حديث الإحرام بذي الحليفة يوم حجة الوداع
لهذا الحديث عدة روايات في الصحيحين عن جابر وابن عباس وعائشة وابن عمر وأنس رضي الله عنهم، وههنا مسائل:
* المسألة الأولى متى كان الانطلاق للحج ومتى كان الوصول:
أما الوصول إلى مكة فليس فيه اختلاف، فقد روى البخاري [7230، 2505، 7367] ومسلم [2915] من طريقين عن عطاء عن جابر أنه قال: قدمنا مكة لأربع خلون من ذي الحجة. ورواه مسلم [2909] بنحوه من طريق أبي الزبير عن جابر أنه قال: وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال. ورواه البخاري [1085، 1545، 1564، 3832، 2506] من ثلاثة طرق عن ابن عباس. ورواه مسلم [2903 ـ 2904] من طريق زين العابدين علي بن الحسين عن ذكوان مولى عائشة عن عائشة.
وحيث إن الطريق من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة يأخذ نحوا من تسعة أيام فالمتوقع أن الانطلاق كان لخمس بقين من ذي القعدة، وهكذا رواه البخاري [1545] من طريق كريب عن ابن عباس، ورواه البخاري [1709، 1720، 2952] ومسلم [2896] من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة عن عائشة.
لكن هنالك رواية مشكلة، فقد رواه البخاري [317، 1783، 1786] ومسلم [2885 ـ 2887] من ستة طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت: خرجنا موافين لهلال ذي الحجة!. ولا شك في أن هذا من أوهام هشام بن عروة.
* المسألة الثانية بمَ أهَلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وبم أهلَّ الناس أو أكثر الناس معه:
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أهلَّ بالحج، وهو ما رواه البخاري [1651، 1785] عن جابر، وكذلك [4354] من طريق حُميد الطويل أنه قال حدثنا بكر بن عبد الله المزني عن ابن عمر، ورواه البخاري [1562، 4408] ومسلم [2888، 2892] من ثلاثة طرق عن عائشة، ورواه البخاري [1085، 1564، 3832، 2506، 1545] من طريق أبي العالية البَرَّاء وطاوس وكريب عن ابن عباس أنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج. ثم نزل بأعلى مكة عند الحَجون وهو مهلٌّ بالحج. وهذا يفيد أن أكثر الصحابة لا بد أنهم أهَلـُّوا بما أهلَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا كان، فقد روى البخاري [1651، 1785، 7230، 1568، 2505، 7367، 1570] ومسلم [2909، 2912، 2915، 2918، 2922] من أربعة طرق عن جابر أنه قال: أهل النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه بالحج. كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبينا بالحج. مهلين بالحج. لسنا ننوي إلا الحج. ورواه البخاري [1085، 1564، 3832، 2506، 1545] من ثلاثة طرق عن ابن عباس، كما تقدم. ورواه البخاري [4354] عن ابن عمر أنه قال: أهَلَّ النبي صلى الله عليه وسلم بالحج وأهللنا به معه. ورواه البخاري [294، 305، 1788، 1561، 1762، 1772، 1709، 1720، 2952] ومسلم [2889 ـ 2893، 2896، 2901] من طريق القاسم بن محمد وعمرة بنت عبد الرحمن والأسود بن يزيد عن عائشة أنها قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا الحج. لا نذكر إلا الحج.
ورواه البخاري [1572] عن أبي كامل فضيل بن حسين عن أبي معشر البَرَّاء عن عثمان بن غياث عن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج، فقال: أهلَّ المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي”. وهذه الرواية عن ابن عباس هي كالصريحة في أن المهاجرين والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أهَلـُّوا بالحج مفردا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال “اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي” بعد قدومهم مكة.
وقد خيَّر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ـ كما في بعض الطرق عن عائشة ـ بين الإهلال بالحج أو بالعمرة أو بهما معا، فمنهم من اختار هذا ومنهم من اختار ذاك، وروى البخاري [4408، 317، 319، 1562، 1783، 1786] ومسلم [2882، 2884، 2885، 2887، 2888، 2894] من ثلاثة طرق عن عروة بن الزبير ومن أحد الطرق عن القاسم، كلاهما عن عائشة أنها قالت: فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحجة، ومنا من أهل بحج وعمرة.
وأما عائشة ذاتها فقد روى البخاري [316، 317، 319، 1783، 1786] ومسلم [2882 ـ 2887، 2905] من طريق عروة وطاوس عنها أنها أهلت بعمرة. ورواه مسلم [2911] عن جابر أن عائشة رضي الله عنها في حجة النبي صلى الله عليه وسلم أهلت بعمرة .
ولكنْ هنالك خمس روايات بعض ألفاظها غير محفوظة:
الأولى: ما رواه البخاري [1556، 1638، 4395] ومسلم [2881] عن أربعة من شيوخهم عن مالك عن ابن شهاب الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فأهللنا بعمرة!. وهكذا هي الرواية في موطأ مالك من رواية يحيى بن يحيى الليثي وأبي مصعب الزهري ومحمد بن الحسن، وكذا رواها عنه غيرهم، والصحابة أو أكثرهم لم يهلوا بعمرة، بل بالحج.
ويبدو أن الأصل هو “فأهللتُ بعمرة”، وأنها تصحفت عند مالك رحمه الله.
ثم وقفتُ على هذه اللفظة على الصواب من رواية ابن وهب عن مالك، في كتاب الجامع لابن وهب وفي مستخرج أبي عوانة، حيث جاءت فيهما “فأهللتُ بعمرة”.
وجاءت على الصواب كذلك من رواية معْمر عن الزهري في مسندي ابن حنبل وابن راهويه وصحيح ابن حبان وسنن البيهقي.
الثانية: ما رواه مسلم [2902] عن سويد بن سعيد عن علي بن مسهر عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود بن يزيد عن عائشة أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نلبي، لا نذكر حجا ولا عمرة!. فكيف أهلـُّوا ولبَّوْا وهم لا يذكرون حجا ولا عمرة؟!!.
سويد بن سعيد مضطرب الحفظ، وهذه الرواية مخالفة لما رواه البخاري [1772، 1561، 1762] ومسلم [2901] من طريق محاضر بن المورع عن الأعمش عن إبراهيم النخعي، ومن طريقين عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي، وفي تلك الروايات “ولا نرى إلا أنه الحج”، “لا نذكر إلا الحج”. فالرواية المخالفة لكل تلك الروايات معلولة.
الثالثة: ما رواه البخاري [1691، 1692] ومسلم [2954، 2955] من طريقين عن الليث بن سعد عن عُقيل بن خالد عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، فتمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، وعن عروة أن عائشة أخبرته عن النبي صلى الله عليه وسلم في تمتعه بالعمرة إلى الحج وتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويبدو أن عُقيلَ بنَ خالد روى الرواية هنا بالمعنى فأفسد المعنى، والدليل على ذلك مخالفة قوله ”أهل النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة” للروايات الثابتة من رواية ابن عمر وعائشة وغيرهما في أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أهلوا بالحج.
الرابعة: ما رواه مسلم [2981] من طريق شعبة عن مسلم القري أنه سمع ابن عباس يقول: “أهل النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة وأهل أصحابه بحج”. [مسلم بن مخراق القـُرِّي لا يُعتمد على حفظه، إذ لم يوثقه إلا بعض المتساهلين في التوثيق، ولم أجد توثيق النسائي له فيما وقفت عليه من مؤلفات النسائي].
ويبدو أن مسلمًا القري روى الرواية هنا بالمعنى فأفسد المعنى، والدليل على ذلك مخالفة قوله ”أهل النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة” للروايات الثابتة، وهي من ثلاثة طرق عن ابن عباس ومن رواية غيره من الصحابة في أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أهلوا بالحج.
الخامسة: ما رواه البخاري [1551، 2986، 1715] من طريق أيوب عن أبي قلابة عن أنس أنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه بالمدينة الظهر أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، ثم بات بها حتى أصبح، ثم أهل بحج وعمرة، وأهل الناس بهما.
هذا وقد روى جماعة عن أنس مثل هذه الرواية، ولا شك في أنها من أوهامه، حيث إنها تخالف ما ثبت من رواية جابر وابن عباس وابن عمر وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواية الجماعة هي الثابتة، والرواية التي تفرد بها راويها مع مخالفة رواية الجماعة معلولة.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 15/ 3/ 1436، والحمد لله رب العالمين.