بدعة الإرجاء والمرجئة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الغر الميامين، والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فقد كثر الكلام عن الإرجاء والمرجئة في هذه الأوقات الصعبة في بلاد الشام، حيث يريد كثير من الناس أن يستبيحوا حرمات المسلمين بالقتل والجلد بدعوى أن هؤلاء ليسوا على السنة! وأنهم مرجئة!.
من بدع الاعتقاد التي ظهرت في المجتمع الإسلامي في عصر السلف منذ وقت مبكر بدعة المرجئة، وهم فرقة من المسلمين الذين ابتدعوا في العقيدة، وهي من شر الفرق، وبدأ ظهورها في زمن التابعين، فأنكر عليها السلف والخلف أشد الإنكار.
قال ابن تيمية رحمه الله: “قال قتادة: إنما حدث الإرجاء بعد فتنة ابن الأشعث”. [مجموع الفتاوى: 7/ 395]. أي بعد قيام عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وجمعٍ كبير من سادات التابعين رحمهم الله على الحجاج بن يوسف الثقفي سنة 82.
تدل النصوص المنقولة في ذم المرجئة على أنهم تمسكوا بنصوص الوعد وعطلوا نصوص الوعيد، وفسروا الإيمان المنجي من عذاب الله ـ تبعا لذلك ـ بأنه إيمان القلب وإن لم يكن معه عمل!، كأنهم يرون فعل المأمورات واجتناب المحظورات نافلة من النوافل!.
وهذه بعض النصوص التي تتبين فيها حقيقة بدعتهم ووجهُ إنكار الأئمة عليهم:
ـ روى ابن بطة في الإبانة الكبرى واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة من طريقين عن أحمد ابن حنبل رحمه الله أنه قال: حدثنا خالد بن حيان قال حدثنا معقل بن عبيد الله العبسي قال: قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء، فعرضه، فنفر منه أصحابنا نفورا شديدا، فحججتُ، فدخلتُ على عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابي، فأخبرته أن قومًا قِبَلنا قد أحدثوا وتكلموا وقالوا إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، فقال: “أوَليس الله عز وجل يقول {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة}؟!، فالصلاة والزكاة من الدين”. فقلت: إنهم يقولون ليس في الإيمان زيادة!. فقال: “أوَليس قد قال الله فيما أنزل {ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم}؟!”. قال: ثم قدمتُ المدينة فجلست إلى نافع، فذكرت له قولهم، قلت إنهم يقولون: نحن نقر بأن الصلاة فريضة ولا نصلي، وأن الخمر حرام ونحن نشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن نفعل ذلك. فنتر يده من يدي وقال: “من فعل هذا فهو كافر”. [الإبانة الكبرى لابن بطة: 2/ 808. شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي: 5/ 1024]. هذا وقد نقل ابن تيمية هذا النص عن ابن حنبل مع الإقرار.
[خالد بن حيان الرقي صدوق ثقة فيه لين مات سنة 191. معقل بن عبيد الله العبسي حراني صدوق ثقة فيه لين مات سنة 166]. فالسند لا بأس به. وعطاء بن أبي رباح من سادات التابعين بمكة، مات سنة 114، ونافع هو مولى عبد الله بن عمر تابعي ثقة مات سنة 119 تقريبا].
قف مليا عند قوله “قالوا إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين“، فإنهم لم يقولوا إن الصلاة والزكاة ليستا من الإيمان وهما من الإسلام بل من أهم أركان الإسلام، فهما من الدين.
ـ قد يقول قائل: إن نافعا كفرهم في هذا النص المنقول فهل هم كفار؟!. أقول: من كان عنده الحد الأدنى من الإيمان ولم يعمل حسنة قط فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يخرجه من دائرة الإيمان، ولكن الحد الأدنى من الإيمان يقتضي أن يكون في القلب تعظيم لله وخضوع لأمره وإن لم يتحقق العمل في الواقع، والذين كفـَّرهم نافع رحمه الله يظهر من طريقة جوابهم أنهم مستكبرون على الله تعالى معاندون له، وأنه ليس في قلوبهم تعظيم له ولا خضوع، فلهذا كفرهم.
ـ روى إسحاق بن راهويه في مسنده عن العلاء بن عبد الجبار عن نافع بن عمر الجمحي عن ابن أبي مليكة أنه قال: يقولون إيمان فلان كإيمان فلان!، أترون إيمان فهدان مثل إيمان جبريل؟!. وكان فهدان رجلا متهما بالشراب. [مسند إسحاق بن راهويه: 3/ 669]. [العلاء بن عبد الجبار صدوق. نافع بن عمر الجمحي ثقة ثبت]. وابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة مكي من ثقات التابعين وخيارهم، مات سنة 117.
ـ مما يدل على استهانة المرجئة بأمر المعاصي أن التابعي الثقة أبا وائلٍ شقيقَ بن سلمة المتوفى سنة 83 رد عليهم بحديث “سباب المؤمن فسق وقتاله كفر”، ولو لم يعلم استهانتهم بذلك لما رد عليهم بهذا الحديث، وهو ما رواه أبو داود الطيالسي والبخاري في صحيحه وأبو نعيم في المستخرج على صحيح مسلم عن شعبة عن زبيد اليامي أنه أتى أبا وائلٍ شقيقَ بن سلمة لما ظهرت المرجئة يشكو له الحال، فروى له أبو وائل عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “سباب المؤمن فسق وقتاله كفر”. [مسند الطيالسي: 1/ 200. صحيح البخاري: 1/ 19. المستخرج على صحيح مسلم لأبي نعيم: 1/ 151].
قال ابن حجر في فتح الباري: وعُرف من هذا مطابقة جواب أبي وائل للسؤال عنهم، كأنه قال كيف تكون مقالتهم حقا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟!. [فتح الباري لابن حجر: 1/ 112].
ـ روى الطبري في تهذيب الآثار من طريق سلام بن أبي مطيع أنه قال: سمعت أيوب السختياني وعنده رجل من المرجئة، فجعل الرجل يقول “إنما هو الكفر والإيمان” وأيوب ساكت، فأقبل عليه أيوب فقال: “أرأيتَ قول الله تعالى {وآخرون مُرْجَون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم} أمؤمنون أم كفار؟!”. فسكت الرجل، فقال له أيوب: “اذهب فاقرأ القرآن، فقلَّ آية في القرآن فيها ذكر النفاق إلا أخافها على نفسي”. [مسند ابن عباس من تهذيب الآثار للطبري: 2/ 677]. [سلام بن أبي مطيع بصري ثقة فيه لين].
يدل هذا النص على أهم مداخل الشبهة إلى فكر المرجئة، وهو توهمهم أن الاعتقاد هو أحد قسمين على معنى التمام والكمال!، فالمرء عندهم إما مؤمن تام الإيمان أو كافر تام الكفر، وحيث إن المؤمن المرتكب للمعاصي ليس كافرا تام الكفر فهو ـ عندهم ـ مؤمن تام الإيمان!. وهم بهذا على النقيض من قول الخوارج الذين يرون أن المرء إما مؤمن تام الإيمان أو كافر تام الكفر، لكن حيث إن المؤمن المرتكب للمعاصي ليس مؤمنا تام الإيمان فهو ـ عندهم ـ كافر تام الكفر!.
وقد أشار أيوب بن أبي تميمة السختياني رحمه الله في جوابه هذا إلى قولِ الله تعالى {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم}، وقولِه تعالى {وآخرون مُرْجَون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم}، وسأل أيوبُ ذلك القائلَ عن هؤلاء أمؤمنون هم أم كفار؟!، فلم يجد الرجل أمامه سوى السكوت، حيث إن في تلك الآيات القرآنية الكريمة النصَّ الواضحَ البيِّن على أن الذين اعترفوا بذنوبهم وقد خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا هم ممن يُرجى أن يتوب الله عليهم، ولو كانوا كافرين لما دخلوا تحت المشيئة.
ـ قال الخلال في كتاب السنة: قال عبد الملك: قلت لأبي عبد الله أحمد ابن حنبل: فإذا كان المرجئة يقولون إن الإسلام هو القول؟!. فقال: “هم يصيِّرون هذا كله واحدا، ويجعلونه مسلما ومؤمنا شيئا واحدا على إيمان جبريل ومستكملَ الإيمان”. قلت: فمن ههنا حجتنا عليهم؟. قال: نعم. [السنة للخلال: 3/ 605]. [عبد الملك بن عبد الحميد بن مهران الميموني الرقي ثقة مات سنة 274]. ورواه ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة من طريق الخلال به.
يظهر من هذا النص أن اعتراض الإمام أحمد رحمه الله على المرجئة هو لأنهم يصيِّرون أمر الدين كله واحدا ويجعلون المصدق بالدين مسلما ومؤمنا وعلى إيمان جبريل ومستكملَ الإيمان.
ـ قال إسحاق بن راهويه في مسنده: قال شيبان لابن المبارك: يا أبا عبد الرحمن، ما تقول فيمن يزني ويشرب الخمر ونحو هذا أمؤمن هو؟!. فقال ابن المبارك: لا أخرجه من الإيمان. فقال: على كِبَر السن صرتَ مرجئا؟!. فقال له ابن المبارك: إن المرجئة لا تقبلني، أنا أقول الإيمان يزيد والمرجئة لا تقول ذلك، والمرجئة تقول حسناتنا متقبلة وأنا لا أعلم تُقبلت مني حسنة؟!.
ورواه الخطابي في كتاب الغنية عن الكلام وأهله من طريق إسحاق بن راهويه أنه قال: قدِم ابن المبارك الري، فقام إليه رجل من العبَّاد، الظن أنه يذهب مذهب الخوارج، فقال له: يا أبا عبد الرحمن ما تقول فيمن يزني ويسرق ويشرب الخمر؟. فقال: لا أخرجه من الإيمان. فقال: يا أبا عبد الرحمن، على كِبَر السن صرتَ مرجئا؟!. فقال: لا تقبلـُني المرجئة، المرجئة تقول حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة، ولو علمتُ أني قـُبلتْ مني حسنة لشهدتُ أني في الجنة. [مسند إسحاق بن راهويه: 3/ 669. الغنية عن الكلام وأهله للخطابي: ص 47].
عبد الله بن المبارك هو شيخ الإسلام، عالِم زمانه، وأمير الأتقياء في وقته، هكذا وصفه الذهبي في سير أعلام النبلاء، ومات رحمه الله سنة 181.
قف عند قوله “المرجئة تقول حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة”، فهذا تلخيص لحقيقة قول المرجئة.
ـ قال ابن البنا الحنبلي الحسن بن أحمد المتوفى سنة 471: “أما المرجئة فقال أحمد: هم الذين يقولون من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وفعل سائر المعاصي لم يدخل النار أصلا”. [المختار في أصول السنة لابن البنا الحنبلي: ص 100، وفي الطبعة الأخرى: ص 31].
ـ قال ابن خزيمة المتوفى سنة 311 في كتاب التوحيد: “الغالية من المرجئة التي تزعم أن النار حُرمت على من قال لا إله إلا الله”. وقال: “المرجئة توهمت أن مرتكب الذنوب والخطايا كامل الإيمان”. [التوحيد لابن خزيمة: 2/ 770، 857].
ـ روى ابن شاهين في شرح مذاهب أهل السنة عن سفيان الثوري أنه قال: اتقوا هذه الأهواء المضلة. قيل له: بين لنا رحمك الله. فقال: “أما المرجئة فيقولون: الإيمان كلام بلا عمل!، من قال أشهد أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمدا عبده ورسوله فهو مؤمنٌ مستكمل الإيمان على إيمان جبريل والملائكة وإن قتـَل كذا وكذا!، مؤمنٌ وإن ترك الغسل من الجنابة وإن ترك الصلاة!”. فهو ينكر عليهم قولهم “مؤمنٌ مستكمل الإيمان”!. [شرح مذاهب أهل السنة لابن شاهين: ص 27].
ـ قال ابن الجوزي في كتاب تلبيس إبليس: [قالت المرجئة إن من أقر بالشهادتين وأتى بكل المعاصي لم يدخل النار أصلا، وخالفوا الأحاديث الصحاح في إخراج الموحدين من النار، قال ابن عَقيل: “ما أشْبهَ أن يكون واضعُ الإرجاء زنديقا، فإن صلاح العالم بإثبات الوعيد واعتقاد الجزاء، فالمرجئة ـ لمَّا لم يمْكنهم جحْدُ الصانع لما فيه من نفور الناس ومخالفة العقل ـ أسقطوا فائدة الإثبات، وهي الخشية والمراقبة، وهدموا سياسة الشرع، فهم شر طائفة على الإسلام”]. وقال ابن الجوزي: “وفي ذلك الزمان حدثت فتنة المرجئة حين قالوا لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة”. [تلبيس إبليس لابن الجوزي: ص 76، 87].
ابن عقيل هو أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل، الإمام العلامة البحر شيخ الحنابلة، هكذا وصفه الذهبي في سير أعلام النبلاء، ومات رحمه الله سنة 513.
ـ قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: [فلهذا عَظـُم القول في ذم الإرجاء، حتى قال إبراهيم النخعي: “لفتنتـُهم أخوفُ على هذه الأمة من فتنة الأزارقة”. وقال الزهري: “ما ابتـُدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من الإرجاء”. وقال الأوزاعي: “كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان ليس شيء من الأهواء أخوفَ عندهم على الأمة من الإرجاء”. وقال شريك القاضي: “هم أخبث قوم، حسبك بالرافضة خبثا، ولكن المرجئة يكذبون على الله”. وقال سفيان الثوري: “تركتِ المرجئة الإسلام أرق من ثوبٍ سابـِري”]. والسابـِريّ ضرْب رقيق من الثياب يُعمل بِسابور، موضعٍ بفارس. [مجموع الفتاوى: 7/ 394 ـ 395].
وقال ابن تيمية: [قالت المرجئة على اختلاف فرقهم “لا تذهِب الكبائرُ وترْكُ الواجبات الظاهرة شيئا من الإيمان، إذ لو ذهب شيء منه لم يبق منه شيء، فيكون شيئا واحدا يستوي فيه البر والفاجر”]. [مجموع الفتاوى: 7/ 223].
وقال: “أهل السنة في باب الأسماء والأحكام والوعد الوعيد وسط: بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار ويخرجونهم من الإيمان بالكلية ويكَذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وبين المرجئة الذين يقولون إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء والأعمالُ الصالحة ليست من الدين والإيمانِ ويكَذبون بالوعيد والعقاب بالكلية”. [مجموع الفتاوى: 3/ 374].
وقال: “المرجئة غلطوا في ثلاثة أوجه: أحدها: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون العملِ الذي في القلب كمحبة الله وخشيته وخوفه والتوكلِ عليه والشوق إلى لقائه، والثاني: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون العمل الظاهر، وهذا يقول به جميع المرجئة، والثالث: قولهم كل من كفـَّره الشارع فإنما كفره لانتفاء تصديق القلب بالرب تبارك وتعالى”. [مجموع الفتاوى: 3/ 363 ـ 364].
ـ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري والمازَري في كتابه المعْلم بفوائد صحيح مسلم والقاضي أبو بكر بن العربي في كتابه القبس في شرح موطأ مالك بن أنس: المرجئة هم طائفة من المبتدعة تقول لا يضر مع الإيمان معصية. [فتح الباري لابن حجر: 1/ 187. المعْلم بفوائد صحيح مسلم للمازري: 1/ 289. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس لأبي بكر بن العربي: 1/ 897].
* ـ الشبهة التي جعلت بعض الناس يدخِلون مَن ليسوا من المرجئة في اسم المرجئة:
ـ المرجئة يقولون بأن المؤمن المرتكب للمعاصي مؤمن تام الإيمان، بمعنى أن فعل الطاعات وترك المعاصي هو نافلة من النوافل، ولذا فقد رد عليهم أئمة أهل العلم وبينوا ضلالهم، وبينوا أن المؤمن المرتكب للمعاصي هو مؤمن ناقص الإيمان، وكان مما تمخضت عنه حركة الابتداع هذه والرد عليها ـ عند بعض المتحمسين للرد ـ أن من قال بأن العمل ليس جزءا من الإيمان فهو مرجئ!!. وهذا خطأ واضح.
وربما يستندون لبعض الأقوال المروية عن بعض العلماء، ومن ذلك ما رواه الطبري في تهذيب الآثار عن ابن عيينة والفضيل بن عياض من أن المرجئة يقولون إن الإيمان قول بلا عمل، وقد روى ابن أبي يعلى كذلك في طبقات الحنابلة ـ بسند فيه مجاهيل ـ عن أحمد ابن حنبل أنه قال: من زعم أن الإيمان قول بلا عمل فهو مرجئ. [مسند ابن عباس من تهذيب الآثار للطبري: 2/ 659، 660].
وقال ابن تيمية: “السلف اشتد نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الإيمان”. [مجموع الفتاوى: 7/ 555].
أقول: الذي أخرجَ العمل من دائرة الدين هو مرجئ، هذا مقطوع به، وآيات القرآن الكريم ونصوص السنة النبوية طافحة بوجوب امتثال الأوامر واجتناب المناهي مع التحذير من عقوبة العصيان، والذي قال بأن العمل هو ركن أساسي في الدين وهو من الإسلام ومن ثمرات الإيمان وإن لم يكن جزءا منه: فهذا ليس بمرجئ، والخلاف هنا في التسمية، إما أن نقول إن العمل جزء من الإسلام أو من الإيمان، ولكن القول بأن العمل جزء من الإسلام لا من الإيمان هو ما جاء في جواب النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام عندما جاء ليعلم الناس دينهم.
أما من تمسك بقول ابن تيمية “السلف اشتد نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الإيمان” على ظاهره فهذا خطأ كبير، فإن السلف لم يشتدَّ نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الإيمان، وإنما اشتد نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الدين، فتيقظوا يا من تحرِصون على اتباع السلف الصالح.
* ـ إذا عُلم هذا فإني لا أعلم أن أحدا من الأشاعرة أو الماتريدية يقول إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، أو إن مرتكب الذنوب والخطايا كاملُ الإيمان أو إن إيمانه هذا ينجيه من عذاب الله، ولا أعلم أن أحدا منهم يكذب بالوعيد والعقاب الذي أعده الله للفساق، أو يقول إن حسناتِنا مقبولةٌ وسيئاتِنا مغفورة، ولا أعلم أن أحدا منهم يقول من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وفعل سائر المعاصي لم يدخل النار أصلا، فمن قال عن الأشاعرة أو الماتريدية إنهم مرجئة ـ بالمعنى البدعي ـ فقد قال قولا باطلا واحتمل بهتانا وإثما مبينا.
فالحذرَ الحذرَ ـ أيها المؤمنون ـ من اتهام مَن هم بريؤون من بدعة الإرجاء بأنهم مرجئة، فمن اتهم أخاه بالابتداع وليس هو كذلك فإن وزر الاتهام راجع إليه.
نسأل الله تعالى أن يحفظنا وسائرَ المسلمين من البدع والأهواء المضلة المخالفة للهدْي النبوي الكريم، وأن يمن علينا بصدق الاتباع للكتاب والسنة، وأن يتوفانا على الإيمان الكامل بلا محنة.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 6/ 10/ 1435، سوى بعض التعديلات اليسيرة، والحمد لله رب العالمين.