حوار حول حديث “فقال: مَن ذا العِبراني الذي يكلمني من الشجرة؟. قال: أنا الله”.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمام النبيين والمرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
أصل هذا الحديث مروي بلفظ “كلم الله تعالى موسى يوم كلمه وعليه جبة صوف وكساء صوف ونعلان من جلد حمار غير ذكي” من غير زيادة على هذا، ورُوي الحديث كذلك بهذا اللفظ مع زيادة في آخره، هي “فقال: مَن ذا العِبراني الذي يكلمني من الشجرة؟. قال: أنا الله”.
* تخريج الحديث:
ـ الحديث بدون الزيادة رواه سعيد بن منصور في التفسير 5/ 153 عن خلف بن خليفة عن حُميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه الترمذيُّ 3/ 276 عن علي بن حُجر، وعبدُ الله بن أحمد في السنة 1/ 293 عن أبي معْمر إسماعيل بن إبراهيم، والبزارُ 5/ 400 عن بشر بن معاذ العقدي، وابن جرير في تفسيره 16/ 25 عن بشر بن معاذ، والعُقيلي في الضعفاء 2/ 80 من طريق الحكم بن مروان بن ناجية، وأحمد بن سلمان النجاد ص 51 عن عبد الله بن أحمد عن أبي معْمر، وابنُ حبان في كتاب المجروحين 1/ 262 من طريق قتيبة بن سعيد، وابن عدي في الكامل 2/ 273 من طريق داود بن عمرو الضبي، والحاكمُ 1/ 73 من طريق سعيد بن منصور و2/ 447 من طريق عمر بن حفص بن غياث، وابن عساكر والمزي من طريق أبي العباس السراج عن قتيبة بن سعيد، وابن عساكر من طريق أبي بكر بن المقرئ عن أبي يعلى عن أحمد بن حاتم، ثمانيتهم عن خلف بن خليفة عن حُميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “يومَ كلم الله موسى عليه السلام كان عليه جبة صوف وكساء صوف وسراويل صوف وكمة صوف ونعلان من جلد حمار غير ذكي”. [حُميد الأعرج الكوفي منكر الحديث متروك، وليس هو حميدا الأعرج المكي الثقة].
وكذا رواه الحسن بن عرفة في جزئه ص 63 عن خلف بن خليفة به بدون الزيادة.
وكذا رواه الآجري في الشريعة 3/ 1115 عن الحسنِ بنِ علي الجصاص ومحمدِ بنِ مخلد العطار عن الحسن بن عرفة به.
ورواه البيهقي في الأسماء والصفات 1/ 489 عن أبي علي الروذباري، والخطيبُ البغدادي في المتفق والمفترق 1/ 728 عن أبي عمر عبد الواحد بن محمد بن عبد الله بن مهدي ومحمد بن أحمد ابن رزقويه وأبي الحسين محمد بن الحسين القطان وعبد الله بن يحيى السكري وأبي الحسن محمد بن محمد بن محمد بن إبراهيم بن مخلد البزاز، وابن النجار في ذيل تاريخ بغداد 2/ 147 وقاضي المارستان في مشيخته وأبو موسى المديني في عواليه المسمى منتهى رغبات السامعين في عوالي أحاديث التابعين من طريق أبي الحسن محمد بن مخلد، ستتهم عن إسماعيل بن محمد الصفار عن الحسن بن عرفة به.
ـ وأما تخريج الحديث بالزيادة فقد رواه ابن بطة في الإبانة الكبرى 6/ 306 عن إسماعيل بن محمد الصفار وأبي محمد الحسن بن علي بن زيد بن حميد العسكري عن الحسن بن عرفة عن خلف بن خليفة به، ولفظه: “كلم الله موسى يوم كلمه عليه جبة صوف وكساء صوف وبرنس صوف ونعلان من جلد حمار غير ذكي، فقال: من ذا العبراني الذي يكلمني من الشجرة؟. قال: أنا الله”. [الحسن بن علي بن زيد بن حميد روى أحاديث مستقيمة تدل على صدقه ومات سنة 325، كما في تاريخ بغداد].
ورواه ابن الجوزي في الموضوعات 1/ 192 عن علي بن عبيد الله بن الزاغوني عن علي بن أحمد بن البسري عن ابن بطة عن إسماعيل بن محمد الصفار عن الحسن بن عرفة به.
* درجة الحديث:
الحديث بدون الزيادة ضعيف الإسناد جدا، فيه حُميد الأعرج الكوفي وهو منكر الحديث.
والزيادة التي جاءت في آخر الحديث وهي “فقال من ذا العبراني الذي يكلمني من الشجرة؟ قال أنا الله” منكرة موضوعة، وقد تفرد بها ابن بطة عن إسماعيل بن محمد الصفار عن الحسن بن عرفة، مخالفا لستة من الرواة رووا الحديث عن إسماعيل بن محمد الصفار عن الحسن بن عرفة بدونها.
* نبذة من الحوار حول الراوي الذي تفرد بالزيادة في هذا الحديث:
ـ كنت قد ذكرت في كتاب عقائد الأشاعرة في حوار هادئ من الحنابلة المجروحين عبيدَ الله بنَ محمدِ بنِ بطة العكبري المتوفى سنة 387هـ، وذكرت رواية ابن بطة لحديث “كلم الله تعالى موسى يوم كلمه وعليه جبة صوف وكساء صوف ونعلان من جلد حمار غير ذكي، فقال: من ذا العِبراني الذي يكلمني من الشجرة؟. قال: أنا الله”، وذكرت قولَ ابن حجر “وقد وقفت لابن بطة على أمر استعظمته واقشعر جلدي منه”، وقولـَه “وما أدري ما أقول في ابن بطة بعد هذا؟! والله أعلم بغيبه”. وقلت: هذا يعني أن ابن بطة ربما وضع هذه الزيادة وأدرجها في الحديث، وهي موافقة لمشربه الذي فيه ميل للتجسيم والتشبيه.
وقلت في كتاب عقائد الأشاعرة في الجولة الثانية من الحوار: “والخلاصة هي أن ابن بطة قد تفرد بتلك الزيادة المنكرة الموضوعة، وأنه أضعف الرواة في ذلك السند، وأنه هو المتهم بها سواء أكان ذلك عمدا أو سهوا”.
لم أقل عن ابن بطة كذاب أو وضاع، وإنما قلت “ربما وضع هذه الزيادة”، وقلت “هو المتهم بها سواء أكان ذلك عمدا أو سهوا”.
ـ استشاط أحد الإخوة الباحثين غضبا، وكتب مقالة طويلة في الرد على هذا البحث العلمي، كأنه لا يجوز عنده أن يقال عن ابن بطة الذي انفرد برواية تلك الزيادة في الحديث “وأنه هو المتهم بها سواء أكان ذلك عمدا أو سهوا”، ولا أن يقال عنه “ربما وضع هذه الزيادة”.
وأدخل في كلامه أشياء كثيرة مطولة خارجة عن الموضوع مما يتعلق بالأشاعرة والمعتزلة وبعض المعاصرين الذين قام الباحث بالرد عليهم!، ولعله كان في حالة ذهول عن قول الله جل وعلا {ولا تزر وازرة وزر أخرى}، لأن حشر الحوارات والردود التي جرت مع أناس ومذاهب آخرين غير الذي تكون بصدد محاورته تضييع للوقت وإيهام بأن الكل على مذهب واحد، وهذا ظلم لا يرضاه الله عز وجل.
وأقول: تلك الحوارات والردود التي جرت مع أناس ومذاهب آخرين لا تعنيني في شيء، فكل واحد يقول ويدلي بحجته ويرد ويُرد عليه، فمن تكلم في مسائل الدين بحجة ـ وهو من أهل العلم والاحتجاج ـ فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد، وإن لم يكن من ذوي الأهلية فلا أجر له وعليه الوزر.
ولا يلزَمني القولُ بما يقوله أي أحد من الناس ما لم يأت في كلامي أنني أقول به، والحجة عندي هي في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وما تفرع عنهما.
ـ قال الأخ الباحث:
“وهذِه عادة مَعْروفة ، وسُنَّة مَعْلومة ، أَنْ يطعنَ الأشقياء في الأئمَّة الأتقياء، ألا ترى أَنَّ أعظمَ الصَّحابةِ رضي الله عنهم جميعًا ، هم أعظمُ المُنَالِ مِن أعراضِهم ، مِن ذَوِي الكُفْرِ والزَّندقةِ والنِّفاق ، وأَنَّهُ بعُلُوِّ قدر المؤمنين ، يكون عَدَاءُ المُلْحدين والفاسقين والمُبْطلين”.
أقول:
كتب الأخ الباحث هذا الكلام في مقالته التي يعلق فيها على بحثي، ولا أدري بالضبط عمن يتحدث الباحث في كلامه هذا؟!، ربما لا يعنيني!، لكن إن كان كذلك فلمَ يذكر هذا في التعليق على كتابتي ودراستي؟!.
وبغض النظر عما قد يكون في كلامي من صواب وخطأ فالتعريض بهذه الأوصاف غير جائز، فابن بطة ليس نبيا ولا معصوما.
والتعريض في مسألة الرد أو الاعتراض على ابن بطة بأن الراد أو المعترض من الأشقياء والكفرة والزنادقة والمنافقين والملحدين والفاسقين والمبطلين! لا يليق بأهل العلم، وهذه طريقة أهل السباب والشتائم، وليست من شيم أهل الإيمان.
ولا بد أن يُعلم أن قائل هذا الكلام على خطر عظيم، لأن الذي يُقال له هذا الكلام إن كان كذلك فقد لاقت الكلمات محلها، وإلا فإنها ترجع إلى القائل.
ـ أهل الإيمان يقفون مع آداب القرآن التي أدبهم بها المولى عز وجل، فقد قال جل وعلا يعلمنا الخطاب مع المشركين في باب الدعوة والحوار وذكر الحجج: {قل من يرزقكم من السماوات والأرض؟! قل الله، وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، قل لا تُسألون عما أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون}.
إذا كان هذا مع المشركين فلا شك في أنه يكون مع غير المشركين أشد لطفا.
فلا ينبغي ـ في باب الحوار ـ أن أقول لخصمي المحاور ـ حتى لو كان مشركا ـ أنا على الهدى وأنت في الضلال ولستُ مسؤولا عن جرائمك ولستَ مسؤولا عن أعمالي!، بل أقول له: ليدْلِ كل واحد منا بحججه، وليتأملْ في حجج الآخر، فكل واحد منا معرَّض لأن يكون في كلامه الهدى أو الضلال، وأنا لا أتحمل مسؤولية أقوالك ومواقفك، وأنت لا تتحمل مسؤولية إجرامي.
أي إن كان قد صدر مني شيء من جرائم الشقاء والكفر والزندقة والنفاق والإلحاد والفسق والقول بالباطل فأنا الذي أتحمل ذلك، وقد قال جل وعلا {إن ربك هو يفـْصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون}.
تأملتُ في المنهج القرآني في أدب الحوار وطريقة الأخ الباحث فوجدت بينهما بونا شاسعا.
* ترجمة ابن بطة:
لا بد من ذكر أقوال العلماء في ابن بطة، ليتبين هل هو ممن أجمع النقاد على توثيقهم وجاء من يضعفه بغير دليل؟!، أو هو ـ رغم إمامته في جوانب ـ قد ناله تضعيف من علماء الجرح والتعديل؟!.
ابن بطة هو عبيد الله بن محمد، فقيه حنبلي، من أهل عُكْبَرا، وهي بلدة على نهر دجلة شمالي بغداد، بينهما نحو عشرة فراسخ، أي قرابة خمس وخمسين كِيلا، ولد سنة 304 ومات سنة 387:
ـ قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 12/ 100: عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان، أبو عبد الله العُكْبَري، المعروف بابن بطة، كان أحد الفقهاء على مذهب أحمد ابن حنبل.
ثم نقل عن نصر الأندلسي الذي شهد له أبو ذر عبد بن أحمد الهروي بالحفظ والفهم أنه خرج إلى عكبرا وكتب عن ابن بطة، ولما رجع إلى بغداد أخبر الدارقطنيَّ أن ابن بطة حدثه بكتاب السنن لرجاء بن مرجى عن حفص بن عمر الأردبيلي عن رجاء بن مُرَجَّى، فقال الدارقطني: هذا محال، دخل رجاء بن مرجى بغداد سنة أربعين، ودخل حفص بن عمر الأردبيلي سنة سبعين ومئتين، فكيف سمع منه؟!.
ثم روى عن أبي القاسم عبد الواحد بن علي الأسدي عن الحسن بن شهاب أن ابن بطة قدم بغداد، فقرأ عليه أبو الحسن بن الفرات كتاب السنن لرجاء بن مرجى الحافظ، وكتبه ابن الفرات عنه عن حفص بن عمر الأردبيلي الحافظ عن رجاء، فأنكر ذلك أبو الحسن الدارقطني وزعم أن حفصا ليس عنده عن رجاء وأنه يصْغُر عن السماع منه، فأبْرَدوا بريدا إلى أردبيل، وكان ابن حفص بن عمر حيا هناك، وكتبوا إليه يستخبرونه عن هذا الكتاب، فعاد جوابه بأن أباه لم يرو عن رجاء بن مرجى ولا رآه قط وأن مولده كان بعد موته بسنين.
قال الخطيب: قال أبو القاسم عبد الواحد بن علي: فتتبع ابن بطة النسخ التي كُتبت عنه وغيَّر الرواية، وجعلها عن ابن الراجيان عن فتح بن شخرف عن رجاء، ولما مات ابن بطة رأيت نسخته بالسنن وقد غيَّر أول كل جزء منها وجعله رواية ابن الراجيان عن فتح بن شخرف عن رجاء.
ثم قال: قال أبو القاسم: قال لي الحسن بن شهاب: سألت أبا عبد الله بن بطة: أسمعت من البغوي حديث علي بن الجعد؟ فقال: لا.
ثم قال: قال أبو القاسم: وكنت قد رأيت في كتب ابن بطة نسخة بحديث علي بن الجعد قد حكها وكتب بخطه سماعه فيها، فذكرت ذلك للحسن بن شهاب، فعجب منه.
ثم قال: قال أبو القاسم: وروى ابن بطة عن أحمد بن سلمان النجاد عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي نحوا من مئة وخمسين حديثا، فأنكر ذلك عليه علي بن محمد بن ينال، وأساء القول فيه، وقال “النجَّاد لم يسمع من العطاردي شيئا”، حتى همت العامة أن توقع بابن ينال فاختفى.
ثم قال: قال أبو القاسم: وكان ابن بطة قد خرَّج تلك الأحاديث في تصانيفه، فتتبعها وضرب على أكثرها وبقي بقيتها على حاله.
ثم قال: حدثني أحمد بن الحسن بن خيرون قال: رأيت كتاب ابن بطة بمعجم البغوي في نسخة كانت لغيره وقد حك اسم صاحبها وكتب اسمه عليها.
ثم قال: قال لي أبو القاسم الأزهري: ابن بطة ضعيف ضعيف، ليس بحجة، وعندي عنه معجم البغوي ولا أخرج منه في الصحيح شيئا. قلت له: فكيف كان كتابه بالمعجم؟. فقال: لم نر له أصلا به، وإنما دفع إلينا نسخة طرية بخط ابن شهاب فنسخنا منها وقرأنا عليه.
ثم قال: شاهدت عند حمزة بن محمد بن طاهر الدقاق نسخة بكتاب محمد بن عزيز في غريب القرآن وعليها سماع ابن السوسنجردي من ابن بطة عن ابن عزيز، فسألت حمزة عن ذلك، فأنكر أن يكون ابن بطة سمع الكتاب من ابن عزيز وقال: ادعى سماعه ورواه.
ثم قال: وكذلك ادعى سماع كتب أبي محمد بن قتيبة، ورواها عن شيخ سماه ابن أبي مريم وزعم أنه دينوري حدثه عن ابن قتيبة، وابن أبي مريم هذا لا يعرفه أحد من أهل العلم ولا ذكره سوى ابن بطة، فالله أعلم.
ثم قال: حدثني عبد الواحد بن علي الأسدي قال: قال لي محمد بن أبي الفوارس: روى ابن بطة عن البغوي عن مصعب بن عبد الله عن مالك عن الزهري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: طلب العلم فريضة على كل مسلم.
ثم قال: وهذا الحديث باطل من حديث مالك، ومن حديث مصعب عنه، ومن حديث البغوي عن مصعب، وهو موضوع بهذا الإسناد، والحَمْل فيه على ابن بطة، والله أعلم.
ثم قال: حدثني أحمد بن محمد العتيقي بلفظه من أصل كتابه وكتبه لي بخطه قال: حدثنا عبيد الله بن محمد بن حمدان الفقيه بعكبرا قال: حدثنا عبد الله بن محمد البغوي قال: حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري قال: حدثنا مالك بن أنس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعا”. الحديث. وهذا الحديث أيضا باطل من رواية البغوي عن مصعب، ولم أره عن مصعب عن مالك أصلا، فالله أعلم.
ثم قال: أخبرنا العتيقي قال: كان ابن بطة شيخا صالحا مستجاب الدعوة. مات سنة 387. انتهى ما نقلته من تاريخ بغداد.
[عبد الواحد بن علي بن برهان أبو القاسم العكبري كان مضطلعا بعلوم كثيرة، منها النحو واللغة ومعرفة النسب والحفظ لأيام العرب وأخبار المتقدمين، وله أنس شديد بعلم الحديث، ومات سنة 456. علي بن محمد بن ينال أبو الحسن العكبري، سمع الحديث، ورزقه الله تعالى من المعرفة والفهم به شيئا كثيرا، مات سنة 376. أبو القاسم الأزهري عبيد الله بن أحمد بن عثمان، كان أحد المعنيين بالحديث والجامعين له مع صدق واستقامة ودوام درس للقرآن، ولد سنة 355 ومات سنة 435. حمزة بن محمد بن طاهر الدقاق، بغدادي، قال الخطيب: كتبنا عنه، وكان صدوقا فهِما عارفا. ولد سنة 366 ومات سنة 424].
ـ هذا ويستفاد من قصة علي بن محمد بن ينال مع ابن بطة أن عامة الناس يقفون ـ غالبا ـ مع العابد الفقيه المحدث صاحب الرواية وإن كان له هفوات، ولا يلقون بالا للعالم المحقق صاحب الدراية وإن كان له تحقيقات، وأنهم زاهدون في علم العالم المحقق وفيما عنده من تنبيهات، وأنهم إذا سمعوا منه ما لا يروق لهم هموا به وأوقعوا به نكالا حتى يختفي ويغيب عن الأنظار!.
غالب العامة هكذا إلا أهل المجاهدة، قال تعالى {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}.
ـ ووصف الذهبي ابنَ بطة في سير أعلام النبلاء بالإمام القدوة العابد الفقيه المحدث شيخ العراق. ثم قال: لابن بطة مع فضله أوهام وغلط. ثم ذكر بعض ما تقدم في كلام الخطيب البغدادي وقال: فبدون هذا يُضعَّف الشيخ.
وقال في تاريخ الإسلام: ابن بطة ضعيف من قبل حفظه. وقال: رحم الله ابن بطة، فبدون ما أوردنا يُضعف المحدث.
وذكر في السير والتاريخ رواية ابن بطة لحديث “طلب العلم فريضة على كل مسلم” وتعليقَ الخطيب البغدادي بقوله “هذا باطل والحمل فيه على ابن بطة”، ثم قال في السير: “أفحشَ العبارة، وحاشا الرجلَ من التعمد، لكنه غلط ودخل عليه إسناد في إسناد”. وقال في تاريخ الإسلام: “يجوز أن يكون غلط فيه وقفز من سند إلى متن آخر، لقلة إتقانه، لا أنه تعمد وضْعه”.
وقال ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 في لسان الميزان عن هذا الحديث مع الزيادة التي فيه: قال ابن الجوزي: هذا لا يصح، وكلام الله لا يشبه كلام المخلوقين.
ثم قال: رويناه من طرق ليس فيها هذه الزيادة، وما أدري ما أقول في ابن بطة بعد هذا، فما أشك أن إسماعيل بن محمد الصفار لم يحدث بهذا قط، والله أعلم بغيبه.
ـ ولا شك في أن ابن بطة كان محل ثناء من أهل العلم في فقهه وزهده وعبادته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فقد أثنى عليه ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة والسمعاني في الأنساب وغيرهما.
ولا يشترط في مقام النقد الحديثي والدراسة الإسنادية أن يذكر الدارس إلى جانب الجرح والتضعيف ما امتاز به الراوي من الفضائل، لأن من أراد معرفة الصورة الكاملة للراوي فعليه أن يرجع لكتب تراجم العلماء، ولا ينبغي أن يقتصر على الكتب المعنية بدراسة الأسانيد.
ـ خلاصة القول في ابن بطة:
هو إمام قدوة عابد فقيه محدث، ومع ذلك فقد ضعفه:
الإمام الحافظ أبو الفتح محمد بن أحمد بن محمد بن فارس بن أبي الفوارس البغدادي المتوفى سنة 412.
والمحدث الحجة أبو القاسم عبيد الله بن أحمد بن عثمان الأزهري البغدادي المتوفى سنة 435.
والإمام الحافظ أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463.
والإمام الحافظ شمس الدين الذهبي المتوفى سنة 748.
والإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852.
فمن يردُّ أو يعترض على ابن بطة في الزيادة المنكرة التي زادها في هذا الحديث فإنه متبعٌ سبيل أولئك الأئمة الأعلام، ولا يجوز وصفه ولا التعريض به بأنه من الأشقياء أو الكفرة أو الزنادقة أو المنافقين أو الملحدين أو الفاسقين أو المبطلين!.
ـ قال الباحث:
“الحديث قـد رواه مع ابن بطة جماعة من الحفاظ والعلماء غيره”.
أقول:
هذا القول صحيح بالنظر إلى رواية أصل الحديث بدون الزيادة، كما تقدم في تخريج الحديث، أما الزيادة الموضوعة التي أدرجها ابن بطة في آخر الحديث فإنه تفرد بها، وهو متهم بالزيادة لا بأصل الحديث.
ولا بد من الاعتراف الواضح الصريح بأن ابن بطة قد انفرد بالزيادة التي في آخر هذا الحديث وأن الحَمْل فيها عليه، أي إنه هو من يتحمل تبِعتها ومسؤوليتها.
* نبذة من الحوار حول معنى الزيادة التي تفرد بها الراوي في هذا الحديث:
ـ أقحم الباحث في مقالته مواضيع بعيدة عن الجزئية التي هي محل البحث، منها ما يسمى بآيات الصفات وأحاديث الصفات، ومنها صفة الكلام لله تبارك وتعالى وهل كلامه تعالى هو بحرف وصوت أو لا؟ وحكم من أنكر كونه كذلك.
وهذا لا ينبغي في البحث، لأن هذا تشعيب وتشتيت يؤدي إلى أن لا يصل الحوار إلى نتيجة، والواجب في البحث والمناظرة الاشتغال بمسألة واحدة ـ دون تشعيب ـ، وبعد الفراغ منها يتم الانتقال إلى غيرها.
ـ قال المحاور:
“سِرّ استعظامِ هَؤُلاءِ لأثر ابن مسعود ، وقُشَعْريرةِ جُلُودِهم منه ، وقَطْعِهم ببُطلانِه ، هو مُخالفتُه عقائدَهم ، المُخالفةَ لاعتقاد أئمَّة الإسلام ، القائمةَ على موازين المُتكلِّمِين ، أتباعِ ملاحدة الفلاسفة المشَّائين ، مُعطِّلي الرَّحمن عن أفعاله سبحانه ، فهو عند الأشاعرةِ لا يتكلَّم ، ولم يتكلَّم ، ولن يتكلَّم ، لِئَلَّا يُشابِهَ المخلوقين ! وإنَّما كلامُه مَعْنًى واحدٌ قائمٌ بذاته جلَّ وعلا ! يُسَمُّونَهُ « الكلامَ النَّفسيَّ » ألهمَهُ اللهُ جلَّ وعلا جبريلَ فعبَّر عنه ، وسَمِعَهُ مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم منه ، أو ألهمَهُ مُحمَّدًا صلى الله عليه وسلم ، فعبَّرَ عنه بالعربيَّةِ فكان قرآنا ، وحِينَ عبَّر عنه موسى بالعبرانيَّةِ كان توراة ، وعيسى بالسريانيَّةِ كان إنجيلا !”.
أقول:
يظن الباحث أن من يستعظم هذا الحديث ويقشعر جلده منه سببه أن هذا الحديث فيه أن الله تبارك وتعالى كلم سيدنا موسى عليه السلام!، ويرى أن هؤلاء إنما يقع لهم ذلك لأنهم من معطلة أفعال الله سبحانه!، والحقيقة هي غير ذلك، وقد بين الحافظ ابن حجر ـ وهو الذي استعظم هذا المرويَّ واقشعر جلده منه ـ فقال: قال ابن الجوزي: “هذا لا يصح، وكلام الله لا يشبه كلام المخلوقين”.
فالاستعظام والاستنكار هو لما زاده ابن بطة في هذه الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي “فقال: من ذا العبراني الذي يكلمني من الشجرة؟. قال: أنا الله”.
ففي هذه الزيادة تشبيه الخالق جل وعلا بالمخلوق تشبيها واضحا، حيث تتضمن أن موسى عليه السلام سمع صوت إنسان يتكلم معه من الشجرة، وأن ذلك الشخص الذي سمع موسى صوته ولم يره كان يتكلم كلاما عاديا وبلغة عادية هي اللغة العبرانية، وأن موسى سأله قائلا “مَن ذا العبراني الذي يكلمني من الشجرة؟”، فأجابه الشخص الذي ظنه عبرانيا بقوله “أنا الله”.
ـ الحافظ ابن حجر مشهود له بالإمامة في العلم، فهو لا يجهل ولا ينكر أن الله جل وعلا كلم موسى عليه السلام، ولكن شتان بين إثبات صفة الكلام وبين إثبات صفة الكلام على وجه مخصوص.
بعض الناس يصفون الله تعالى بالصفات الواجبة له على وجه مخصوص يتصورونه هم ويسمون كل من لم يثبت الصفة على ذلك الوجه بأنه منكِر للصفة!، وهذا ظلم كبير، لأنه لا بد من الدليل على إثبات الصفة ولا بد من الدليل على إثبات الصفة بذلك الوجه المخصوص، وإلا فهو تحكم.
ـ الإيمان بأن الله جل وعلا كلم موسى عليه السلام لا بد منه لصحة الإيمان، لأنه ثابت بنص القرآن الكريم الذي لا يحتمل أي معنى آخر سوى أنه كلمه، فمن لم يؤمن بأنه كلمه فهو خارج عن دائرة الإيمان، ليس في هذا ذرة من شك. وهذا بإجماع أهل العلم.
لكن، كيف كان تكليمه تعالى للكليم عليه السلام؟:
قد تقول طائفة إن العقل البشري المخلوق لا يعلم الكيفية فنفوض العلم بها لله، ولكنا نعلم قطعا أنها ليست من جنس تكليم المخلوق للمخلوق، فكل رواية تتضمن تشخيص الكلام الإلهي بما يجعله من جنس تكليم المخلوق للمخلوق فهي ـ عندنا ـ مختلقة موضوعة.
وقد يجدون تفسيرا للتكليم ينزه مقام الخالق جل وعلا أن يكون تكليمه لبشر من خلقه هو من جنس تكليم مخلوق لمخلوق.
وقد تقول طائفة إن العقل البشري المخلوق لا يعلم الكيفية فنفوض العلم بها لله، ويأبون القولَ بأنها ليست من جنس تكليم المخلوق للمخلوق إباء شديدا، ويأخذون بكل ما يأتي من روايات تفسيرية ـ متساهلين في دراسة أسانيدها ـ حتى ولو كانت من جنس تكليم المخلوق للمخلوق، ثم يقولون نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تشبيه ولا تمثيل.
هل هذا التلخيص يعبر عن وجهتي النظر بدقة؟ وما الذي يضيفه أهل كل طائفة من توضيح أو تصحيح؟ فليس كل واحد ينطبق قوله على قول غيره تمام الانطباق دائما، وأين الصواب؟ وأين الخلل؟.
ـ وقبل هذا وذاك فإن هذا لا علاقة له مبدئيا بالبحث الحديثي الإسنادي الذي يفحص أسانيد الروايات لبيان ما صح مما لم يصحَّ، لكنه لا بد تاليًا من ربط الأقوال والمواقف بنتائج البحث العلمي، وإلا لكانت بالهوى لا بالدليل.
ـ أستغرب جدا ممن يربط بين استعظام واستنكار هذه الرواية والقطع ببطلانها وبين كونها مخالفة لعقائد من يستعظمها ويستنكرها، ويظن أن تلك العقائد قائمة على موازين المتكلمين أتباع ملاحدة الفلاسفة المشائين المعطلين للصفات الإلهية!.
ـ القول بأن الله جل وعلا ـ عند الأشاعرة ـ لا يتكلم بمعنى أنه ليس له كلام هذا غير صحيح البتة، وأتمنى أن يرجع الأخ الكريم إلى كتب الأشاعرة بحثا عن أسماء أئمة الأشاعرة القائلين بذلك القول إن كانوا قد قالوه حقا.
وينبغي أن يذكر لنا أسماء ثلاثة من العلماء القائلين بذلك على الأقل، فلا يكفي أن ينفرد واحد أو اثنان مثلا بقول فيُنسب إلى علماء المذهب قاطبة.
ـ أستغرب جدا ممن ينسُب للأشاعرة أنهم يقولون بأن كلام الله تعالى معنى واحد!. هذا ما لا أظن أن يقوله عالم أشعري قط.
على سبيل المثال فقد قال فخر الدين الرازي في تفسيره: “المفسر إنما يبحث عن معاني كلام الله تعالى”. ولو كان يقول بأن كلام الله تعالى معنى واحد لما قال ذلك.
ـ أستغرب جدا ممن ينسُب للأشاعرة أنهم يقولون إن كلام الله تعالى ألهمه الله جل وعلا لجبريل فعبر عنه!، أو إن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الذي عبر عنه!، وأن ما عبر عنه محمد صلى الله عليه وسلم من كلام الله تعالى فهو قرآن، وأن ما عبر عنه موسى عليه السلام منه فهو توراة، وأن ما عبر عنه عيسى عليه السلام منه فهو إنجيل!. هذا ما لا أظن أن يقوله عالم أشعري قط، بل لا يُعقل أصلا أن يقول عالم أشعري بمثل هذا الافتراء.
ولا أرى أصْل هذه النقول إلا أكاذيبَ ومفترياتٍ اختلقها الكذابون الأفاكون فسرتْ إلى بعض المتساهلين منا، ثم تناقلها بعض العلماء والباحثين.
ـ قال الباحث:
زيادة “مَنْ ذا العبرانيُّ الذي يُكَلِّمني مِن الشَّجرة ؟ قال : أنا الله” في أثر ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه لا تُوجِبُ الطَّعنَ في عدالةِ رَاوٍ عَدْلٍ وتكذيبه.
أقول:
ابن بطة له من التساهلات في رواية الحديث ما كشف عنه الإمام الحافظ الخطيب البغدادي، كما تقدم في ترجمته، وذكرتُ فيما تقدم أن خمسة من الأئمة ضعفوه، فهو ليس ثقة بإطلاق، وأقل ما يقال فيه أنه صدوق له أوهام.
أنا لا أطعن في عدالة ابن بطة رحمه الله ولا أكذبه، ولكن لعله أتِي من مزيد سلامة وغفلة.
هذا وقد قال ابن حبان في كتاب المجروحين في ترجمة عمرو بن عبيد: “ويكْذِب مع ذلك في الحديث توهما لا تعمدا”. وقال في ترجمة عبيس بن ميمون: “كان شيخا مغفلا يروي عن الثقات الأشياء الموضوعات توهما لا تعمدا، فإذا سمعها أهل العلم سبق إلى قلوبهم أنه كان المتعمدَ لها”.
فمن عرَف هذا علم أن ما قلته في ابن بطة لا يوجب تكذيبه ولا الطعن في عدالته.
ـ قال الباحث عن حالة من يخاصمهم:
“مُعرضِينَ عن الوحي وحقيقتِه ، وكلامِ أئمَّة الإسلام”.
أقول:
لا بد من ذكر دليل واحد على الأقل عند كل قضية يدعيها الإنسان، فأنت تعتقد هذا وربما يعتقد خصمك فيك ما تنسُبه إليه، ولا تتضح الأمور إلا بالدليل والبرهان، {قل هاتوا برهانكم}.
الشيطان لا يريد أن يلتقي المسلمون ويتحاوروا حوارا علميا هادئا بالحجج الواضحة المستندة إلى الأدلة، لئلا يقع الاتفاق أو التقارب، ولذا فكل من يأبى اللقاء والتحاور الهادئ ويعطله بأي صورة من الصور فهو ـ من حيث يدري أو لا يدري ـ عون للشيطان على أهل الإيمان.
وإذا لم يكن المقام مقامَ الإدلاء بالحجج على أن أولئك الخصوم هم من المعرضين عن الوحي وحقيقته وكلامِ أئمة الإسلام فلا أرى من المناسب ولا من الجائز إلقاءَ التهم على الناس جزافا.
وإذا كان الباحث يريد بيان ذلك فليكتب كتابا عن المواقف التي أعرض خصومه فيها عن الوحي وحقيقته، وليذكرْ من هم أئمة الإسلام الذين يجب عليهم أن لا يخالفوهم، والمواقف التي خالفوهم فيها، بالأدلة والتوثيق.
* وفي الختام أقول للأخ الباحث: رُوي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قال لمن سبه: “لا أمحو عنك شيئا مما قلتَ بأن أسبَّك، ولكن موعدي وموعدك الله، فإن كنتَ صادقا يأجرك الله بصدقك، وإن كنتَ كاذبا فالله أشد نقمة”.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 26/ 2/ 1437، الموافق 8/ 12/ 2015، والحمد لله رب العالمين.