حوار حول حديث من يجدد لها دينها 2
الحوار الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
قبل البدء بالجواب فإني أشكر الإخوة الكرام جميعا حفظهم الله وبارك فيهم، راجيا أن لا يقول أحد عني كلمة دكتور، لأنني لا أحب هذه الكلمة الدخيلة، والأحب إلي أن يتحدث عني أي أخ كريم بالاسم الذي سماني به والدي رحمه الله.
ـ قال أحد الإخوة عني: “تضعيفه لشراحيل بن يزيد بحجة عدم الاكتفاء بتوثيق ابن حبان، ولم يأت بقول عالم قد صرح بتجريحه وتضعيفه”.
أقول: هذا النقل عني هو خطأ محض، فالذي قلته في هذا الراوي هو “لم أجد فيه قولا لأحد أئمة الجرح والتعديل سوى أن ذكره ابن حبان في الثقات، وهذا لا يكفي في التوثيق”. ولم أقل بتضعيفه، وبينهما فرق كبير، أي إنني لم أرَ أنه في مرتبة الثقة، ولم أضعفه ولم أقل عنه مجهول، فخلاصة حاله إذا لم يكن في مرتبة الثقة أن مروياته ليست في مرتبة القبول.
وهذا كما إذا وجد الباحث قولا في تضعيف راو فقال “هذا لا يكفي في التضعيف” ففهم منه بعضهم أن هذا توثيق وعزا لذلك الباحث أنه يوثقه!، وهذا غير صحيح.
لكن لو صرح عالم أو باحث بأن كل من لم أضعفه فهو عندي ثقة أو أن كل من لم أوثقه فهو عندي ضعيف فهذا يصح أن يُنسب إليه توثيق من لم يضعفه أو تضعيف من لم يوثقه.
قوله عني “لم يأت بقول عالم قد صرح بتجريحه وتضعيفه” مطالبة في غير محلها لأنني لم أقل بذلك.
وأقول: لا يجوز لأحد أن يقوِّل أحدا ما لم يقله.
ـ مسألة تساهل ابن حبان في كتابه الثقات قد يصعب على بعض الناس أن يعترف بها، فاسمع ما قال ابن حبان في مقدمة كتابه الثقات، قال: “العدل مَن لم يُعرف فيه الجرح، إذ الجرح ضد التعديل، فمن لم يُعلم بجرح فهو عدل إذا لم يتبين ضده، إذ لم يُكلف الناس معرفةَ ما غاب عنهم”. وهو يعني بالعدل هنا من اتصف بالعدالة والضبط واستحق أن يُدرج اسمه مع أسماء الثقات.
أقول: لا يختلف اثنان في أن الجرح ضد التعديل، لكن إذا كان لك أن تقول إن “العدل مَن لم يُعرف فيه الجرح” فلِخصمك أن يقول إن المجروح مَن لم يُعرف فيه العدالة، وإذا تعارض الاحتمالان فالقول بأحدهما دون الآخر بدون دليل هو تحكم، وهو مرفوض شرعا وعقلا، والكلام بدون دليل غير مقبول عند العقلاء.
إذا كان الإنسان يتصور أن الأصل في الناس في عصور الرواية هو التدين والصدق فهل يستطيع أن يقول إن الأصل فيهم هو الضبط؟!، هذا غير صحيح، وإلا لم يقل مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله وهو يشير إلى المسجد النبوي الشريف: “لقد أدركت سبعين ممن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين فما أخذت عنهم شيئًا، وإن أحدهم لو اؤْتُمِن على بيت مال لكان أمينا، إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن”.
ـ قد يظن بعض الناس أن ابن حبان أدلى بحجته حيث قال “إذ لم يُكلف الناس معرفةَ ما غاب عنهم”.
أقول: لم يُكلف الناس معرفةَ ما غاب عنهم، هذا صحيح، ولكنهم مكلفون بالبحث والتقصي وبذل الجهد لمعرفة ما إذا كان الراوي {ممن ترضون من الشهداء} أو لا، أما أن يقصّر الإنسان في البحث والتقصي وبذل الجهد ويقولَ لم يُكلف الناس معرفةَ ما غاب عنهم فهذا من العجز. وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يستعيذ من العجز والكسل.
ـ بعض الناس قد يرى أن كلامي غير مقبول، ولكلٍ وجهة، فاسمع قول ابن حجر رحمه الله إذ لعله يكون عندك مقبولا، فقد نقل في مقدمة لسان الميزان عن ابن حبان أنه قال: “الناس في أحوالهم على الصلاح والعدالة حتى يتبين منهم ما يوجب القدح”. وعلق على ذلك بقوله: “هذا الذي ذهب إليه ابن حبان من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه كان على العدالة إلى أن يتبين جرحه مذهب عجيب، والجمهور على خلافه، وهذا هو مسلك ابن حبان في كتاب الثقات الذي ألفه، فإنه يذكر خلقا ممن ينص عليهم أبو حاتم وغيره على أنهم مجهولون، وقد أفصح ابن حبان بقاعدته فقال: العدل من لم يُعرف فيه الجرح، إذ التجريح ضد التعديل، فمن لم يُجرح فهو عدل حتى يتبين جرحه، إذ لم يُكلف الناس ما غاب عنهم”.
وإذا وصل الحال بابن حبان أن يذكر في كتاب الثقات مجهول العين فمن باب أولى أن يذكر فيه مجهول الحال.
فهل قول ابن حجر مقبول عند الإخوة المحاورين؟!.
ـ الذهبي وابن حجر وأمثالهما من المتأخرين ليسوا من الأئمة المجتهدين في الجرح والتعديل كشعبة بن الحجاج ومالك بن أنس ويحيى بن سعيد القطان ويحيى بن معين وابن حنبل والبخاري وأبي حاتم وأبي زرعة، وهم من علماء الحديث المقلدين الذين يلخصون أقوال السابقين من غير تمحيص وسبر للروايات غالبا، فإذا وجدنا لأحدهم قولا وعندنا قرينة على أنه نتيجة بحث وتمحيص فهو مقبول.
من اختار لنفسه أن يكون مقلدا للمقلدين فله اختياره ولا أنازعه فيما رضيه لنفسه، أما ما أختاره لنفسي فهو تقليد الأئمة المجتهدين من المحدثين.
ـ لم أضعِّفْ شراحيل بن يزيد، ولم أقل كذلك إنه مجهول، فرَدُّ الأخ الباحث على من يقول إنه مجهول هو رد على من يتخيله الباحث في ذهنه، ولا أدري فعلا ما السبب الذي يدعو بعضَ الناس إلى أن يعيش في الخيالات.
ـ نقل الباحث عن الإمام البخاري أنه قال في التاريخ الكبير: “شراحيل بن يزيد المعافري سمع مسلم بن يسار عن أبي علقمة، روى عنه عبد الرحمن بن شريح وسعيد بن أبي أيوب”. وعلق على ذلك بقوله: “فسكوته عن جرحه وتعديله لا يعني أنه مجهول، بل إن إقراره بالسماع من مسلم بن يسار ثم روايته له في الصحيح فهذا إقرار ضمني بتوثيقه”. وأضاف قائلا: “وكذلك رواية الإمام مسلم له في صحيحه إقرار له بتوثيقه إقرارا ضمنيا”.
أقول: دعوى أن هذا الراوي روى له الإمام البخاري أو الإمام مسلم في الصحيح هي دعوى باطلة مخالفة للواقع، لأن البخاري رحمه الله لم يرو له حديثا واحدا في صحيحه، وإنما روى له رواية واحدة في الجزء المسمى بخلق أفعال العباد، وهذا غير الجامع الصحيح ولا يأخذ حكمه، ولأن مسلما رحمه الله لم يرو له حديثا واحدا في صحيحه، وإنما روى له رواية واحدة في مقدمة الصحيح، والمقدمة غير الجامع الصحيح ولا تأخذ حكمه، ولهذا وضع أصحاب الكتب المصنفة في الرواة لمن روى له مسلم في مقدمة كتابه رمزا مختلفا عمن روى له في صلب الكتاب.
ولو رجع الأخ الباحث للرموز التي تضعها كتب أحوال الرواة مع اسم الراوي كتهذيب الكمال للمزي والكاشف للذهبي وتقريب التهذيب لابن حجر وغيرها لوجد بنفسه أن البخاري ومسلما لم يرويا لهذا الراوي في الجامع الصحيح.
قال المزي رحمه الله في مقدمة كتابه تهذيب الكمال: “علامة ما أخرجه البخاري في الصحيح خ، وعلامة ما أخرجه في كتاب أفعال العباد عخ، وعلامة ما أخرجه مسلم في الصحيح م، وعلامة ما أخرجه في مقدمة كتابه مق”. ومثله في تهذيب التهذيب وتقريب التهذيب لابن حجر.
ـ قال أحد الإخوة: “روى أبو داود الحديث من طريقين: الأول من طريق شراحيل بن يزيد عن أبي علقمة عن أبي هريرة، ثم ذكر أبو داود أنه رُوي من طريق عبد الرحمن بن شريح ولم يجزْ به شراحيل بن يزيد”.
أقول: لا يُقال عن هذا الحديث له طريقان، لأن كِلا الطريقين عن شراحيل بن يزيد يمران به، أي تفردَ به شراحيل، والتعدد نقيض التفرد، فلا يجتمعان.
لكن نقول له طريقان عن شراحيل، ولا يُقال له طريقان بإطلاق.
ـ ثم قال الأخ الكريم: “الإمام أبو داود تكلم عن الطريق الثاني وضعَّفه، لكنه سكت عن الأول”.
أقول: بل الإمام أبو داود تكلم عن هذا الحديث الذي ليس له إلا طريق واحد، مشيرا إلى أن الراوي الأول عن شراحيل روايته موصولة مرفوعة، وأن الراوي الثاني عن شراحيل روايته لم تتجاوز شراحيل، وإذا لم تتجاوزه فهي موقوفة عليه، وهي بذلك تعل رواية الراوي الأول عنه. [انظر: النوع الأول في إعلال الطريق المرفوع بالطريق الموقوف من منهج الإمام البخاري في كتابي منهج الإمامين البخاري ومسلم في إعلال المرويات الحديثية].
أنصح من لم يقرأ في كتب العلل التي تضمنت كلام الأئمة من علماء الحديث في إعلال المرويات قراءة وعْي وتمحيص فالأولى أن لا يتكلم في مسائل الإعلال.
ولو سألني الإخوة الكرام أن أوضح لهم جانبا من علم علل الأسانيد لأوضحت ذلك بمثال إن شاء الله.
ـ قول الراوي “عن أبي هريرة فيما أعلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم” فيه شيء من التردد في الرواية مع تغليب الظن أنها هي كذلك، ولو لم يقع للراوي شيء من التردد لمَا قال هذه الكلمة، فنحن نجد في الأحاديث المروية أن الراوي لا يقول “فيما أعلم” حيث لا تردد عنده.
وكلمة “فيما أعلم” ثابتة في ثلاثة من المصادر التي روت هذا الحديث، فلا يضرها أنها لم تُذكر في المعجم الأوسط للطبراني ومستدرك الحاكم.
ـ ثم قال الأخ الكريم: “قد صححه الحاكم فيما ذكر المناوي، وصححه العراقي مرفوعا، ورمز السيوطي إلى صحته، وأفاد بنحو هذا الإمام السخاوي”.
أقول: تصحيح الحاكم رحمه الله ليس بمعتمد، وكذا تصحيح العلماء المتأخرين المقلدين، فهم لا يُقارنون بالأئمة المتقدمين، وشتان بينهما.
ولو سألني الإخوة الكرام أن أوضح لهم جانبا من الفرق بين المتقدمين والمتأخرين في العلم بالحديث الشريف لأوضحت ذلك بمثال إن شاء الله.
ـ ثم قال الأخ الكريم: “قوله أن شراحيل بن يزيد لم يوثقه غير ابن حبان، وقد أفدتُ أن الحافظين ابن حجر والذهبي قالا بتوثيقه، وهو من رجال الصحيح، وهذا يكفي في توثيق الرجل، لأنه لم يقل أحد بتضعيفه، فلو ضُعف من طرف آخر لقلنا يُنظر في توثيق ابن حبان، أمَا وقد وثقه ابن حبان وأقره ابن حجر والذهبي إضافة إلى أنه له ذكر عند البخاري ومسلم فهذه قرائن كافية في توثيق الرجل”.
أقول: هذا الراوي لم يوثقه ابن حبان، ولكن ذكره في الثقات مجرد ذكر، والذي ذكره في الثقات أقل رتبة ممن ذكره ونص على توثيقه.
وقد بيَّض له البخاري وابن أبي حاتم وابن يونس في تاريخ مصر والذهبي في تاريخ الإسلام، أي لم يذكروا فيه جرحا ولا تعديلا، وذكره ابن حبان في الثقات، ووثقه الذهبي في الكاشف، وقال ابن حجر في تقريب التهذيب صدوق. ووهم من قال وثقه ابن حجر.
الذهبي وابن حجر وأمثالهما من المتأخرين ليسوا من أئمة الجرح والتعديل.
ـ لقد وهم الأخ الباحث وهَما فاحشا إذ قال عن شراحيل بن يزيد “هو من رجال الصحيح”، وهذه الكلمة تعني أن البخاري أو مسلما روى له حديثا من روايته في الجامع الصحيح، فهذا الراوي ليست له رواية لا في صحيح البخاري ولا في صحيح مسلم، فلا يصح أن يُقال عنه “هو من رجال الصحيح”.
ـ ثم قال الأخ الكريم: “محمد بن أيوب بن يحيى بن حبيب هو رجل معروف، وصوابه محمد بن أيوب بن حبيب بن يحيى”.
أقول: شكر الله لك، وجزاك الله خيرا.
وهذا الرجل وثقه مسلمة بن قاسم، ومسلمة نفسه مجروح، قال ابن الفرضي عنه في تاريخ علماء الأندلس: سمعت من ينسُبه إلى الكذب، وسألت محمد بن أحمد بن يحيى القاضي عنه فقال لي: لم يكن كذابا، ولكن كان ضعيف العقل. وضعفه الذهبي في المغني وفي ميزان الاعتدال، وقال في سير أعلام النبلاء: لم يكن بثقة.
هل الذي يقبل توثيق الذهبي لشراحيل بن يزيد يقبل تضعيفه لمسلمة بن قاسم وقولَه فيه ليس بثقة؟!. الله أعلم.
أما أنا فلا أقبل توثيقه هناك لأنه بناه على ما يبدو على ظاهر العدالة، وأقبلُ تضعيفه هنا لأنه بناه على ما يبدو على سبر أقواله التي قالها في الجرح والتعديل، ومن ذلك أنه قال في ميزان الاعتدال: “محمد بن إبراهيم بن المنذر، الحافظ العلامة أبو بكر النيسابوري، صاحب التصانيف، عدل صادق فيما علمتُ، إلا ما قال فيه مسلمة بن قاسم الأندلسي كان لا يحسن الحديث، ونسَب إلى العُقيلي أنه كان يحمل عليه وينسُبه إلى الكذب، ولا عبرة بقول مسلمة”.
وبعد الوقوف على حال هذا الراوي فإن القصة المنسوبة للإمام أحمد في جعْله الإمامَ الشافعي ثانيَ المجددين لها إسنادان، قلت في الحوار السابق أحدهما تالف والآخر ضعيف، وأقول الآن راجعا عن القول السابق: بل أحدهما فيه نظر والثاني ضعيف.
ولو صحت هذه الحكاية عن الإمام أحمد فهذا لا يعني أنه يصحح الحديث الوارد فيها، وهو حديث “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها”.
ـ من القرائن التي تدل على أن الإمام أحمد لا يقول بصحة هذا الحديث كونه لم يروه في مسنده، وقد ذكر أبو موسى الأصبهاني في كتابه خصائص المسند عنه أنه قال: “إن هذا الكتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمئة وخمسين ألفا، فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجعوا إليه، فإن كان فيه وإلا فليس بحجة”. وهذا الحديث ليس فيه.
ـ الإسناد الذي فيه راو مجهول يراه بعض الناس ضعيفا فقط أو ضعيفا قابلا للانجبار، وقد يكون هذا صحيحا في بعض الحالات، لكنه في كثير منها ليس هو كذلك، فلا بد من توخي الحذر الشديد والرجوع إلى القرائن.
ولو سألني الإخوة الكرام أن أوضح لهم جانبا من خطورة روايات المجاهيل لأوضحت ذلك بمثال إن شاء الله.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 5/ 11/ 1439، الموافق 18/ 7/ 2018، والحمد لله رب العالمين.
***