بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين، وعلى آله وأصحابه وإخوانه أجمعين.
وبعد، فقد تحدثت بكلمة متلفزة عن أحاديث فضائل الشام وقلت هي ضعيفة من حيث النظر في أسانيدها.
علق عدد من الإخوة باستغراب، وهذا من حقهم، وطالبوا بالدليل على ضعف تلك الأحاديث، لأنه لا يجوز أن نقبل قولا بغير دليل.
قبل أن أذكر شيئا عن الأدلة أحب أن أقول: اقرؤوا كتابي “أحاديث فضائل الشام” فقد ذكرت فيه هذه الأحاديث ودرست أسانيدها دراسة إسنادية فاحصة، على منهج أئمة علم الحديث النقاد الكبار كالإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبي حاتم وأبي زرعة والدارقطني وغيرهم، لا على مذهب المتساهلين.
من يدرس أسانيد تلك الروايات على مذهب المتساهلين فستكون النتيجة هي تصحيح كثير من تلك المرويات، ولكني لا أرى صحة هذا المنهج التساهلي.
وهذه بعض الأحاديث الواردة في فضائل الشام:
* حديث “طوبى للشام إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها”:
ـ هذا الحديث رواه أحمد وابن أبي شيبة والترمذي ويعقوب بن سفيان البسوي وابن حبان والطبراني في المعجم الكبير والحاكم وغيرهم من ثلاثة طرق عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن شِماسة عن زيد بن ثابت أنه قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع إذ قال: “طوبى للشام”. قيل: ولم ذلك يا رسول الله؟. قال: “إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها”.
[انظر كتاب: أحاديث فضائل الشام ـ دراسة نقدية ـ بقلم صلاح الدين الإدلبي الحديث: 3].
* حديث “عليك بالشام”، أو “عليكم بالشام”:
رُوي هذا الحديث من حديث عبد الله بن حوالة ورجلٍ عند معاوية بن أبي سفيان وواثلة بن الأسقع وأبي الدرداء والعرباض بن سارية، وله شواهد من حديث عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر ومعاوية بن حيدة وأبي أمامة وعبد الله بن يزيد ومن مرسل أبي قلابة ومرسل أبي طلحة دَرْع الخولاني:
ـ فأما حديث ابن حوالة فرواه …
ـ درجة الحديث:
هذا الحديث من رواية عبد الله بن حوالة: ليس بثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن ابن حوالة هذا لا يوجد ما يثبت له الصحبة المقتضية للعدالة.
وروايات الرجل الذي عند معاوية وواثلة بن الأسقع وأبي الدرداء والعرباض بن سارية ترجع إلى رواية ابن حوالة.
والحديث من رواية عبد الله بن عباس: فيه يحيى بن سليمان المديني، ضعفه العُقيلي وقال عنه الذهبي مجهول.
والحديث من رواية عبد الله بن عمر له عنه نصان: الأول منهما فيه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وهو صدوق فيه لين وتغير عقله في آخر حياته، وفيه أبو العوام سادن بيت المقدس ولم أجد له ترجمة. والثاني منهما معلول، وهو مما رواه ابن عمر عن كعب الأحبار وليس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن رواية معاوية بن حيدة ورد بلفظ “عليكم بالشام”، وورد بلفظ “وأشار بيده نحو الشام”، والأول معلول، لمخالفته لثمانية طرق ليس فيها هذا التصريح، والثاني هو مجرد إشارة إلى جهةٍ ما فهمَ منها الراوي أنها إلى الشام، وهذا غير كاف في الدلالة. ثم إن اللفظين هما من طريق بهز بن حكيم، وهو وإن وثقه جماعة من الأئمة فقد قال فيه ثلاثة آخرون لا يُحتج به.
ومن رواية أبي أمامة فيه لقيط بن المثنى لم أجد فيه سوى أن ذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ ويخالف.
ومن رواية عبد الله بن يزيد الخثعمي: فيه إسحاق بن إدريس، وهو متروك الحديث.
ومرسل أبي قلابة من المراسيل، والمرسل ضعيف، فضلا عن أن أبا قلابة قد حمل العلم عمن سمع هذا الحديث من ابن حوالة.
وهو من مرسل أبي طلحة دَرْع الخولاني فيه عيسى بن سنان وهو ضعيف.
يتبين من هذا العرض أن حديث “عليكم بالشام” طرقه ضعيفة، وأنها لا ترتقي لدرجة الحسن.
[انظر كتاب: أحاديث فضائل الشام ـ دراسة نقدية ـ بقلم صلاح الدين الإدلبي الحديث: 1].
* هذه بعض النماذج من دراسة أسانيد تلك الروايات، فمن كان عنده علم فليخرجه لنا، مشكورا مأجورا إن شاء الله.
* بعد الجولة الواسعة في أحاديث فضائل الشام ودراسة أسانيدها وطرقها وبيان ضعفها وإعلالها بإيجاز فإنه لا بد من الإشارة إلى مسألة هامة، وهي اعتراض وجواب.
سيقول كثير ممن درسوا علوم الحديث في كتب المتأخرين: هذه الأحاديث ـ وإن سلمنا بضعف آحادها وبإعلالها ـ فهي متواترة، والمتواتر مقطوع بصحته فضلا عن كونه صحيحا!، فهي ـ في أدنى الدرجات ـ لا تنزل عن مرتبة الصحيح لغيره!.
وأقول في الجواب:
لا ارتباط بين صحة الحديث وعدد الطرق التي رُوي بها، لأن مجرد كثرة الطرق لا تفيد الصحة.
وقد أشار الإمام أحمد ابن حنبل عليه رحمة الله إلى هذا المعنى إذ قال: “يطلبون حديثاً من ثلاثين وجهاً!! أحاديثُ ضعيفة”. وجعل ينكر طلب الطرق نحو هذا وقال: “شيء لا ينتفعون به”.
والذي أقول به وأؤكده هو أنه لا ارتباط بين عدد الطرق التي يُروى بها الحديث وبين الصحة، فقد يكون للحديث عشرة طرق أو عشرون أو ثلاثون ويبقى ضعيفا، وقد يكون له طريق واحد ويكون صحيحا، والمعوَّل عليه هو عدالة الرواة وضبطهم مع اتصال السند وسلامة الحديث من العلل ومن الشذوذ.
ولو نظرنا إلى مجرد كثرة الطرق من مثل ما تقدم ـ بقطع النظر عن الإعلال والشذوذ ـ فما من شك في أننا نصحح أصل المسألة، وهي أن النبي صلى عليه وسلم قد أخبر بأن للشام فضلا خاصا لا تدانيها فيه سائر بلاد الله، ولكن لا بد من وقفة تأمل عند القرائن التي تحول دون ذلك.
فمن تلك القرائن أن كثيرا من تلك الروايات المروية في فضل الشام هي مروية كذلك عن كعب الأحبار:
فقد رُوي عن كعب أنه قال: “أحب البلاد إلى الله تعالى الشام، وأحب الشام إلى الله تعالى القدس، وأحب القدس إلى الله تعالى جبل نابلس”.
ورُوي عن كعب أنه قال: “عليك بالشام، فإنه ما نقص من بركة الأرضين يُزاد بالشام”.
ورُوي عن كعب أنه قال: “معقل المسلمين من الملاحم دمشق، ومن الدجال نهر أبي فـُطـْرُس، ومن يأجوج ومأجوج الطور”.
ورُوي عن كعب أنه قال: “دمشق معقل المسلمين من الروم، ومربض ثور فيها أفضل من دار عظيمة بحمص، ومن أراد النجاة من الدجال فنهر أبي فطرس، وإن أردت منزل الخلفاء فعليك بدمشق، وإن أردت الجهد والجهاد فعليك بحمص”.
ورُوي عن كعب أنه قال: “إني أجد في كتاب الله المنزل أن الشام كنز الله من أرضه وبها كنزه من عباده”.
ورُوي عن كعب أنه قال: “مكتوب في التوراة إن الشام كنز الله عز وجل يسكنها كنزه من عباده”.
ورُوي عن كعب أنه قال: “الخير عشرة أجزاء، فتسعة أجزاء الخير في الشام، وجزء في سائر الأرضين”.
ورُوي عن كعب أنه قال: “أهل الشام سيف من سيوف الله، ينتقم الله بهم ممن عصاه في أرضه”.
ورُوي عن كعب أنه قال: “ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق”.
ورُوي عن كعب أنه قال: “يهبط المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام عند القنطرة البيضاء على باب دمشق الشرقي إلى طرف الشجر، تحمله غمامة، واضع يديه على منكب ملكين، عليه ريطتان، مؤتزر بإحداهما مرتد بالأخرى، إذا أكبَّ رأسه قطر منه كالجمان، فيأتي مجمعَ المسلمين حيث هم، فيجد خليفتهم يصلي بهم، فيتأخر للمسيح حين يراه، فيقول: يا مسيح الله صل لنا. فيقول: بل أنت فصل لأصحابك، فقد رضي الله عنك، فإنما بُعثتُ وزيرا ولم أبعث أميرا. فيصلي لهم خليفة المهاجرين ركعتين مرة واحدة وابن مريم فيهم، ثم يصلي لهم المسيح بعده وينزع خليفتهم”.
ورُوي عن كعب أنه كان يقول في مقبرة باب الفراديس: “يُبعث منها سبعون ألف شهيد، يشفع كل إنسان في سبعين”.
ورُوي عن كعب أنه قال: “أجد في التوراة: عبدي أحمد المختار، لا فظ ولا غليظ، مولده مكة ومهاجره المدينة وملكه بالشام”.
ورُوي عن كعب في تاريخ دمشق أنه قال: “خمس مدائن من مدائن الجنة: بيت المقدس وحمص ودمشق وبيت جبرين وظفار اليمن”.
… [انظر بقية الروايات المروية عن كعب الأحبار عن فضائل الشام في كتاب: أحاديث فضائل الشام ـ دراسة نقدية ـ بقلم صلاح الدين الإدلبي].
فهذه الروايات وغيرها التي يرويها كعب الأحبار مشيرًا إلى أنها في صحف أهل الكتاب تثير الشك وتدعو إلى التوقف، وهذا ما وصلنا منها، وأما ما لم يصل فالله أعلم به، فهل هي أصل كل تلك الروايات التي ينسُبها الرواة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!. الله أعلم.
* وفي الختام هذه بعض الملحوظات السريعة:
ـ بعض الناس يسيؤون الظن، ويقولون ما ليس لهم به علم، وأذكرهم وأذكر نفسي بالموقف المهيب يوم القيامة بين يدي العظيم الجليل، وهو القائل تبارك وتعالى {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن، إن بعض الظن إثم}.
ـ قال بعض الإخوة: هذه الأحاديث كلها صحيحة. وقال بعض الإخوة: هذه الأحاديث أنا تابعتها وتحققت منها، وكلها كانت صحيحة.
أقول: القائل أدرى بنفسه، إما أن يكون مجتهدا في هذا الباب وإما أن يكون مقلدا لغيره، فإن كان مجتهدا فعليه أن يقابل الحجة بالحجة، وإن كان مقلدا فليقلد من يغلب على ظنه أنه أعلم، ولكن لا يجوز له الجزم بتخطئة غيره من أهل العلم، وقد قال الله جل وعلا {أتقولون على الله ما لا تعلمون}.
وهذا يعني أن العبد مسؤول عن كل كلمة قالها أو يقولها، وخاصة فيما يتعلق بدين الله عز وجل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم “وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب”.
ـ قال بعض الإخوة: إن كان هذا الكلام صحيحا فلم الآن ولمَ لمْ يكن من قبل؟.
أقول: هل سألتني عنها من قبلُ وكتمتُ عنك العلم؟!، ثم إن نشر العلم مطلوب ومرغَّب فيه في كل وقت، ولا يتقيد نشره بزمان دون زمان ولا مكان دون مكان.
ـ قال بعض الإخوة: الشام صفوة بلاد الله في الأرض رغم أنف الجميع.
أقول: تمنيت أنك ذكرت مكة المكرمة أو المدينة المنورة أو إقليم الحجاز الذي جمع هاتين المدينتين المباركتين، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الشام صفوة بلاد الله في الأرض.
ـ قال بعض الإخوة: ما الهدف من الطعن بأحاديث فضائل الشام؟.
أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار”.
ـ لقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال “اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا”، والظاهر أنه دعا لإقليم الحجاز شامه ويمنه، ولم يقل “الله بارك لأهل الشام واليمن في شامهم ويمنهم”.
ـ قال بعض الإخوة: ما سمعنا أحدا من العلماء طعن بهذه الأحاديث!.
أقول: ليس من شرط صحة العلم أن يكون مما سمعه الناس اليوم، ولكن من شرطه أن يكون مؤسسا على القواعد التي وضعها الأئمة العلماء الكبار في عصور السلف الصالحين.
ـ قال أحد الإخوة: ثم فلنفترض أنها أحاديث ضعيفة والناس تشتمُّ من خلالها رائحة الأمل، والناس تريد شيئا يريحها ويطمْئنها، فهل القضاء على نوافذ الأمل سنة مستحبة في ظل هذه الأمواج المدلهمة؟!، وهل وظيفتنا زرع الذعر والخوف في قلوب الناس؟!.
أقول: إذا كانت هذه الأحاديث التي عاش الناس من خلالها على الأمل ضعيفة حقا فلا بد من البيان، للأسباب التالية:
لا ينفعنا العيش على أمل غير مبني على حقائق.
هذه الأحاديث ـ مع الأسف الشديد ـ زرعت في الكثيرين من أهل الشام روح التواكل، لأن تلك الروايات تقول لهم “طوبى للشام إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها”، وتقول لهم “إن الله قد تكفل بالشام وأهله”، فيعلق أحد التابعين الصلحاء رحمه الله “ومن تكفل الله به فلا ضيعة عليه”!!.
وربما زرعت في قلوب بعضهم الغرور.
الواجب علينا ـ معشر أهل الشام ـ أن ننفض عنا غبار الكسل والتواكل، وأن نشمر عن ساعد الجد والعمل، وعلينا أن نعلم أن لله في خلقه سننا كونية ربانية يجب العمل من خلالها، وأننا لسنا مميزين عن غيرنا، فما نحن إلا بشر ممن خلق، فينا الصالحون وفينا الطالحون.
أسأل الله العلي العظيم أن يجمعنا على الحق والهدى والتقى، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يسدد خطانا، وأن يكشف عنا هذه الغمة، وأن يرفع الكرب والشدائد عن أمة محمد أجمعين، بفضله ومنه وكرمه.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 18/ 12/ 1435، الموافق 12/ 10/ 2014.
************************************************
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة عن بعض أحاديث فضائل الشام
وصلني من بعض الإخوة تعليق منقول حول ما قلته عن أحاديث فضائل الشام، فأنا أرى عدم ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، والمعلق يرى غير ذلك، ووصلني من بعض الإخوة صفحات مصورة مما كتبه بعض المشتغلين بالحديث النبوي الشريف تختلف عما قلته في هذه الروايات.
لا بد لي من كتابة كليمات تشرح موقفي من موضوع التصحيح والتضعيف في هذه المسألة.
كل من اجتهد واشتغل بخدمة السنة النبوية بإخلاص وعلم فله أجره إن شاء الله، إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد.
وأنا أَعرض هنا بعض ما كتبه ذلك المؤلف وأكتب قولي بعده، لينظر فيه أهل العلم بعين الإنصاف إن شاء الله، وأما من ليس من أهل العلم بهذا العلم فلا ينبغي له أن يخوض فيما هو بعيد عنه، والسكوت عما لا يعلمه ـ قبل دخول ميدان هذا العلم ـ فيه السلامة.
وأكتفي بمثالين، ففيهما كفاية إن شاء الله.
* قال المؤلف: الحديث الأول:
[عن زيد بن ثابت الأنصاري -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه سلم يقول: “يا طوبَى للشام، يا طوبَى للشام، يا طوبَى للشام1, قالوا: يا رسول الله! وبِمَ ذلك؟ قال: تلك ملائكة الله باسطو أجنحتها على الشام”. قلت: هو حديث صحيح, أخرجه الترمذي “2/ 331, طبع بولاق”، وقال: “حديث حسن”, وزاد في بعض النسخ: “صحيح”. والفسوي في “التاريخ” “2/ 301″، وابن حبان في “صحيحه” “2311, موارد الظمآن”، والحاكم في “المستدرك” “2/ 229″، وأحمد في “المسند” “5/ 184″، وابن عساكر في “تاريخ دمشق” “1/ 112-115”, وقال الحاكم: “صحيح على شرط الشيخين”, ووافقه الذهبيّ، وهو كما قالَا, وقال المنذري في “الترغيب” “4/ 63”: رواه ابن حبان في “صحيحه”، والطبراني بإسناد صحيح].
* قال صلاح الدين:
ليس فيه دراسة للإسناد، فضلا عن أي إشارة لمسألة الانقطاع في السند، ومن رغب في معرفة ضعف هذا الحديث وانقطاع سنده فليقرأ الحديث الثالث من كتابي “أحاديث فضائل الشام”.
* قال المؤلف: الحديث الثاني:
[عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى الله عليه وسلم: “ستنجدون أجنادًا، جُنْدًا بِالشَّامِ، وجُنْدًا بِالْعِرَاقِ، وَجُنْدًا باليَمَنِ”, قال عبد الله: فقمت، قلت: خِرْ لي يا رسول الله! فقال: “وعليكم بِالشَّامِ، فَمَنْ أَبَى فَلْيَلْحَقْ بِيَمَنِهِ، وَلْيَسْتَقِ مِنْ غُدُرِه، فَإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ تكفَّل لِي بالشام وأهله”. قال ربيعة: فسمعت أبا إدريس يحدث بهذا الحديث، يقول: وَمَنْ تكفَّل اللَّهُ بِهِ فَلا ضيعة عليه. قلت: حديث صحيح جدًّا؛ فإن له أربعة طرق: الأولى: طريق المُصنف، وهي من طريق مكحول, عن ابن حوالة, على خلافٍ عليه فيه. أخرجه الحاكم “4/ 510″، وأحمد “5/ 33″، وابن عساكر “1/ 47-56”, وقال الحاكم: “صحيح الإسناد”، ووافقه الذهبي. والطريق الثاني: أخرجه أبو داود “1/ 388″، وأحمد “4/ 110” من طريق أبي قتيلة, عن ابن حوالة. وإسناده صحيح. والثالث: أخرجه أحمد أيضًا “5/ 288” من طريق سليمان بن شمير عنه. والرابع: أخرجه الطحاوي في “مُشْكَل الآثار” “2/ 35”, عن جبير بن نفير عنه. وله طريق خامس رواه المُصنّف، وسيأتي الكلام عليه في الحديث التاسع. وله شواهد من حديث أبي الدرداء وغيره].
ثم قال المؤلف: الحديث التاسع:
[عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ أنه قال: يا رسول الله! اكتب لي بلدًا أكون فيه، فلو أعلم أنك تبقى لم أختر على قربك. قال: “عليك بالشام “ثلاثًا”. وقد رُوِيَ من حديث أبي أمامة عند الحاكم:4/ 509″، وصححه، وخُولِفَ، والطبراني، ومن حديث العرباض بن سارية, رواه الطبراني، ورواته ثقات؛ كما قال المنذري “4/ 62”, والهيثمي “10/ 59″, ومن حديث ابن حوالة نفسه بلفظ: ” … عليك بالشام، فإنه خيرة الله من أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده”. رواه أبو داود وأحمد بسندٍ صحيح؛ كما تقدَّم في تخريج الحديث الثاني].
* قال صلاح الدين:
ـ أما حديث عبد الله بن حوالة فليس الضعف من الطرق عنه، بل من ابن حوالة نفسه، فقد قال ابن الصلاح في المقدمة والنووي في التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير والجعبري في رسوم التحديث وابن جماعة في المنهل الروي وابن كثير في اختصار علوم الحديث والأبناسي في الشذا الفياح والحافظ العراقي في شرح التبصرة والتذكرة رحمهم الله: “ثم إن كون الواحد منهم صحابيا تارة يُعرف بالتواتر، وتارة بالاستفاضة القاصرة عن التواتر، وتارة بأن يُروى عن آحاد الصحابة أنه صحابي، وتارة بقوله وإخباره عن نفسه – بعد ثبوت عدالته – بأنه صحابي”.
وعبد الله بن حوالة لم تثبت صحبته، لا بالتواتر، ولا بالاستفاضة والشهرة، ولا بإخبار بعض الصحابة عنه أنه صحابي، فلم يبق إلا إخباره هو عن نفسه بذلك، وهذا لا يُقبل إلا إذا كانت عدالته ثابتة بغير ذلك الإخبار، وحيث إننا لم نجد قولا بتزكيته عن أحد المزكين من الصحابة أو التابعين فهذا يعني أنه ليس صحابيا بالمعنى المقتضي للعدالة.
ـ وأما حديث أبي أمامة فرواه ابن حنبل ونعيم بن حماد في الفتن وابن عساكر عن عبد الصمد بن عبد الوارث عن حماد بن سلمة عن سعيد بن إياس الجُريري عن لقيط بن المشاء ـ أو لقيط بن المثنى ـ عن أبي أمامة أنه قال: لا تقوم الساعة حتى يتحول خيار أهل العراق إلى الشام ويتحولَ شرار أهل الشام إلى العراق، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “عليكم بالشام”. سعيد بن إياس كان قد اختلط قبل موته بثلاث سنين، لكن رواية حماد بن سلمة عنه مقبولة، لأنه سمع منه قبل الاختلاط. لقيط بن المثنى لم أجد فيه سوى أن ذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ ويخالف. فهذا السند ضعيف.
ـ وأما حديث العرباض بن سارية فرواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني والطبراني في الكبير من طريق فضالة بن شريك عن خالد بن معدان عن العرباض به مرفوعا. فضالة بن شريك شاعر لم أجد له ترجمة في رجال الحديث، فالسند ضعيف، وهو خطأ، والصواب ما رواه أحمد وأبو داود من طريق بَحير بن سعد عن خالد بن معدان عن أبي قـُتيلة مَرْثد بن وَدَاعة عن عبد الله بن حوالة، وكذا رواه الطبراني في مسند الشاميين من طريق ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أبي قـُتيلة وأبهم الصحابي. فرجع هذا الطريق إلى حديث ابن حوالة، وهذا ليس بشاهد له.
ـ وأما حديث أبي الدرداء فرواه البزار والطبراني في مسند الشاميين وعبد الجبار الخولاني في تاريخ داريا من طريق سليمان بن عتبة عن يونس بن ميسرة بن حلبس عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء به مرفوعا. سليمان بن عتبة صدوق فيه لين. ثم إنه لا يصح من حديث أبي الدرداء، لأن مكحولا رواه عن أبي إدريس عن عبد الله بن حوالة، وطريق مكحول أقوى من طريق سليمان بن عتبة عن يونس بن ميسرة. فرجع هذا الطريق إلى حديث ابن حوالة، وهذا ليس بشاهد له.
ـ فإن قيل: لم لا يكون حديث العرباض بن سارية وحديث أبي الدرداء شاهدين لحديث عبد الله بن حوالة؟.
فأقول: هذا هو منهج أئمة علماء الحديث ومنهم الإمامان البخاري ومسلم رحمهم الله تعالى جميعا، ومن كان من هذا في شك فليقرأ النوع الثالث من القسم الأول والنوع الأول من القسم الثاني من كتابي “منهج الإمامين البخاري ومسلم في إعلال المرويات الحديثية”.
وكتبه صلاح الدين الإلبي في 15/ 3/ 1438، والحمد لله رب العالمين.