حديث “وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمعْ وأطع“:
بقلم
صلاح الدين بن أحمد الإدلبي
________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمام النبيين وخاتم المرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
ـ رُوي هذا اللفظ “وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمعْ وأطع” عن النبي صلى الله عليه وسلم زائدا على أصل الحديث في حديثين، من رواية حذيفة بن اليمان ومن رواية عبادة بن الصامت رضي الله عنهما:
ـ فأما الحديث الأول بدون هذه الزيادة فرواه البخاري ومسلم في صحيحيهما ونعيم بن حماد في الفتن وأبو عوانة وابن ماجه والحاكم والبيهقي في السنن الكبرى من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: حدثني بسر بن عبيد الله الحضرمي قال: حدثني أبو إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟. قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟. قال: نعم، وفيه دَخَن. قلت: وما دخنه؟. قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟. قال: نعم، دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله صفهم لنا. فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟. قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟. قال: “فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك“. وهذا سند صحيح.
ورواه نعيم بن حماد من طريق يونس بن ميسرة بن حلبس عن حذيفة به نحوه. وهذا الطريق رجاله ثقات، لكنه منقطع بين يونس وحذيفة، ويونس من الرواة عن أبي إدريس الخولاني، فالظاهر أنه سمعه منه، فرجع هذا الطريق إلى الطريق السابق.
ورواه أبو داود الطيالسي وابن أبي شيبة وأحمد والنسائي في السنن الكبرى وابن حبان والحاكم من طريقين عن سُبيع بن خالد اليشكري عن حذيفة به نحوه. [سُبيع بن خالد ذكره ابن حبان في الثقات مجرد ذكر]. فهذا الطريق لا يُعتمد عليه.
ـ وأما الحديث بزيادة “وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك” فرواه مسلم في صحيحه والطبراني في الأوسط والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن الكبرى من طريق ممطور أبي سلام الحبشي قال: قال حذيفة بن اليمان: قلت: يا رسول الله إنا كنا بشر فجاء الله بخير فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟. قال: نعم. قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟. قال: نعم. قلت: فهل وراء ذلك الخير شر؟. قال: نعم. قلت: كيف؟. قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟. قال: “تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع”.
هذا إسناد منقطع بين أبي سلام الشامي الدمشقي وحذيفة، لأن بعض الأئمة لم يثبتوا سماع أبي سلام من ثوبان وبعضهم جزموا بعدم سماعه منه، وثوبان نزل الشام ومات بحمص سنة 54، فمن باب أولى أن لا يكون قد سمع من حذيفة الذي سكن الكوفة ومات سنة 36. ومما يؤكد هذا قولُ الدارقطني عن هذا الطريق في كتاب التتبع: [وهذا عندي مرسل، أبو سلام لم يسمع من حذيفة ولا من نظرائه الذين نزلوا العراق، لأن حذيفة توفي بعد قتل عثمان رضي الله عنه بليال، وقد قال فيه “قال حذيفة”، فهذا يدل على إرساله]. والإرسال هنا معناه الانقطاع، أي إن السند من هذا الطريق ضعيف.
ـ ورواه ابن أبي شيبة والإمام أحمد وأبو داود والبزار وأبو عوانة في المستخرج والحاكم من طريقين عن سُبيع بن خالد به نحوه. [سُبيع بن خالد ذكره ابن حبان في الثقات مجرد ذكر]. فهذا الطريق لا يُعتمد عليه.
والخلاصة في حديث حذيفة أنه لم يصحَّ بالزيادة المذكورة.
ـ وأما الحديث الثاني بدون هذه الزيادة فرواه الإمام مالك في الموطأ والبخاري ومسلم وابن أبي شيبة وأحمد وابن أبي عاصم في السنة والنسائي وغيرهم من طرق عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده أنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في اليسر والعسر والمنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومه لائم.
ورواه أحمد وابن أبي عاصم من طريق الأعمش عن الوليد بن عبادة بن الصامت عن عبادة به نحوه.
ورواه البخاري ومسلم من طريق بسر بن سعيد عن جنادة بن أبي أمية أنه قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، فقال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعَنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله.
ورواه أحمد وابن أبي عاصم من طريق عمير بن هانئ، والبزارُ من طريق يحيى بن أبي كثير، كلاهما عن جنادة به نحوه.
ـ وأما حديث عبادة بتلك الزيادة فرواه ابن زنجويه في الأموال وابن أبي عاصم في السنة والشاشي في مسنده وابن حبان في صحيحه من طريق هشام بن عمار والهيثم بن خارجة عن مدرك بن أبي سعد الفزاري أنه قال: سمعت أبا النضر حيان قال: أخبرنا جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “يا عبادة، اسمعْ وأطعْ في عسرك ويسرك ومكرهك ومنشطك وأثرة على نفسك وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك إلا أن تكون معصيةٌ بواحا”. [مدرك بن أبي سعد ويقال ابن سعد الدمشقي وحيان أبو النضر الدمشقي القارئ صدوقان].
وقوله في هذا الحديث “وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك” زيادة غير ثابتة، لأن جماعة من الثقات رووه عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت بدونها، ورواياتهم في الصحيحين وعدد من مصادر السنة النبوية، كما تقدم.
ويبدو أن حيان أبا النضر رواه بهذه الزيادة المنكرة بعدما كبر، فقد روى الإمام أحمد في مسنده هذا الحديث عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعى عن عمير بن هانئ أنه حدثه عن جنادة بن أبى أمية عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ “عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك ولا تنازع الأمر أهله وإن رأيت أن لك”. ثم خرَّجه عقبه عن الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز عن حيان أبى النضر أنه سمع من جنادة يحدث عن عبادة بمثله. [سعيد بن عبد العزيز ولد سنة 90 ومات سنة 167، ومدرك بن أبي سعد الفزاري ذكره الذهبي فيمن مات بعد سنة 180].
والخلاصة في حديث عبادة بن الصامت أنه لم يصحَّ بالزيادة المذكورة.
ـ فخلاصة القول في هذين الحديثين أنهما لم يصحَّا بزيادة “وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمعْ وأطع”، وأن هذه الزيادة معلولة.
ـ تذييل هام:
قد يقول قائل: هل أشار مسلم إلى إدراج هذه الزيادة في حديث حذيفة رضي الله عنه؟:
فأقول وبالله التوفيق: للإمام مسلم رحمه الله طريقة في الإشارة إلى ترجيح ما يراه راجحا من الروايات، وقد أشار إلى رجحان الرواية التي لا تشتمل على تلك الزيادة.
فمن المعلوم أنه يضع روايات الحديث الواحد غالبا في موضع واحد، وأنه يبدأ في كل باب من أبواب العلم بالرواية السليمة وما يشبهها، وأنه يؤخر الرواية التي ربما تطرق إليها الخلل إلى آخر الباب، وقد بدأ في هذا الحديث بالرواية التي ليس فيها الزيادة، وختم الباب بالرواية المشتملة على تلك الزيادة.
فلله در ذلك الإمام، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
إشكال وجواب:
قد يقول بعض طلاب العلم إن أبا سلام الدمشقي سمع من عبادة بن الصامت الذي مات بالرملة سنة 34، فليس بمستبعد أن يكون سمع من حذيفة بن اليمان الذي مات سنة 36.
أقول:
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة أبي سلام الدمشقي: حدَّث عن حذيفة وثوبان وعلي وأبي ذر وعمرو بن عبسة، وكثير من ذلك مراسيل، كعادة الشاميين يرسلون عن الكبار.
وقال في سير أعلام النبلاء وفي تاريخ الإسلام: ذكر أبو مسهر أن أبا سلام سمع من عبادة بن الصامت ببيت المقدس.
وهذا الذي ذكره عن أبي مسهر رواه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه، ورواه عنه ابن عساكر في تاريخ دمشق، رواه أبو زرعة عن أبي مسهر عن عباد بن عباد الخواص عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن ابن محيريز عن أبي سلام أنه قال: كنت إذا قدمت بيت المقدس نزلت على عبادة بن الصامت.
[عباد بن عباد الخواص الرملي وثقه ابن معين والعجلي والبسوي، وذكره ابن حبان في الثقات، ثم ترجم له في المجروحين وقال: كان ممن غلب عليه التقشف والعبادة، حتى غَفَل عن الحفظ والإتقان، فكان يأتي بالشيء على حسب التوهم، حتى كثر المناكير في روايته على قلتها، فاستحق الترك]. فالظاهر أن الذين وثقوه إنما وثقوه حسب الظاهر من حاله، وهو الزهد والعبادة، ومنهم ابن حبان نفسه، ثم ضعفه ذلك التضعيف الشديد لمَا وقف عليه من روايته المناكير.
أبو سلام ممطور الحبشي مات بعد سنة 100 أو بعد 110، كما في تاريخ الإسلام للذهبي، ولم يذكروا في ترجمته أنه كان من المعمَّرين، وهذه سنوات وَفَيَات من وقفت على سنة وفاته من شيوخه: ثوبان مات سنة 54 نزيل الشام، عبد الرحمن بن شبل بعد سنة 50 نزيل الشام، 64، بعد 70، 78، 80، ثلاثة بعد 80، 86، اثنان بعد 90، 102، بعد 100، ووقع اختلاف بين الأئمة من علماء الحديث في ثبوت سماعه من ثوبان.
أقول: ثم إنه لو صح أنه سمع من عبادة الذي مات بالشام سنة 34 فهذا لا يعني أن يكون قد سمع من حذيفة بن اليمان الذي مات سنة 36 بالمدائن.
أقول: لا يشك من وقف على هذا أن أبا سلام لم يسمع من عبادة بن الصامت الذي مات بالشام سنة 34 ولا من حذيفة بن اليمان الذي مات سنة 36 بالمدائن، وقد مات هو بعد وفاتهما بقرابة سبعين عاما.
وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي، والحمد لله رب العالمين.
كتبت أصل هذا البحث قبل سنوات، وكتبت الجواب عن الإشكال حول سماع أبي سلَّام من عبادة بن الصامت وحذيفة بن اليمان في 2/ 11/ 1439، الموافق 14/ 7/ 2018، والحمد لله رب العالمين.
***