هل اليهودية والنصرانية والإسلام أديان ثلاثة أو هي دين واحد؟

* ـ هل اليهودية والنصرانية والإسلام أديان ثلاثة أو هي دين واحد؟:

هذا تساؤل يدور في هذه الأيام عند كثير من الناس، وكلٌّ يدلي بدلوه، وأرى لزاما عليَّ أن أبيِّن ما أراه الصواب، معتمدا على ما في كتاب الله عز وجل وما في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

الملخص هو أن هنالك ثلاثة أجوبة اليوم على هذا التساؤل:

* ـ القول الأول هو أن اليهودية والنصرانية والإسلام دين واحد وأن مَن آمن مِن أهل هذه الأديان بنبي واحد من أولئك الأنبياء وبكتاب واحد من تلك الكتب السماوية المنزَّلة على الأنبياء فإيمانه ينجيه في الآخرة وهو مقبول عند الله تعالى!، وهذا القول ظاهر البطلان، لأنه يجعل الإيمان بالنبي السابق مع الكفر بالنبي اللاحق مقبولا!، ويجعل مَن آمن بالأنبياء السابقين والكتبِ المنزَّلة عليهم مع عدم الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن الكريم المنزَّل عليه مقبولا عند الله!، ولو كان الأمر كذلك لكان إرسالُ النبي اللاحق وطلبُ الإيمان به نوعا من العبث، وجلَّ ربنا وتعالى عن ذلك.

كتبُ أهل الكتاب فيها نصوص كثيرة تدل على وجوب الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، وما يزال بعضها باقيا بأيديهم إلى اليوم على الرغم من التحريف الذي وقع فيها والذي يعترف به كثير من علماء أهل الكتاب، وما زالوا يقرؤون أحد النصوص عندهم وهو بلفظ “محمد”، يقرؤونه هكذا “محمد”، وهنالك دراسات كثيرة قام بها باحثون تذكر ما بقي من تلك النصوص في كتب أهل الكتاب حتى اليوم.

لو لم يكن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالكتاب المُوحَى به إليه واجبا لكان في كلام الله عز وجل تناقض، وحاشاه من ذلك.

هذا وقد قال الله عز وجل في القرآن العظيم {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لَـمَا آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه، قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري؟، قالوا أقررنا، قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين}.

وقال الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين}. وإذا كان إيمانهم بما آمنوا به دون الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن إيمانا مقبولا عند الله فلمَ جاء النهي عن اتخاذهم أولياء؟!، ولمَ جاء التهديد بأن مَن يتولاهم فإنه منهم؟!.

ولا تنسَ أن الله عز وجل قد جعل أهل الكتاب والمشركين داخلين في مسمى “الذين كفروا”، إذ يقول عز وجل في القرآن العظيم {لم يكن الذين كفروا مِن أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة}، وكلمة “مِن” في قوله تعالى {مِن أهل الكتاب والمشركين} بيانية، أي إن أهل الكتاب والمشركين هم من الذين كفروا.

وروى مسلم في صحيحه وابن حنبل من طريقين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسِلت به إلا كان من أصحاب النار”.

يقول بعض الناس إن اليهود والنصارى والمسلمين كلهم على ملة واحدة، هي ملة إبراهيم عليه السلام، وهي عقيدة التوحيد، ويتجاهلون أنه لا يتم إيمان من أدرك سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم ولم يؤمن به وبما أُنزل إليه وهو القرآن، ولو جاء سيدنا إبراهيم عليه السلام اليوم ورأى أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته والكتابِ الذي أنزِل عليه لتبرَّأ منهم، فقد قال ربنا عز وجل {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما، وما كان من المشركين، إن أوْلى الناس بإبراهيم لَلذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا، والله ولي المؤمنين}.

فالقائلون بهذا القول مخالفون لما في كتاب الله تعالى مخالفة ظاهرة، خارجون عن إجماع الأمة كلها وعن دين الإسلام، وقد قال الله عز وجل {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}.

* ـ القول الثاني الذي أراه صحيحا راجحا هو أن تلك الرسالات هي أديان سماوية ثلاثة، وهي مُوحًى بها من الله جل جلاله للنبيين المرسَلين موسى وعيسى ومحمدٍ عليهم صلوات ربي وتسليماته، وأن كل واحد منها يشمل الاعتقاد والأخلاق والتشريعات العملية في العبادات والمعاملات، وأنه لا اختلاف بينها في أصول الاعتقاد والأخلاق، لكن تختلف في كثير من التشريعات العملية في العبادات والمعاملات.

هنالك عدد من الاستدلالات والقرائن تشير إلى رجحان هذا القول:

منها أن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث للعالمين كافة، ولقيَ كثيرا من اليهود والنصارى وكتبَ رسائلَ للملوك وبعضُهم نصارى، وكان يدعوهم للإيمان بالدين الذي أُوحي به إليه من الله تعالى ولم يجئ عنه إطلاقا أنه قال لهم إن ديننا واحد، ولا أنه قال لهم إن الدين واحد فتعالوْا نتباحث في حقيقة الدين مثلا.

ومنها أن الله عز وجل قال في كتابه الكريم {يا أهل الكتاب لا تغْلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق}، فإذا كان الدين واحدا فلمَ جاء الخطاب لهم بلفظ {لا تغْلوا في دينكم}؟!، ولو كان الدين بيننا وبينهم واحدا لجاء الخطاب بلفظ “لا تغْلوا في الدين”.

ومنها ما روتْ أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها في قصة الهجرة إلى الحبشة، حيث ذكرت أن النجاشيَّ سأل الصحابة الذين كانوا عنده فقال: “ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟!”. وكان النجاشي إذ ذاك نصرانيا، فلم يقل واحد منهم لا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ولا غيره إن ديننا واحد. [هذه القصة رواها ابن إسحاق في السيرة وابن حنبل في مسنده بسند صحيح].

ومنها ما رواه ابن حنبل في المسند عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: أخَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء، ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال: «أمَا إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم». ورواه كذلك عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما ينتظرها أحد من أهل الأديان غيركم». [والسند صحيح].

لا شك في أن أول من ينصرف إليهم ذهن الصحابة المخاطَبين بهذا القول هم أهل الكتاب، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليهم بقوله «من أهل الأديان»، وهذا يعني أن ديننا ودينهم أديان وليست دينا واحدا.

ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان “فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم”، وهذا يعني أن مسمَّى الدين ليس هو الإيمانَ والإحسانَ فقط، وإنما يشمل الإسلام كذلك، ومن المعلوم قطعا أن شرائع الإسلام تختلف، فلا يمكن أن تكون اليهودية والنصرانية والإسلام دينا واحدا، وربنا جل وعلا يقول {لكلٍّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}.

ـ هل كل الأنبياء دينهم هو الإسلام؟:

الإسلام هو الاستسلام، تقول للرجل أسلمْ، ومعناها استسلمْ، أي الزم الخضوعَ والانقياد والإذعان، والمراد هنا الخضوع والانقياد والإذعان لله رب العالمين، وبهذا المعنى فدعوة كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي الإسلام والاستسلام التام لله سبحانه وتعالى. هذا من حيث المعنى.

أما من حيث التسمية فالإسلام هو الدين الذي أرسل الله عز وجل به نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، فأتباعه هم المسلمون ودينهم هو دين الإسلام، وفي هذا المعنى يقول الله تعالى {هو اجتباكم، وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملةَ أبيكم إبراهيم، هو سمَّاكم المسلمين}.

إذا كان كل أتباع الديانات السماوية يصح أن نسميهم مسلمين فلمَ جاء قوله تعالى خطابا لنا معشرَ الأمة المحمدية {هو سمَّاكم المسلمين}؟!.

* ـ هناك قول ثالث أراه صحيحا مرجوحا لا يختلف في حقيقته عن القول الثاني في شيء سوى في مسألة واحدة يختلفان فيها اختلافا لفظيا، خلاصته هي أن تلك الرسالات السماوية إنما هي دين واحد بالنظر إلى أنها مُوحًى بها من الله جل جلاله وأنه لا اختلاف بين تلك الرسالات في أصول الاعتقاد، وأنه لا يتم إيمان أحد من أتباع تلك الرسالات إلا بأن يؤمن بكل الأنبياء والمرسلين الذين أدركهم وبالكتب الإلهية المنزَّلة عليهم.

وهذا يعني أن أي واحد من أتباع الرسالة اليهودية أو النصرانية إذا أدرك بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يؤمن به نبيا ورسولا أو لم يؤمن بالقرآن الكريم كتابا مُوحًى به من الله جل جلاله ومنزَّلا عليه فليس بمؤمن أصلا.

أهل هذا القول مقرُّون بأن الإيمان بأنبياء الله تعالى ورسله كلِّهم وبالكتب السماوية كلِّها هو من العقائد التي جاءت بها كل الرسالات السماوية، وأن كل مَن آمن بنبي من أنبياء الله تعالى وبما أُرسل به فإن إيمانه لا يصح إلا بأن يؤمنَ بكل الأنبياء السابقين ويعقدَ العزم على الإيمان بكل الأنبياء اللاحقين وبكل ما يبلغونه عن الله، ومنه الإيمانُ بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا وأنه خاتِم النبيين والمرسلين وبالقرآن الكريم كتابا منزَّلا من الله عز وجل، وهذا لكل من أدرك بعثة هذا النبي الكريم عليه صلوات الله وسلامه.

وذلك للأدلة القطعية الكثيرة في هذا، منها ما تقدم من قبل، ومنها قوله تعالى {ورحمتي وسعتْ كل شيء، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون، الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل}، ومنها قوله تعالى {قل أي شيء أكبر شهادة، قل الله شهيد بيني وبينكم، وأوحِي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ}.

وههنا نقطة قد يكون فيها شيء من الغموض لا بد من إيضاحها، تلك هي أن أتباع الديانات السابقة ممن آمنوا بسيدنا موسى أو بسيدنا عيسى عليهما الصلاة والسلام قد أُخِذ عليهم الميثاق بوجوب الإيمان بنبي مذكور في كتابَيْهم باسمه ونعته، وهو محمد عليه الصلاة والسلام، فإذا لم يؤمنوا به وبما جاء به من عند الله فقد اختل إيمانهم بالدين الذي يظنون أنهم مؤمنون به أصلا.

إذا كان الأمر كذلك فلا خلاف في مسألة الإيمان المنجي من عذاب الآخرة والمقبولِ من رب العالمين، وينحصر الخلاف بعد ذلك في أننا هل نسمي الرسالات السماوية أديانا أو نقول إنها دين واحد بالمعنى الذي سبق بيانُه، وعلى هذا فمن قال إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعوتهم في العقائد واحدة ودينهم واحد بهذا المعنى فهذا صحيح لا يختلف فيه اثنان إلا من حيث التسمية.

ـ بقيت ههنا نقطة لا بد من التحدث عنها، هي أن أهل هذا القول يستدلون على قولهم بإحدى الروايات المروية عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وذلك أن البخاري ومسلما رحمهما الله رويا عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد عَلَّات، ليس بيني وبينه نبي». هذا حديث ثابت بهذا اللفظ، وفي بعض طرق هذا الحديث عندهما زيادة “ودينهم واحد”. [قوله “أولاد عَلَّات” أي إخوة لأب واحد وأمهاتهم شتى، أراد أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة].

لو صحتْ زيادة هذه اللفظة “ودينهم واحد” لكان في هذه الرواية حجة لصحة هذا القول، لكنها ليست ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أشار الإمام مسلم رحمه الله إلى أن هذه الزيادة معلولة.

وهذا ما جعلني أرجح ما جاء في القول الثاني وهو أن الرسالات السماوية هي أديان متعددة وليست دينا واحدا.

وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 7/ 1/ 1444، الموافق 5/ 8/ 2022، والحمد لله رب العالمين.