حديث “إن أُخِّرَ هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة”
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وبعد، فحديث “إن أُخِّرَ هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة” رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما مع الإشارة ـ على طريقتهما ـ إلى الخلل الذي وقع في لفظه، ويقول العلماء المتأخرون في مثل هذا رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما ويسكتون عما وراء ذلك، ويقولون ـ غالبا ـ إن كل الألفاظ المروية في الصحيحين صحيحة!، وهذا مبْلغهم من العلم، ونحن اليوم نجني نتائج التقصير في دراسة أسانيد تلك الأحاديث المروية عن رسولنا صلى الله عليه وسلم.
ويرى كل ذي عينين أن هذه الرواية تخالف الواقع المُشاهَد، فقد عاش ذلك الغلام ومات ومات بعده أجيال وأجيال ولم تقم الساعة حتى الآن.
تجرأ الطاعنون ـ بسبب ذلك ـ وقالوا إن هذا الحديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا إن الشيخين مقصران في إيراد أمثال هذه الروايات الموضوعة في الصحيحين.
ـ أقول مستعينا بالله تعالى: كثيرا ما يروي الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى الحديث في الصحيحين من عدة طرق بألفاظ متعددة، وقد تكون متخالفة، ومن المعلوم البيِّن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل تلك الألفاظ المتعددة كلها، وإنما قال واحدا وجاء سائرها من باب الرواية بالمعنى، وقد يكون اللفظ المروي بالمعنى هو على المعنى ذاته، وربما تغير أو انقلب فيه المعنى، وهذا يعني أنه ليست كل رواية في الصحيحين صحيحة حتى وإن كان أصل الحديث صحيحا.
والظاهر أن الشيخين عندما يرويان الحديث بعدة روايات فإنهما لا يرَيان صحتـَه بكل الألفاظ التي رُوي بها، وأنهما يعلمان أن اللفظ في إحدى الروايات هو الصحيح وأن ما عداه من الألفاظ مروي بالمعنى وإن كان مما تغير فيه المعنى.
* حديث “إن أُخِّرَ هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة”:
هذه الرواية أصلها صحيح، ولكنها ليست صحيحة بهذا اللفظ وبيان ذلك فيما يلي:
في هذه المسألة حديثان ـ من حيث الظاهر ـ مرويان عن عائشة أم المؤمنين وأنس بن مالك رضي الله عنهما:
ـ فأما حديث عائشة فرواه البخاري ومسلم وابن أبي شيبة في المصنف وابن أبي داود في مسند عائشة من طريق عبدة بن سليمان وحماد بن أسامة عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رجال من الأعراب جفاة يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه متى الساعة، فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول: “إن يعشْ هذا لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم”.
وهذا الحديث يخبرهم أنه إن يعشْ هذا الغلام فإنه لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم أنتم، وهذا قيام الساعة الذي ينبغي للإنسان العاقل أن يهتم به، وأما قيام الساعة الذي يعني انقضاء الدنيا فمما لا ينبغي أن يشغل المرء به نفسَه، فهذا الحديث صحيح سندا ومتنا.
ـ وأما حديث أنس فرواه البخاري ومسلم وابن حنبل من طريق قتادة عن أنس أن رجلا من أهل البادية أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله متى الساعة قائمة؟. فمر غلام للمغيرة وكان من أقراني فقال: “إن أُخِّرَ هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة”. ورواه مسلم وابن حنبل وأبو يعلى وأبو نعيم في معرفة الصحابة من أربعة طرق أخرى عن أنس به نحوه، ورواه مسلم وابن حنبل وعبد بن حُميد وابن حبان من طريق ثابت البُناني عن أنس، ولفظه “إن يعشْ هذا الغلام فعسى أن لا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة”.
ـ الظاهر من حديثي عائشة وأنس أنهما يتحدثان عن قصة واحدة، فينبغي أن يكون اللفظ النبوي فيهما واحدا، خلافا لمن يجعل مثل هذا حديثين في واقعتين.
وحيث اختلف فيهما اللفظان اختلافا بعيدا فلا بد من البحث عن ترجيح أحدهما، ورواية عائشة رضي الله عنها هنا هي الأقرب للصواب، لأنها مشتملة على أمر فيه شيء من الخفاء، وهو جواب من سألوا عن قيام الساعة بما يدل على قيام ساعتهم هم، ومن المستبعد أن يكون أصل الحديث فيه الظهور التام فينقله أحد الرواة إلى ما فيه شيء من الخفاء من باب الرواية بالمعنى، بخلاف العكس.
وإذا كان ذلك كذلك فحديث أنس منقول بالمعنى، أي إن أنسا لم يضبط اللفظ، ولعله نسي لطول عهده به.
وإنما كان الحمل في الرواية بالمعنى هنا على أنس نفسه لأنه رواه عنه بذلك جماعة من الثقات، فتبين أن الحمل فيها عليه وليس على من دونه.
ـ هذا وقد نبه العلماء السابقون على أن حديث أنس لا يصح أن يُفهم على ظاهره، وتأولوه:
قال القاضي عياض فيما نقله عنه النووي في شرح صحيح مسلم: هذه الروايات كلها محمولة على معنى الأول، والمراد بساعتكم موتهم، ومعناه يموت ذلك القرن أو أولئك المخاطبون.
وقال الكرماني فيما نقله عنه العيني في عمدة القاري في توجيه هذا الخبر: هذا تمثيل لقرب الساعة ولم يرد منه حقيقته.
وقال ابن كثير في كتاب التفسير: وهذا الإطلاق في هذه الروايات محمول على التقييد ب”ساعتكم” في حديث عائشة رضي الله عنها.
ـ وههنا أمر هام ينبغي لفت النظر إليه:
فقد روى الإمام البخاري رحمه الله حديث عائشة في صحيحه في كتاب الرقاق، في باب سكرات الموت، وروى حديث أنس في كتاب الأدب، في باب ما جاء في قول الرجل ويلك.
الحديث عن قيام الساعة له ارتباط واضح بكتاب الرقاق، حيث إن التنبه لقرب قيام الساعة من مرققات القلوب.
لكن ما مناسبة الحديث لباب ما جاء في قول الرجل ويلك من كتاب الأدب؟!، وجه المناسبة هو لفظة وردت في الحديث، حيث إن نصه بتمامه عنده هو: عن أنس أن رجلا من أهل البادية أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله متى الساعة قائمة؟. قال: “ويلك وما أعددت لها؟”. قال: ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله. قال: “إنك مع من أحببت”. فقلنا: ونحن كذلك؟. قال: “نعم”. ففرحنا يومئذ فرحا شديدا، فمر غلام للمغيرة وكان من أقراني، فقال: “إن أخر هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة”.
أشار البخاري بهذا التوزيع على الأبواب إلى ثبوت اللفظ الأول المروي عن عائشة وأنه هو الصحيح، لأنه رواه في الموضع المناسب له، وإلى عدم ثبوت اللفظ الثاني المروي عن أنس وأنه ليس بصحيح، لأنه رواه في الموضع غيرِ المناسب له، وهذا ملحظ قد يغفـُل عنه كثيرون.
أما الإمام مسلم رحمه الله فإنه يروي في صحيحه الروايات المتعددة للحديث في موضع واحد، ويقدم الأسلم من الروايات على ما وقع فيه خلل، ونجده هنا قدم حديث عائشة على حديث أنس، وقد أشار بهذا الترتيب إلى ثبوت اللفظ الأول المروي عن عائشة وأنه هو الصحيح، لأنه قدمه على غيره، وإلى عدم ثبوت اللفظ الثاني المروي عن أنس وأنه ليس بصحيح، لأنه أخره عن غيره.
ـ خلاصة القول هي أن حديث أنس غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ، وأن أصله هو اللفظ الوارد في حديث عائشة، وأن ما وقع له من تغيير هو بسبب الرواية بالمعنى مع الغفلة عن ضبط المعنى، وأن البخاري ومسلما رحمهما الله روياه في الصحيحين وضمَّنا كتابيهما الإشارة إلى إعلاله باللفظ الذي رُوي به.
وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 19/ 4/ 1435، الموافق 19/ 2/ 2014، والحمد لله رب العالمين.