكثر من موضع، من ذلك أنه قال في مبحث شرائط الراوي مبيناً ومعللاً استثناءهم من المبتدعة الذين تـُقبل شهادتهم، إذ يقول: “إلا الخطابية من الرافضة المنسوبين إلى أبي الخطاب، كان يزعم أن علياً الإلهُ الأكبر وجعفراً الصادق الإله الأصغر”. [التقرير والتحبير: 2/ 241]. ثم قال في مبحث أنواع الجهل: “وكذا المتلبس بشيء من موجِبات الكفر ينبغي أن يكون كافراً بلا خلاف، وحينئذ ينبغي تكفير الخطابية، لما قدمناه عنهم في فصل شرائط الراوي”. [التقرير والتحبير: 3/ 318].

فظهر بهذا أنْ لا ارتباط بين تعليق ابن أمير الحاج على كلام الشافعي وبين قبول شهادة أهل الأهواء، وأنه لا مجال لإقحام المعتزلة في النص الذي أورده الباحث.

 

 

الورع في باب التكفير:

قال الباحث: “وما أشاعه بعض الناس عن مالك وعن أبي حنيفة من أنه إذا كان في المسألة تسعة وتسعون وجهاً بالتكفير ووجه واحد بترك التكفير فينبغي للمفتي ترك التكفير: ليس له مستند، والمذكور في بعض كتب الحنفية أن ذلك في اختلاف الروايات أي عن الإمام أو عن صاحبيه”.

أقول:

ـ أما عند الحنفية فقد نقل ابن نجيم عن الفتاوى الصغرى: “الكفر شيء عظيم، فلا أجعل المؤمن كافراً متى وجدت رواية أنه لا يكفر”. كما نقل رحمه الله عن الخلاصة وغيرها: “إذا كان في المسألة وجوه توجب التكفير ووجه واحد يمنع التكفير فعلى المفتي أن يميل إلى الوجه الذي يمنع التكفير، تحسيناً للظن بالمسلم”. ثم قال ابن نجيم: “والذي تحرر: أنه لا يُفتى بتكفير مسلم أمكنَ حملُ كلامه على مَحْمِل حسن أو كان في كفره اختلاف ولو رواية ضعيفة”. [البحر الرائق: 5/ 134 – 135]. وقد أخذ التمرتاشي قول ابن نجيم هذا واعتمده. [تنوير الأبصار المطبوع مع الدر المختار ورد المحتار: 3/ 297 – 298 طبعة بولاق الثالثة]. ونقل الحصكفي عن الدرر وغيرها مثل ما نقل ابن نجيم عن الخلاصة وغيرها، وأقره. [الدر المختار: 3/ 298]. ونقل ابن عابدين عن ابن نجيم ما نقله عن الخلاصة وغيرها، وأقره. ونقل عنه قوله السالف الذي تحرر لديه، وأقره. [رد المحتار: 3/ 293]. كما نقل ابن عابدين في التعليق على عدم تكفير المسلم ولو لرواية ضعيفة عن خير الدين الرملي أنه قال: “ولو كانت الرواية لغير أهل مذهبنا، ويدل على ذلك اشتراط كون ما يوجب الكفر مجمعاً عليه”. وأقره. [رد المحتار: 3/ 298]. وقال شيخي زاده: “إذا كان في المسألة وجوه توجب التكفير ووجه واحد يمنعه يميل العالم إلى ما يمنع من الكفر، ولا تـُرجح الوجوه على الوجه”. [مجمع الأنهر: 1/ 696].

ـ وأما المالكية فقد نقل القاضي عياض عن جماعة من المحققين أنهم قالوا: الذي يجب: الاحترازُ من التكفير في أهل التأويل، فإن استباحة دماء المصلين الموحدين خطر، والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم واحد. [الشفا: 2/ 277]. وقال الشيخ محمد عليش: “كيف وقد قالوا إن كان للتكفير تسعة وتسعون وجهاً ولعدمه وجه واحد فإنه يُقدم ولا يُفتى بالكفر”. [فتح العلي المالك: 2/ 358].

ـ وأما الشافعية فقد نقل الشعراني عن الإمام تقي الدين السبكي رحمه الله أنه قال: “اعلم يا أخي ـ وفقني الله وإياك ـ أن الإقدام على تكفير المؤمنين عسر جداً، وكل من في قلبه إيمان يستعظم القول بتكفير أهل الأهواء والبدع مع قولهم لا إله إلا الله محمد رسول الله، والخطأ في قتل مسلم أرجح في الإثم من ترك قتل ألف كافر”. [اليواقيت والجواهر: 2/ 125]. وبنحوه قال الإمام الغزالي رحمه الله. [انظر: الاقتصاد في الاعتقاد: ص 157].

ـ هذه بعض أقوال أهل الورع من الفقهاء، لا يكفرون قائلاً بمقالته إلا إذا كانت تناقض أصلاً من أصول الإيمان مناقضة بيِّنة، ومستندهم في عدم التسرع في التكفير قول النبي صلى الله عليه وسلم “لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك”. [صحيح البخاري: 10/ 464. جامع الأصول: 10/ 760 – 762].

ـ ويُتعجب ممن يظن أن ما سردته من أقوال العلماء مجرد “شائعات”، وأن فقهاء الحنفية إنما يرجحون عدم التكفير فيما إذا اختلفت الروايات عن الإمام وصاحبيه فقط!. وقد قدمت عن ابن نجيم والتمرتاشي وابن عابدين أن الرواية الواحدة بعدم التكفير ولو كانت ضعيفة أولى من الروايات المتعددة بالتكفير، بل إن خير الدين الرملي يقدم مثل تلك الرواية الواحدة ولو كانت في غير المذهب الحنفي الذي التزمه. فتأمل.

 

كيفية إسلام المرتد:

قال الباحث: “الحكم الشرعي لمن وقع في ردة أنه يجب عليه الرجوع إلى الإسلام بالنطق بالشهادتين مع ترك ما هو سبب الردة، بل إن تشهَّد بنية الخلاص من الكفر صح منه”.

وقال: “حكم من يأتي بأحد أنواع هذه الكفريات هو أن تحبط أعماله الصالحة، وإذا قال أستغفر الله قبل أن يجدد إيمانه بقوله أشهد أنْ لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمداً رسول الله وهو على حالته هذه أي قبل أن ينطق بالشهادتين بنية الدخول في الإسلام: فلا يزيده قوله أستغفر الله إلا إثماً وكفراً، لأنه يكذب قول الله تعالى {لم يكن الله ليغفر لهم}”.

وقال الباحث: “قال ابن نجيم نقلاً عن جامع الفصولين وغيره: إن المرتد لا ينفعه الإتيان بالشهادتين على وجه العادة ما لم يرجع عما قال”.

أقول: قال أبو إسحاق الشيرازي: “إن كان المرتد ممن لا تأويل له في كفره فأتى بالشهادتين حُكم بإسلامه، وإن كان ممن يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث إلى العرب وحدها أو ممن يقول إن محمداً نبي يُبعث وهو غير الذي بُعث لم يصحَّ إسلامه حتى يتبرأ مع الشهادتين من كل دين خالف الإسلام، لأنه إذا اقتصر على الشهادتين احتمل أن يكون أراد ما يعتقده، وإن ارتد بجحود فرض أو استباحة محرم لم يصحَّ إسلامه حتى يرجع عما اعتقده ويعيد الشهادتين”. [المهذب: 19/ 231].

وقال ابن قدامة: “إن ارتد بجحود فرض لم يسلم حتى يقر بما جحده ويعيد الشهادتين، لأنه كذَّب الله ورسوله بما اعتقده، وكذلك إن جحد نبياً أو آية من كتاب الله تعالى”. [المغني: 12/ 288]. وانظر [المقنع لابن قدامة مع شرحه الإنصاف للمرداوي: 10/ 335 – 336].

وقال المرغيناني في مبحث المرتد: “وكيفية توبته أن يتبرأ عن الأديان كلها سوى الإسلام، لأنه لا دين له، ولو تبرأ عما انتقل إليه كفاه، لحصول المقصود”. قال ابن الهمام في شرحه معلقاً عليه: قيل لكن هذا بعد أن يأتي بالشهادتين. [الهداية مع فتح القدير: 6/ 70]. وقال العيني في شرحه: بعد أن يأتي بالشهادتين. [البناية شرح الهداية: 6/ 700].

وقال الشيخ إبراهيم بن محمد الحلبي المتوفى سنة 956 في مبحث المرتد: “وتوبته بالتبري عن كل دين سوى الإسلام أو عما انتقل إليه”. [ملتقى الأبحر: 1/ 375].

وسئل الشيخ محمد عليش: ما قولكم فيمن ارتد بقول أو فعل ولم يوجد إمام يستتيبه ونطق بالشهادتين وصلى وصام بعد ذلك فهل يُحكم عليه بالكفر أو بالإسلام؟. فأجاب: يُحكم عليه بالإسلام، ويكفي في توبته نطقه بالشهادتين لتضمنه أركانها، خصوصاً مع الصلاة التي لا تخلو عن الاستغفار غالباً. [فتح العلي المالك: 2/ 357 – 358].

ـ لم يذكر العلماء في إتيان المرتد بالشهادتين للرجوع عن الردة أي شرط، لأنه ظاهر بيِّن، فمن نطق بهما بلسانه يُعد مسلماً قضاءً، ولا يُعد مسلماً ديانة إلا إذا قالهما صادقاً من قلبه، والأحكام الظاهرة تـُناط بالظاهر، وأما حقيقة اعتقاده في قلبه فبينه وبين ربه، ومن أتى بالشهادتين مؤمناً بهما صادقاً من قلبه فمعنى ذلك أن نيته الخلاص من الكفر والعودة إلى الإسلام، فلا معنى إذن لاشتراط شرط زائد في الإتيان بالشهادتين، كقول من قال “بنية الخلاص من الكفر” أو “بنية الدخول في الإسلام”. هذا في المرتد الذي جحد الإسلام أو انتقل إلى دين غيره أو كفر بالله تعالى أو بمحمد صلى الله عليه وسلم، فرجوعه إلى الإسلام يكون بالشهادتين.

وأما المرتد بجحْد فريضة أو استحلال محرم ونحو ذلك ـ كالذي ينكر وجوب الصيام في هذا العصر ووجوبَ حجاب المرأة مثلاً أو ينكر نبوة سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام ـ: فهذا لا يكفي إتيانه بالشهادتين لصحة رجوعه إلى الإسلام، بل لا بد مع ذلك من الرجوع عن سبب الردة، وذلك بإقراره واعتقاده الشيءَ الذي جحده وبتبرئه مما انتقل إليه، وإذا أتى بالشهادتين على وجه العادة بدون اعتقاد ما جحده وتبرئه مما انتقل إليه فلا يصح رجوعه إلى الإسلام، لأنه ربما يتشهد وهو مصرٌ على عقيدة كفرية، فليس ذلك بنافع له. لكن ما حكمه إذا تاب وأناب من المكفر الذي كان سببَ ردته قبل أن يأتي بالشهادتين أو بعدهما؟ الظاهر صحة رجوعه إلى الإسلام بذلك، وقد صرح الحنفية بهذا.

والاستغفار معناه طلب المغفرة من الله، فهو يتضمن الاعتراف بالذنب والرجوع عنه، فكيف يُقال لمن تلفظ بكلام فيه جحد فريضة أو استحلال محرم ثم استغفر ربه منه: إن استغفاره لا يزيده إلا إثماً وكفراً؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍!، ثم إذا قام وتوضأ وصلى مع الرجوع عن الكلمة التي بدرت منه أفيُعد مع كل هذا كافراً مرتداً؟!، هذا ما لا أعلم أن أحداً من علماء المسلمين قد قاله. كيف وصلاته تشتمل على التشهد والتعظيم لله تبارك وتعالى والخضوع له وعلى التسبيح والتحميد والاستغفار؟!.

إن الذي لا ينفعه استغفاره بل ولا صلاته وسائر عباداته ـ إن صلى وتعبد ـ هو الذي اعتقد ما يعارض أصلاً من أصول الإيمان معارضة بيِّنة ولم يرجع عما اعتقده، فالذي شهد لله تعالى بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة لكن إلى العرب خاصة وأكثرَ من الصلاة والصيام والحج والاستغفار وتلاوة القرآن: فإن هذا كله ليس بنافعه شيئاً حتى يؤمن بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى العالمين. وكذا من اعتقد أن أحكام الإسلام التي شرعها الله سبحانه وتعالى فيها ظلم للعرب أو العجم أو الرجال أو النساء أو التجار أو الفقراء أو نحو ذلك، فإن مثل هذا لا تنفعه صلاته وعبادته واستغفاره وتشهده حتى يرجع عن تلك العقيدة الآثمة.

أما المؤمن بكل ما يجب الإيمان به إثباتاً ونفياً إذا بدرت منه لفظة تتضمن شيئاً من الكفر دون أن يقصده فإن تأسفه وندمه واستغفاره مما بدر منه كاف للحكم برجوعه إلى الإسلام عند الحنفية، وأما إذا انضم إلى ذلك إتيانه بالشهادتين قبله أو بعده فينبغي أن تكون صحة إسلامه حينئذ محل اتفاق.

ـ ومن الغريب استدلال الباحث بقوله تعالى {لم يكن الله ليغفر لهم} على أن استغفار مثل ذلك الرجل إنما يزيده إثما وكفراً، حيث إن ذلك الرجل يطلب المغفرة في الحال التي أخبر الله تعالى فيها بعدم المغفرة، فهذا ـ في نظره ـ تكذيب لله تعالى في إخباره!.

أقول: لقد قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً} [الآية 137 من سورة النساء]، وقال تبارك وتعالى {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالاً بعيداً، إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً} [الآيتان 167 ـ 168 من سورة النساء]. فهل يندرج ـ يا ذوي الحجى ـ ضمن “الذين كفروا وظلموا” من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبكل ما يجب الإيمان به ثم بدرت منه لفظة تتضمن شيئاً من الكفر دون أن يقصده فاستغفر ربه منها؟!.

 

ضابط المكفرات:

قال ابن دقيق العيد: “والحق أنه لا يُكفر أحد من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة عن صاحبها، فإنه حينئذ يكون مكذباً للشرع، وليس مخالفةُ القواطع مأخذاً للتكفير، وإنما مأخذه مخالفة القواعد السمعية القطعية طريقاً ودلالة”. [إحكام الأحكام: 2/ 210].

وقال عضد الدين الإيجي عبد الرحمن بن أحمد المتوفى سنة 756: “ولا يكفر أحد من أهل القبلة إلا بما فيه نفيُ الصانع القادر المختار العليم، أو بما فيه شرك، أو إنكارُ النبوة، أو إنكار ما عُلم مجيء محمد صلى الله عليه وسلم به ضرورة، أو إنكار أمر مجمع عليه قطعاً، أو استحلالُ المحرمات، وأما غير ذلك فالقائل به مبتدع وليس بكافر”. [العقائد العضدية: 2/ 291 – 293 المطبوع مع شرح الدواني وحاشية الكلنبوي وغيره].

وقال النسفي: “الاستهزاء بالشريعة كفر”. وقال التفتازاني في شرحه: “وكذا لو أطلق كلمة الكفر استخفافا لا اعتقادا”. [العقائد النسفية وشرحها: 1/ 204، 205. وفي الطبعة العثمانية: ص 190 – 191]. أي إن من قال قولا يتضمن الاستهزاء والاستخفاف فهو كافر، ولا شك في هذا إذا كان القائل يعني ما يقول.

هذه بعض كلمات العلماء في التكفير، وغيرها كثير، وكلها ترجع إلى ما يناقض “شهادة أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمدا رسول الله” مناقضة بينة، فمن أنكر أحد هذين الأصلين أو أتى بما يناقض واحدا منهما عامدا متعمدا فقد كفر. والإيمان بهذين الأصلين يستلزم الإيمان بالقرآن الكريم، وهو الوحي الذي نزله الله تبارك وتعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وفي القرآن أصول العقائد السمعية، فمن بلغه القرآن وأنكر بعض ما فيه دلالةٌ عليه ولا شبهة له فقد كفر.

ورحم الله ابن دقيق العيد إذ يقول “وليس مخالفة القواطع مأخذا للتكفير، وإنما مأخذه مخالفة القواعد السمعية القطعية طريقا ودلالة”. فتأمله ينفعك بإذن الله.

ورحم الله عضد الدين الإيجي إذ يقول في جملة المكفرات “أو إنكار أمر مجمع عليه قطعا”. فقد يقع من بعض العلماء دعوى الإجماع على شيء ولا يكون ذلك الشيء مجمعا عليه، فتنبه.

 

لا عبرة بكل خلاف:

لقد أحسن الباحث إذ قال في بعض المواضع من بحوثه: “ثم من المعلوم عند الفقهاء أنه لا عبرة بكل خلاف إلا خلافا له حظ من النظر”.

أقول: هذا صحيح، وهو يقتضي عدم التمسك بالأقوال الواهية لمجرد أنها قول فلان أو فلان، فلا بد من الرجوع إلى كتاب الله تعالى وسنة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، والاحتكامِ إليهما، والرضا بهما، والتسليمِ لهما. قال الله عز وجل: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}.

 

إشكال وجواب:

قد يقول قائل: لقد قال الله تعالى {إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان}، فلم يستثن من النطق بكلمة الكفر سوى المكرَه، وقال تعالى {ولئن سألتهم ليقولـُنَّ إنما كنا نخوض ونلعب، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟! لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}، فحكم عليهم بالكفر رغم أنهم قد قالوا كلاما على وجه اللعب لا عن اعتقاد أو شك، أفليس في هذا دليل على أن القول الكفري مكفر بذاته وإن لم يكن معه اعتقاد الكفر؟!.

فالجواب أن الاستثناء في قوله {إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان} هو إشارة إلى ما وقع من عمار بن ياسر رضي الله عنهما من النطق بكلمة الكفر في حالة الإكراه، وليس المراد الحصرَ، بدليل ما ورد في السنة النبوية الشريفة من عدم التكفير في غير حالة الإكراه:

ومن ذلك حالة سبق اللسان، وهو ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “للهُ أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح”.

ومن ذلك أن يقول المسلم قولا أو يفعل فعلا من المكفرات وهو لا يقصد المعنى الكفري، فقد روى الشيخان عن علي رضي الله عنه أنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبيرَ والمقدادَ فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها، فانطلقنا تعادى بنا خيلنا ، حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة ، فقلنا لها أخرجي الكتاب ، قالت ما معي كتاب ، فقلنا لتخرجِنَّ الكتاب أو لنلقين الثياب ، فأخرجته من عقاصها ، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين ، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب ما هذا؟!. قال: يا رسول الله لا تعجَلْ علي، إني كنت امرأ ملصقا في قريش، وكان مَن معك من المهاجرين مَن لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صَدَقـَكم. فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: إنه قد شهد بدرا ، وما يدريك؟ لعل الله اطلع على من شهد بدرا فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.

قوله “إني كنت امرأ ملصقا في قريش” أي كنت حليفا لهم ولم أكن من أنفسهم. وتأمل قوله “ولا رضا بالكفر بعد الإسلام”.

وأما مسألة الذي قال كلاما كفريا على وجه اللعب والاستهزاء لا عن اعتقادٍ أو شكٍّ فإن هذا القائل قد كفر، لأنه قال كلاما كفريا على وجه الاستهزاء، وصدور مثل هذا عنه دليل على استخفافه بدينه، والاستخفاف بالدين كفر.

وههنا مسألة مهمة لا بد من التنبيه عليها، وهي أن الإيمان بالله تعالى ليس مجرد معرفة نظرية بأن الله تعالى هو الرب الخالق العليم السميع البصير فحسب، ولو كانت المعرفة المجردة إيماناً لكان إبليس مؤمناً ولكان كثير من اللادينيين مؤمنين!، وهيهات، ولكن الإيمان هو المعرفة مع الإذعان القلبي لله رب العالمين، ومن أذعن واستسلم لله تعالى بقلبه فلا بد أن يكون معظماً لله، والذي ليس في قلبه تعظيم لله تعالى وملائكته وكتبه ورسله فليس بمؤمن، والاستهزاء بما يجب تعظيمه من أركان الإيمان مناقض للإيمان، فمن ينطقُ بكلمة أو يأتي بفعل مع الاستهزاء بما يجب تعظيمه من أركان الإيمان فليس بمؤمن وهو كافر ظاهراً وباطناً.

 

خاتمة البحث:

ـ يجب الحذر الشديد من التسرع في تكفير المسلمين، لأن من كفر مسلما فقد باء بهذه الكلمة أحدهما، إن كان المقول له كافرا فقد لاقت محلها، وإلا رجعت على القائل إذا لم يكن القائل متأولاً.

أي إذا قال مسلم عن رجلٍ آخرَ مسلمٍ إنه كافر: فإن كان الرجل الآخر كافرا حقيقة فقد لاقت الكلمة محلها وبرئ القائل، وإن كان الرجل الآخر ليس بكافر في الحقيقة فقد صار القائل كافرا، لأنه سمى الإسلام كفرا، إلا إذا كان قائل كلمة التكفير قد قالها اجتهادا له فيه شبهة وأخطأ في اجتهاده، فإنه لا يكفر بذلك، وهذا كما كفـَّر الخوارج سيدنا عليا رضي الله عنه بالاجتهاد الخطأ، فإنه لم يكفرهم بذلك، حيث إنهم كانوا متأولين.

ولكن لا بد من الحذر الشديد، فإنه إذا لم يكن كفرا فهو كبيرة من الكبائر.

ـ من قال قولا أو فعل فعلا يدل على كفر القائل أو الفاعل فإنه يُحكم عليه بالكفر، فيُستتاب، فإن تاب فبها ونعمت، وإلا فإنه يُعامل معاملة المرتد، وهذا في الحكم قضاءً، وهذا ميدان عمل القاضي.

ـ أما فيما بين المكلف وبين الله تعالى فإنه إن قصد بذلك القولِ أو الفعلِ المعنى الكفريَّ الذي يدل عليه فقد كفر وخرج من الإسلام وإن لم يقصد به الخروجَ من الإسلام، إذ لا يُشترط لخروجِ المرء من الإسلام أن يقصد الخروجَ منه، بل المُشترَط هو أن يقصد المعنى الكفريَّ، فإذا لم يقصد المعنى الكفري فجمهور العلماء لا يرون تكفيره، فإنما الأعمال بالنيات، وهذا في الحكم ديانة، وهذا ميدان عمل المفتي.

ـ جمهور العلماء حكموا على المجسمة الذين لم يجسموا تجسيما صريحا وعلى الخوارج والمعتزلة بالبدعة، لا بالكفر.

ـ هذا وأرجو من كل أخ ناصح أن يخصني بصالح الدعاء وأن لا يبخل علي بملحوظاته.

وهذا آخر ما تم تحريره بيد كاتبه الفقير إلى الله تعالى: صلاح الدين بن أحمد بن محمد سعيد الإدلبي، ضحوة يوم عرفة 9/ 12/ 1416، الموافق 27/ 4/ 1996، سوى بعض الإضافات والتنقيحات اليسيرة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

 

تذييل فيه بعض النصوص التي لم أكن قد وقفت عليها من قبل:

* ـ قال الشوكاني في السيل الجرار: “الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقْدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يردْ به فاعله الخروجَ عن الإسلام إلى ملة الكفر، ولا اعتبار بلفظ تلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه”.

أقول:

تبين مما تقدم من أبحاث هذا الكتاب أن قول الشوكاني رحمه الله “ولا اعتبار بلفظ تلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه” قول صحيح، وأن قوله “ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يردْ به فاعله الخروجَ عن الإسلام إلى ملة الكفر” قول غير صحيح، إذ لا يُشترط لخروجِ المرء من الإسلام أن يقصد الخروجَ منه، بل المُشترَط هو أن يقصد المعنى الكفريَّ حتى وإن لم يقصد الخروج عن الإسلام.

* ـ قال النووي في المنهاج: “الفعل المكفر ما تعمَّده استهزاء صريحا بالدين أو جحودا له كإلقاء مصحف بقاذورة وسجود لصنم أو شمس”.

قال الرملي في نهاية المحتاج معلقا على مسألة السجود لصنم أو شمس: “لأنه أثبت لله شريكا، نعم، إن دلت قرينة قوية على عدم دلالة الفعل على الاستخفاف كسجود أسير في دار الحرب بحضرة كافر خشية منه فلا كفر، وإن قصد تعظيم مخلوق بالركوع كما يُعظم الله به فلا فرق بينهما في الكفر حينئذ”.

* ـ قال القرافي في الفروق:

“اتفق الناس على أن السجود للصنم على وجه التذلل والتعظيم له كفر، ولو وقع مثل ذلك في حق الولد مع والده تعظيما له وتذللا أو في حق الأولياء والعلماء لم يكن كفرا، والفرق عسير، فإن قلتَ السجود للوالد والعالم يقصد به التقرب إلى الله تعالى فلذلك لم يكن كفرا قلتُ وكذلك السجود للصنم!، فقد كانوا يقولون {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}، فقد صرحوا بقصد التقرب إلى الله تعالى بذلك السجود، فإن قلتَ الله تعالى أمر بتعظيم الآباء والعلماء ولم يأمر بتعظيم الأصنام بل نهى عنه فلذلك كان كفرا قلتُ إن كان السجودان في المسألتين متساويين في المفسدة استحال في عادة الله أن يأمر بما هو كفر في بعض المواطن، لقوله تعالى {ولا يرضى لعباده الكفر}، أي لا يشرعه دينا، ومعناه أن الفعل المشتمل على فساد الكفر لا يُؤذن فيه ولا يُشرع، فلا يقال إن الله تعالى شرع ذلك في حق الآباء والعلماء دون الأصنام، وحقيقة الكفر في نفسه معلومة قبل الشريعة، وليست مستفادة من الشرع، ولا تبطل حقيقتها بالشريعة ولا تصير غير كفر، فحينئذ الفرق مشكل، وقد كان الشيخ عز الدين بن عبد السلام يستشكل هذا المقام ويعظم الإشكال فيه”.

قال ابن الشاط معقبا على كلام القرافي:

“أغفل الوصفَ المفرق فعَسُر عليه الفرق، والوصف المفرق أن سجود من سجد للأصنام لم يسجد لها لمجرد التذلل والتعظيم، بل لذلك مع اعتقاد أنها آلهة وأنها شركاء لله تعالى، ولو وقع مثل ذلك مع الوالد أو العالم أو الولي لكان ذلك كفرا لا شك فيه، وأما إذا وقع ذلك أو ما في معناه مع الوالد لمجرد التذلل والتعظيم لا لاعتقاد أنه إله وشريك لله عز وجل فلا يكون كفرا وإن كان ممنوعا سدا للذريعة”.

* ـ قال الشيخ إبراهيم بن محمد الحلبي المتوفى سنة 956 من مشايخ الحنفية في تتمة لسان الحكام ص 415: “مَن اعتقد الحرام حلالا يكفر، أما لو قال لحرام هذا حلال لترويج السلعة أو بحكم الجهل لا يكون كفرا”. وقال في الصفحة ذاتها: “رجل كفر باللسان طائعا وقلبه مطمئن بالإيمان يكون كافرا عندنا ويكون عند الله مؤمنا”.

* ـ قال الشيخ محمد أمين الكردي المتوفى سنة 1332 من مشايخ الشافعية: “تنقسم الردة إلى ثلاثة أقسام، الاعتقادات والأفعال والأقوال، وحاصل تلك العبارات يرجع إلى أن كل عقيدة أو فعل أو قول يدل على استهانة أو استخفاف بها مع القصد فهو ردة، وإلا فلا”. [تنوير القلوب ص 355].

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.


[[1] ] رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم من طريقين عن محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن إبراهيم عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها في النار سبعين خريفاً”. [مسند الإمام أحمد: 2 / 236، 297. سنن الترمذي: 4/ 557. المستدرك للحاكم: 4 / 597].

[[2] ] رواه البخاري ومسلم من طرق عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ “إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يَزِلُّ بها في النار أبعدَ مما بين المشرق والمغرب”. [صحيح البخاري: 11 / 308. صحيح مسلم: 18 / 117]. فتبين من هذا أن محمد بن إسحاق ويزيد ابن الهاد اتفقا على رواية الحديث عن شيخ واحد بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واختلفا في لفظ الحديث اختلافاً يؤثر في المعنى، فلا بد من الترجيح، ورواية محمد بن إسحاق الواردة عند الترمذي وغيره مرجوحة، ورواية يزيد ابن الهاد الواردة في الصحيحين هي الراجحة، لأن ابن إسحاق صدوق، وابن الهاد ثقة، والثقة أعلى، وشتان ما بينهما في المرتبة.  ولقائل أن يقول: قد رُوي هذا الحديث من وجه آخر عن أبي هريرة بنحو رواية الترمذي، أفلا يتقوى أحد الطريقين بالآخر؟!. فأقول: روى اثنان عن جرير بن حازم عن الحسن البصري عن أبي هريرة هذا الحديث بنحو رواية الترمذي، وهذا سند لين، فيه جرير بن حازم وهو صدوق فيه لين، وفيه انقطاع بين الحسن وأبي هريرة. [مسند الإمام أحمد: 2 / 355، 533. الزهد للإمام أحمد: ص 21، 471]. وهذا الطريق والطريق الذي تقدم من رواية الترمذي معلولان، فلا يتقوى أحدهما بالآخر، لأن الطريق المعلول لا يقوي غيره ولا يتقوى بغيره. ومما يعِلـُّهما كليهما ورودُ هذا الحديث من طرق أخرى تخالفهما وتوافق لفظ الطريق الراجح المتقدم، منها طريق أبي صالح عن أبي هريرة في صحيح البخاري وغيره. [صحيح البخاري: 11/ 308. مسند الإمام أحمد: 2 / 334. شعب الإيمان للبيهقي: 4 / 246. شرح السنة للبغوي: 14/ 313]. ومنها طريق عطاء بن يسار عن أبي هريرة، لكن بسند ضعيف. [مسند أحمد: 2/ 402]. إلا أنه يُستشهد به هنا للمتابعة.

 

[[3] ] الشواهد هي عن بلال بن الحارث المزني وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود: فأما حديث بلال بن الحارث فرواه الإمام مالك في الموطأ وغيره. [الموطأ: 2 / 985. مسند الإمام أحمد: 3 / 469. الزهد للإمام أحمد: ص 21. صحيح ابن حبان: ص 379. المعجم الكبير للطبراني: 1/ 367 – 369. المستدرك للحاكم: 1 / 45 – 46. شعب الإيمان للبيهقي: 4 / 247]. وأما حديث أبي سعيد فرواه الإمام أحمد وغيره. [مسند أحمد: 3/ 38. المعجم الأوسط للطبراني من مجمع البحرين: 5 / 297] بسند ضعيف. وأما حديث ابن مسعود فرُوي عنه مرفوعاً بسند واهٍ، ورُوي عنه موقوفاً عليه. [مسند البزار: 4 / 221. المعجم الكبير للطبراني: 9 / 237].

 

[[4] ] أشار الباحث إلى قول سيدنا علي t في عدم تكفير الخوارج وحكم بأنه لم يثبت إسناداً عنه، ولم يتجشم عناء تخريجه ودراسة سنده فلا بد من الكشف عن حاله: وقد وقفت له على ثلاثة طرق: الطريق الأول: رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن يحيى بن آدم عن مفضل بن مهلهل عن الشيباني عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب أنه قال: كنت عند علي فسئل عن أهل النهر: أهم مشركون؟. قال: من الشرك فروا. قيل: فمنافقون هم؟. قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً. قيل له: فما هم؟. قال: “قوم بغوا علينا”. [مصنف ابن أبي شيبة: 15/ 332]. وهذا إسناد صحيح متصل ورجاله كلهم كوفيون ثقات، والشيباني هو أبو إسحاق سليمان بن أبي سليمان. الطريق الثاني: ذكر عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عمن سمع الحسن أنه قال: لما قتل علي t الحرورية قالوا: من هؤلاء يا أمير المؤمنين؟ أكفار هم؟. قال: من الكفر فروا. قيل: فمنافقون؟. قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً. قيل: فما هم؟. قال: “قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا”. [مصنف عبد الرزاق: 10/ 150]. وهذا إسناد ضعيف، لانقطاعه بين معمر بن راشد والحسن البصري، وكذا بين الحسن وعلي t، لكن لا بأس به في الشواهد. الطريق الثالث: روى البيهقي في سننه من طريق حميد بن زنجويه عن يعلى بن عبيد عن مسعر عن عامر بن شقيق عن شقيق بن سلمة عن علي t به نحو الرواية السابقة، وفيه أنه قال “قوم بغوا علينا فنُصرنا عليهم”. [سنن البيهقي: 8/ 174]. وطرف الإسناد المذكور هنا متصل، ورجاله ثقات، ما عدا عامر بن شقيق فمختلف فيه، فلا بأس به في الشواهد. وله طريق رابع باللفظ الذي ذكره الباحث “إخواننا بغَوا علينا”. [البداية والنهاية لابن كثير: 7/ 317]. ولكنه لا يصلح أن يُحشر مع الطرق السابقة، لأنه من رواية الهيثم بن عدي، وهو كذاب، وفي الطرق الثلاثة المتقدمة وخاصة الأول غنية عنه، وكلها متفقة على التعبير عنهم بلفظ “قوم”، لا بلفظ “إخواننا”، أما قوله “إخواننا بغوا علينا” فقد قاله في أصحاب موقعة الجمل. فقول الباحث عن القول المنسوب لعلي رضي الله عنه في الخوارج بأنه لم يثبت إسناداً عنه غير صحيح.

قد يُقال إن الباحث ذكر الرواية بلفظ “إخواننا بغوا علينا” الواردة في الخوارج وذكر أن إسنادها غير ثابت، وهذا هو الواقع، فما وجه الخطأ؟!. والجواب هو أنه عدل إلى هذا اللفظ الذي لم يثبت فيهم وأغفل الرواية الصحيحة المروية عن علي t بثلاثة أسانيد، ثم إن المقام هنا مقام البحث في إنكاره على من حكم عليهم بالكفر أو النفاق، لا مقام البحث في اللفظة الواردة في آخر الرواية هل هي “قوم بغوا علينا” أو”إخواننا بغوا علينا”؟.

[[5] ] هذه الرواية رواها ابن ماجة في سننه عن سهل بن أبي سهل عن سفيان بن عيينة عن أبي غالب عن أبي أمامة أنه قال عن الخوارج الذين جيء برؤوسهم فنصبت عند درج مسجد دمشق: شر قتلى قـُتلوا تحت أديم السماء، وخير قتيل من قتلوا، كلاب أهل النار، قد كان هؤلاء مسلمين فصاروا كفاراً. [سنن ابن ماجه: 1/ 62]. وهذا سند ضعيف له علتان: الأولى: فيه أبو غالب الراوي عن أبي أمامة، وهو وإن وثقه موسى بن هارون الحمال والدارقطني مرة فقد ضعَّفه ابن سعد وأبو حاتم والنسائي، بل قال فيه ابن حبان: منكر الحديث. فمثله لا يحتج به. الثانية: قوله في هذه الرواية “فصاروا كفاراً” انفرد به ـ فيما أعلم ـ سهل بن أبي سهل وهو صدوق عن سفيان بن عيينة عن أبي غالب، ورواه جماعة عن أبي غالب بلفظ “إنهم كانوا من أهل الإسلام” ولم يذكروا في روايتهم “فصاروا كفارا”، ورواه جماعة آخرون عن أبي غالب فلم يذكروا هذه ولا تلك، وهؤلاء وأولئك بضعة عشر رجلاً. [مسند أحمد: 5/  . المعجم الكبير للطبراني: 8/ 266 – 275. الشريعة للآجري: ص  ]. فرواية من أضاف التصريح بالكفر معلولة. فإن اعترض واهم بأن زيادة الثقة مقبولة وليست معلولة، فالجواب أن هذا في زيادة الثقة المتقن، لا في مطلق الثقة أو الصدوق.

 

[[6] ] الظاهر أن عليا رضي الله عنه قسم بين المقاتلين الخمس من السلاح وعدة الحرب وجعل الباقي في بيت المال، فقد روى ابن أبي شيبة بسند جيد عن الحكم بن عتيبة أنه قال: خمَّس علي أهل النهر. فإذا حُمل التخميس على السلاح وعدة الحرب كان موافقاً للمذكور في كتب التاريخ، وأما ما رواه ابن أبي شيبة عن الحكم أن علياً قسم بين أصحابه رقيق أهل النهر ومتاعهم كله فسنده ضعيف. [مصنف ابن أبي شيبة: 15/ 330].