روايات ضعيفة فيها فساد صوم الصائمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين، وعلى آله وأصحابه وإخوانه أجمعين.
صيام رمضان فريضة ربانية، وركن من أركان الإسلام، وهو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى تحق غروب الشمس الذي هو أول الليل، قال الله عز وجل: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم أتموا الصيام إلى الليل}.
هذا ولعل أحد الباحثين الذين تكلموا في تعجيل الفطر وتأخير السحور ـ وهما مستحبان قطعا ـ قد وقع في كلامه بعض الخلل في هاتين المسألتين:
* ـ قال أحد الباحثين:
[جاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحد أصحابه بأن يهيئ له الإفطار، فقال: يا رسول الله، النهار أمامنا!. يعني ضوء الشمس، ولو أنها غابت لكن لايزال ضوؤها ظاهرا من الناحية الغربية، ما ردَّ عليه الرسولُ عليه السلام، بل أكّد له الأمر بأن يُهيّئ الإفطار، يقول راوي الحديث: كنا نرى النهار أمامنا ـ أي ضوء النهار ضوء الشمس حينما أفطرنا ـ، لو أنَّ أحدنا ركب ناقته لرأى الشمس. الشمس غربت من هنا والرسول عليه السلام أمر أحد الصحابة أن يهيّئ الإفطار، لم؟، للتعجيل بالخير، “لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر”].
أقول:
ـ الحديث الذي استشهد به الباحث “لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر” صحيح الإسناد، ورواه البخاري بنحوه، لكن في كلام الباحث عن التعجيل الذي استشهد له بحديث تهيئة الإفطار خلل كبير.
ـ الحديث المشار إليه في تهيئة الإفطار رواه البخاري ومسلم وعبد الرزاق والحميدي وابن حنبل ومحمد بن نصر المروزي في كتاب السنة والنسائي في السنن الكبرى وابن حبان والبيهقي:
ـ رواه البخاري في صحيحه في باب متى يحل فطر الصائم؟ من طريق خالد بن عبد الله الطحان الواسطي عن أبي إسحاق سليمان بن أبي سليمان الشيباني عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وهو صائم، فلما غربت الشمس قال لبعض القوم: يا فلان قم فاجدح لنا. فقال: يا رسول الله لو أمسيت؟!. قال: انزل فاجدح لنا. قال: يا رسول الله فلو أمسيت؟!. قال: انزل فاجدح لنا. قال: إن عليك نهارا!. قال: انزل فاجدح لنا. فنزل فجدحَ لهم، فشرب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: “إذا رأيتم الليل قد أقبل من ههنا فقد أفطر الصائم”.
ورواه البخاري في باب تعجيل الإفطار من طريق أبي بكر بن عياش عن الشيباني به نحوه، ورواه البخاري في باب يفطرُ بما تيسر من الماءِ أو غيرِه ومسلمٌ من طريق عبد الواحد بن زياد عن الشيباني به نحوه، ورواه البخاري في باب الإشارة في الطلاق والأمورِ من طريق جرير بن عبد الحميد عن الشيباني به نحوه، ورواه مسلم وابن حنبل وغيرهما من طريق هشيم بن بشير، ورواه مسلم من طريق علي بن مسهر وعباد بن العوام، ثلاثتهم عن الشيباني به نحوه.
وفي بعض الطرق في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال “إذا غابت الشمس من ههنا وجاء الليل من ههنا فقد أفطر الصائم”، وهذا أصح، وروى مسلم عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغابت الشمس فقد أفطر الصائم”.
[سليمان بن أبي سليمان الشيباني كوفي ثقة مات سنة 139 تقريبا. عبد الله بن أبي أوفى صحابي نزل الكوفة ومات بها سنة 87]. فالسند صحيح.
قال ابن حجر: قوله “فاجدحْ” بالجيم ثم الحاء المهملة، والجدْح تحريك السويق ونحوه بالماء بعودٍ يقال له المِجْدَح مجنَّح الرأس.
وقال في شرح معنى الحديث: يحتمِل أن يكون المذكور كان يرى كثرة الضوء من شدة الصحو فيظن أن الشمس لم تغرب ويقول لعلها غطاها شيء من جبل ونحوه، أو كان هناك غيم فلم يتحقق غروب الشمس.
فليس في واحد من تلك الطرق السبعة عن سليمان بن أبي سليمان الشيباني ما أشار إليه الباحث من أن راوي الحديث قال “لو أنَّ أحدنا ركب ناقته لرأى الشمس”.
ـ ورواه البخاري في باب الصوم في السفرِ والإفطارِ وعبدُ الرزاق والحميدي وابن حنبل والنسائي في السنن الكبرى وابن حبان من طريق سفيان بن عيينة عن الشيباني عن ابن أبي أوفى أنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال لرجل: انزل فاجدح لي. قال: يا رسول الله، الشمس!. قال: انزل فاجدح لي. قال: يا رسول الله، الشمس!. قال: انزل فاجدح لي. فنزل فجدح له، فشرب، ثم رمى بيده ههنا ثم قال: “إذا رأيتم الليل أقبل من ههنا فقد أفطر الصائم”. هذا الإسناد ظاهره الصحة، وفيه لفظة معلولة.
الروايات السابقة فيها أن الرجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما طلب منه أن يجدح له “يا رسول الله لو أمسيتَ؟!”، أو قال “إن عليك نهارا”، أو جمع بينهما، ولكنه في هذه الرواية التي تفرد بها سفيان بن عيينة جاء بلفظ “يا رسول الله، الشمس”!، وظاهره أنه كان يرى عين الشمس، والروايات الأخرى مصرحة بأن الشمس كانت قد غابت أو غربت، وتأويله بأن المراد ضوء الشمس ضروري ـ عند شراح الحديث ـ للجمع بين الروايات، ولو كان تأويلا قريبا لكان مقبولا، ولكنه تأويل بعيد، وقد ألجأهم إليه الحرصُ على عدم تخطئة الراوي سفيان بن عيينة الذي تفرد بها، وهو ثقة إلا أنه كان يروي بالمعنى، فالظاهر أن هذه اللفظة من أوهامه.
ثم إن هذه الرواية ليس فيها أن راوي الحديث قال “لو أنَّ أحدنا ركب ناقته لرأى الشمس”، وهو ما عزاه الباحث لصحيح البخاري، وهو ليس فيه لا بلفظه ولا بمعناه.
وإنما يُروى هذا المعنى في مصنف عبد الررزاق بلفظ “ولو تراءاها أحد على بعيره لرآها”، أي الشمس.
ولو كانت الشمس بحيث تمْكن رؤيتُها لمن يتراءاها وهو على بعيره لمَا كان قد دخل وقت المغرب، ولمَا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أفطر، خلافا لمن يرجح ثبوت تلك اللفظة في الرواية ويبيح للصائم الإفطار في مثل ذلك الوقت!.
* ـ قال الباحث:
[جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث صحيح وفيه بيان يُسر الإسلام “إذا سمع أحدكم النّداءَ والإناءُ على يده فلا يضعْه حتى يقضي حاجته منه”، أي إذا سمع أحدكم النّداء وإناء الطعام سواء كان حليبا أو ماءً أو أي شيء مما يتسحّر به المتسحّر فسمع الأذان فلايقول الآن حَرُم الطعام، لا يحرُم الطعام بالأذان إلا لمن كان مكتفيا منه، فلايجوز له أن يزداد شرابا أو فاكهةً وقد قضى وطره من كل ما كان يأكل منه، أما إذا سمع الأذان وهو لمَّا ينتهِ بعدُ من أن يأخذ حاجته من طعامه وشرابه فالرسولُ صلى الله عليه وآله وسلم يبيح له ذلك، فيقول صراحةً وبلسانٍ عربي مبين “إذا سمع أحدكم النّداء والإناء على يده فلايضعه حتى يقضي حاجته منه”. وهذا الحديث موجود في أشهر كتب السنة التي منها سنن أبي داوود، وهو الكتاب الثالث من الكتب الستة المشهورة، وكذلك رواه أبو عبد الله الحاكم في مستدركه، وكذلك أخرجه الإمام إمام السنة أحمد ابن حنبل رحمه الله في كتابه العظيم المعروف بمسند الإمام أحمد، فهذا الحديث إذن ليس من غرائب الأحاديث، بل هو من الأحاديث المشهورة التي رواها أئمة السنة القدامى وبالسند الصحيح].
أقول:
هذا الحديث رواه ابن حنبل وأبو داود والحاكم والبيهقي من طرق عن حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعْه حتى يقضي حاجته منه”. [محمد بن عمرو بن علقمة مدني صدوق فيه لين مات سنة 145، وربما كان تليينه هو في رواياته عن أبي سلمة عن أبي هريرة، فقد سئل يحيى بن معين عنه فقال: ما زال الناس يتقون حديثه. قيل له: وما علة ذلك؟. فقال: “كان يحدث مرة عن أبي سلمة بالشيء من رأيه ـ أو قال من روايته ـ، ثم يحدث به مرة أخرى عن أبي سلمة عن أبي هريرة”]. فهذا الطريق فيه لين.
ورواه ابن حنبل من طريق حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة به نحوه. [عمار بن أبي عمار مكي ثقة فيه لين]. فهذا الطريق فيه لين، وهو معلول بعلة الوقف على الصحابي، كما قال أبو حاتم الرازي.
قال ابن أبي حاتم في العلل: سألت أبي عن حديث رواه روح بن عبادة عن حماد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال “إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه”؟، وقلت لأبي: وروى روح أيضا عن حماد عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله؟. فقال أبي: “هذان الحديثان ليسا بصحيحين، أما حديث عمار فعن أبي هريرة موقوف، والحديث الآخر ليس بصحيح”.
ـ والحديث بطريقيه مخالف لقول الله تعالى {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم أتموا الصيام إلى الليل}، فهو ليس بثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا إسنادا ولا متنا.
* ـ نبذة في دقة منهج الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه:
روى الإمام البخاري في صحيحه حديثَ ابن أبي أوفى الواردَ في تهيئة الإفطار باللفظ الدال على تعجيل الفطر بعد غروب الشمس في بابِ متى يحِل فطر الصائم؟ وفي باب تعجيل الإفطار، وهما البابان المناسبان لهذا المعنى بلا إشكال، أما الرواية التي جاءت بقول من يهيئ الإفطار “يا رسول الله، الشمس!” ـ وهو اللفظ الذي فيه الإيهام بجواز الفطر قبل تحقق الغروب ـ فلم يروه في أحد ذينك البابين، لأنهما غير مناسبين لهذا المعنى، ورواه في باب آخرَ مناسبٍ لغير هذا اللفظ، وهو باب الصوم في السفرِ والإفطارِ. فرحمه الله رحمة واسعة.
ومن غفَل عن منهج الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه فإنه يأخذ الحديث منه من أي رواية مسندة فيه ويقول “رواه البخاري”!.
* ـ خلاصة البحث الفقهية:
لا يجوز للصائم أن يفطر قبل التحقق من غروب الشمس، ولا يجوز له الاستمرار في الأكل أو الشرب في سحوره إذا تحقق ظهور الفجر الصادق. والله أعلم.
وكتبه صلاح الدين بن احمد الإدلبي في 18 رمضان 1438، الموافق ل12 حزيران 2017 ، والحمد لله رب العالمين.