حوار حول حديث من يجدد لها دينها 3
الحوار الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
كتب لي الأخ الدكتور الشيخ خلدون مخلوطة حفظه الله بخير وعافية تعقيبا على الحوار السابق حول هذا الحديث وهذا جوابي بما يبين وجهة نظري:
ـ الذي أراه في الحوارات والردود أن لا أكتب اسم المردود عليه إلا نادرا، وذلك فيما إذا وجدت ما يقتضي ذلك بإلحاح، لأن كثيرا من الناس يهمهم أن يشغلوا مجالسهم بأن فلانا رد على فلان، وأن فلانا قال له كذا ووصفه فلان بكذا، وقال فلان عن فلان كذا، وهم في كثير من الأحيان لا صلة لهم بالعلم ولا بما يقوله أي واحد ممن يرد ومن يُرد عليه.
ـ الراوي الذي ليس في مرتبة الثقة ولا الضعيف مستور.
ربما أنت تريد نصا على ذلك من خلال كتب مصطلح الحديث، ولو كان عندي لذكرته، ولكن هذا لا يجعلني أتوقف، فأنا أكتب ما أراه حسبما فهمته من كلام العلماء، وفي هذه الحالة لن يقبل المحاور الآخر ذلك غالبا، ولا أطالبه بقبول كلامي، بل أقول لكلٍّ فهمه من كلام أهل العلم.
ـ لو وجدنا نصا لكلام عالم مقبول عند الأطراف المختلفة وأخذنا به ثم وجدنا قولا آخر لذاك العالم نفسه أو لغيره فماذا نعمل؟!.
ما أكثر ما نجد المختلفين يجد كل واحد نصا من كلام بعض أهل العلم ويتمسك به وبما هو عليه وينتهي الحوار بالخلاف كما بدأ بالاختلاف، حتى إننا لا نكاد نجد اثنين اختلفا في مسألة فتحاورا فوصلا إلى اتفاق. وهذا في الغالب، ووجدت في المقابل حالات أخرى وإن كانت نادرة.
أعيد وأؤكد: ولكلٍّ وجهة.
ـ نصيحتي هي أن الباحث أو المحاور إذا كان مجتهدا في المسألة التي يحاور فيها فليبحثْ وليحاور وليناقش حتى يصل إلى القول الذي يطمئن إليه من خلال الأدلة التي جرى إيرادها ومناقشتها، وإذا كان مقلدا فعليه أن لا يحاور ويناقش في الاستدلالات، وأن ينظر في العلماء السابقين واللاحقين فمن غلب على ظنه ـ بعد البحث والسؤال ـ أنه أعلم وأورع في العلم فيأخذ بقوله ويقول هذا يكفيني.
ـ الذهبي وابن حجر وسائر المتأخرين أرى أنهم مقلدون في موضوع الجرح والتعديل غالبا، ويلخصون أقوال الأئمة السابقين، ولهم اجتهادات في بعض الأحيان، وهذا لا ينفي أنهم علماء في بعض الجوانب، فيُستفاد من علومهم وتحريراتهم وتنقيحاتهم في الجملة، وإذا اجتهدوا في مسألة وأوْلَوْها عناية وجهدًا فهنا أقول إن لفلان اجتهادا في هذه المسألة، وينبغي أن لا ننسى أن عصورهم عصور تقليد. والله أعلم.
أحيانا يكون قول هذا العالم المتأخر قد ابتعد عن كلام السابقين الذي هو أوْلى بالقبول من قوله.
خذ هذا المثال من كلام ابن حجر:
لو نظرنا في ترجمة يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك الهمداني لوجدنا أنه الفقيه القاضي، وقد وثقه أبو حاتم والدارقطني، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال يعقوب بن سفيان: في حديثه لين. فما الذي قاله فيه ابن حجر؟، قال: صدوق ربما وهم. ولو نظرنا في ترجمة لقمان بن عامر لوجدنا أنه وثقه العجلي وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه. فما الذي قاله فيه ابن حجر؟، قال: صدوق. وكلا الراويين لم يرو لهما الشيخان.
الراوي الأول أعلى من الثاني بكثير، وكان نصيبه عند ابن حجر أنه صدوق ربما وهم، والثاني لم يوثقه سوى العجلي وذكره ابن حبان في الثقات، وكلاهما من المتساهلين في التوثيق، وقال فيه أبو حاتم: يُكتب حديثه. وكان نصيبه عند ابن حجر أنه صدوق، أي هو عنده أعلى مرتبة من الراوي الأول!.
ـ أظن أنني نقلت أقوالا في ذم التقليد، وليس في ذم المقلدة.
المقلد الذي أرى أنه يُذم هو من يقلد في كل شيء حتى إنه لا يدري في كثير من الأحيان مَن يقلد، وتختلط عليه مراتب الأقوال والقائلين فيضيع ويحتار.
ـ الدارقطني لم يذكر في الجزء الذي جمعه لأسماء الرواة الذين روى لهم البخاري مَن روى له البخاري في جزء أفعال العباد، بدليل أنه لم يذكر فيه شراحيل بن يزيد، لكنه ذكر شراحيل في القسم الذي خصصه لمن روى مسلم عنهم وإن كان قد روى له في المقدمة، لأن الكتاب واحد، وهو يجمع أسماء الرواة الذين روى لهم مسلم في هذا الكتاب.
– أنا لا أترك الموضوع إلى موضوع آخر إلا إذا كان الحوار قد خرج عن مساره.
كان الكلام حول مسألة توثيق شراحيل بن يزيد، وذكرتُ أن هذا الراوي ذكره ابن حبان في الثقات مجرد ذكر، ولم أجد أحدا من أئمة علماء الجرح والتعديل قد نص على توثيقه، وجاءت إشارة إلى مسألة الرواة المُتَكَلـَّم فيهم الذين روى لهم البخاري ومسلم في صحيحيهما وأنهما رويا لهم فيما له متابعات أو شواهد.
وشراحيل بن يزيد ليس ممن روى له البخاري ولا مسلم في صحيحيهما، ولا هو من الرواة المتكلم فيهم، فأنا أستغرب جدا ممن يطالب “بذكر مرجع علمي واحد من الكتب التي ألفها العلماء في الرواة المتكلم فيهم وروى لهم الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما وانتقيا من أحاديثهم ما توبع لهم فيها أو جاءت شواهد تؤكد رواياتهم أنهم صرحوا أن من هؤلاء الرواة شراحيل بن يزيد”!. ما هذا؟!، لا أدري.
هل هناك كتب ألفها العلماء في مثل هذا الموضوع؟! أو إنك أيها الأخ الكريم تشير إلى الجزء الذي ألفه الذهبي في الرواة الثقات الذين تُكلم فيهم بما لا يوجب رد حديثهم؟!، وكأنك تريد أن تقول إنه لم يذكر فيه شراحيل!، وهذا لا علاقة له بهذا الراوي أصلا، لأنه ليس من الثقات ولا من المُتَكَلـَّم فيهم.
ثم إنه لو ذكره الذهبي في هذا الجزء أو لم يذكره فيه فإن هذا ـ عندي ـ لا يغير من الأمر شيئا.
الذي يهمني هو أن أعرف ما الذي قاله الأئمة النقاد في هذا الراوي، وأنا لم أجد فيه قولا عندهم سوى أن ذكره ابن حبان في كتاب الثقات، وهو من المتساهلين في التوثيق، وانظر كيف تعجب ابن حجر في مقدمة لسان الميزان من مسلكه في هذا الكتاب.
ـ أخي الكريم:
هذا ما أردت أن أقوله في توضيح أقوالي واختياراتي، فإن أصبتُ فبمحض فضل الله علي، وله الفضل والمنة، وإلا فمن عجزي وتقصيري، وأسأل ربي جل وعلا أن يمن علي بعفوه وغفرانه، وإذا ظهر لي أنني أخطأت في أمر ما فأسهل شيء عندي إن شاء الله أن أعترف بخطئي وأن أشكر الذي نبهني عليه وأن أدعو له.
حفظك المولى بحفظه، والسلام عليكم ورحمة الله.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 7/ 11/ 1439، الموافق 20/ 7/ 2018، والحمد لله رب العالمين.
***
ثم كتب الشيخ خلدون يقول:
نقل الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى في مقدمته لرسالة “ما لا يسع المحدث جهله” كلاما مهما عن الحافظ العراقي قاله في كتابه “إخبار الأحياء بأخبار الإحياء” في تخريجه لهذا الحديث، وذكر كذلك قاعدة مهمة عند الاختلاف في رفع الحديث ووقفه: قال الحافظ العراقي: [حديث “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة ….” إسناده صحيح رجاله كلهم ثقات، وعلى قول أبي داود “رواه عبد الرحمن بن شريح الإسكندارني لم يجز به شراحيل” قد تقرر في علمي الأصول والحديث أن الحديث إذا رفعه ثقة ووقفه ثقة فإن الحكم لمن رفعه على الصحيح، وسعيد بن أبي أيوب وعبد الرحمن بن شريح كلاهما ثقة، وسعيد الذي رفعه أولى بالقبول لأمرين: أحدهما: أنه لم يُختلف في توثيقه وأما عبد الرحمن فقال فيه ابن سعد منكر الحديث، الثاني: أن معه زيادة علم على من وقفه].
أقول:
* ـ كلام الحافظ العراقي رحمه الله المنقول هنا غير مقبول منه، لأنه يقول “قد تقرر في علمي الأصول والحديث أن الحديث إذا رفعه ثقة ووقفه ثقة فإن الحكم لمن رفعه”، ونسبة هذا الكلام لعلماء الحديث إن كان يعني به الأئمة الكبار من المحدثين فهذا غير صحيح، وهو بخلاف كلام البخاري ومسلم وأبي حاتم وأبي زرعة والنسائي والدارقطني وغيرهم، ومن أهم مسائل علم العلل إعلال المرفوع بالموقوف، ودونك كتاب العلل الكبير للترمذي الذي دوَّن فيه كثيرا من إجابات شيخه الإمام البخاري عن أسئلته، ودونك كتاب علل الحديث لابن أبي حاتم الذي دون فيه إجابات والده أبي حاتم الرازي وإجابات أبي زرعة الرازي ودونك العلل للدارقطني وغيرها.
فهؤلاء هم الأئمة المرجوع لهم في علم الحديث.
ـ وهذا مثال يوضح منهج البخاري ومسلم رحمهما الله لمن يقدر هذين الإمامين حق قدرهما:
روى ابن جريج قال: حدثني موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح السمان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال “من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أنْ لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفِر له ما كان في مجلسه ذلك”.
ورواه موسى بن إسماعيل عن وُهيب بن خالد عن سهيل بن أبي صالح عن التابعي الثقة عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي من قوله موقوفا عليه.
[عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج مكي ثقة قد يدلس الإسناد ومات سنة 150، وصرح هنا بالسماع. موسى بن عقبة مدني ثقة مات سنة 141. سهيل بن أبي صالح مدني صدوق فيه لين تغير حفظه بآخره ومات سنة 138. ذكوان أبو صالح السمان مدني ثقة مات سنة 101. موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة مات سنة 223. وُهيب بن خالد بصري ثقة مات سنة 167 تقريبا وعاش 58 سنة. عون بن عبد الله بن عتبة كوفي ثقة مات سنة 115 تقريبا].
قال الإمام البخاري في التاريخ الكبير والتاريخ الأوسط: “حديث وُهيب أولى”.
وجاء الإمام مسلم إلى الإمام البخاري فقبَّل بين عينيه وقال: دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيدَ المحدثين وطبيبَ الحديث في علله، حديثُ أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في كفارة المجلس ما علته؟. فقال البخاري: “هذا حديث مليح، إلا أنه معلول، حدثنا به موسى بن إسماعيل قال حدثنا وهيب قال حدثنا سهيل عن عون بن عبد الله قوله، هذا أولى”. [تاريخ بغداد. الإرشاد في معرفة علماء الحديث للخليلي].
ولم يعترض مسلم على البخاري في هذا الإعلال، بل أقرَّ له بالتقدم في المعرفة وقال: “لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أنه ليس في الدنيا مثلك”. وأقر الخطيب البغدادي والخليلي بهذا كذلك ولم يعترضا بشيء.
انظر استفادة الإمام مسلم من الإمام البخاري رحمهما الله مسألة في إعلال رواية وتواضعَه الشديد له وحسْنَ ثنائه عليه. رحمة الله على أئمتنا العظام، رحمهم الله وأعلى مقامهم.
أقول: مَن وقف على الطريقين الثابتين عن سهيل بن أبي صالح وهو بعيد عن علم العلل فإنه يصححهما كليهما عن سهيل بن أبي صالح، ويقول لعل سهيلا سمع الحديث من أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن عون بن عبد الله من قوله، ويقول ربما كان سهيل يرويه مرة هكذا ومرة هكذا!!!. وهذه طريقة جمهور المتأخرين.
لكنْ من المستبعد ـ عند الأئمة الذين هم أئمة في هذا العلم ـ أن يكونَ سهيل قد سمع الحديث من أبيه يرويه عن أبي هريرة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ومن عون بن عبد الله من قوله فيرويَه مرة هكذا ومرة هكذا، لأن مَن سمعه بمثل هذين الوجهين فإنه يرويه عادة إما بالوجهين كليهما مجموعين وإما بالوجه المسنَد وحده إذا أراد الاقتصار على أحدهما، وهذا يعني أن سهيلا قد سمع حديث كفارة المجلس بأحد الوجهين ولم يسمعه بالوجهين كليهما، وإذا كان ذلك كذلك فالاحتياط يوجب الاقتصارَ على ما فيه القدْرُ الأدنى، كما يوجب الحكمَ ـ بغلبة الظن ـ على ما فيه القدْرُ الأعلى بأنه خطأ، أي إنه يوجب تثبيتَ روايةِ مَن رواه عنه موقوفا على التابعي وتخطئةَ من رواه عنه مسندا. وهذه طريقة جمهور المتقدمين، ومنهم البخاري.
[ولا بد من الإشارة هنا إلى أن إعلال حديث كفارة المجلس من رواية أبي هريرة لا يعني أنه معلول من طرقه الأخرى].
وهذه بعض أقوال الأئمة الآخرين في إعلال الرواية التي أعلها البخاري:
سئل الدارقطني في العلل عن هذا الحديث من طريق أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: [قال أحمد ابن حنبل: “حدَّث به ابن جريج عن موسى بن عقبة، وفيه وَهَم، والصحيح قول وُهيب”. والقول كما قال أحمد].
وسأل ابن أبي حاتم أباه وأبا زرعة عن هذا الحديث فقالا: “هذا خطأ، رواه وهيب عن سهيل عن عون بن عبد الله موقوفا، وهذا أصح”.
وقال العُقيلي في كتاب الضعفاء الكبير عن طريق وهيب: “هذا أولى”.
وذكر أبو عبد الله الحاكم في كتابه معرفة علوم الحديث حديث أبي هريرة هذا وقال: “هذا حديث من تأمله لم يشكَّ أنه من شرط الصحيح، وله علة فاحشة”. وذكر قصة مجيء مسلم إلى البخاري واستفادتـَه علة هذا الحديث منه. ونقل ابن رجب في شرح العلل كلام الحاكم وأيده، وأقر ابن حجر إعلال الحديث في كتاب النكت.
وهكذا نجد الإمام أحمد والبخاري ومسلما وأبا زرعة وأبا حاتم الرازيَّين والعُقيلي والدارقطني والحاكم وأبا يعلى الخليلي والخطيب البغدادي قد أعلوا الرواية المرفوعة بالرواية الموقوفة ووافقهم ابن رجب وابن حجر.
وههنا فائدة يعرفها من له صلة بكتب علل الحديث، وهي أن قول الحفاظ في باب الإعلال “هذا أصح” لا يعني أن ما يقابله صحيح، بل يعني أن المقابل له معلول، وظهر هذا جليا في قول أبي حاتم وأبي زرعة عن الطريق الراجح إنه أصح وعن مقابله إنه خطأ، ولم يقولا هذا أصح والآخر صحيح، وكذا في قول الإمام البخاري “حديث وهيب أولى” وقال عن مقابله معلول، فتدبر.
ولا بد هنا من وقفة تأمل:
لو لم يعلم الإمام مسلم بالرواية التي أعلَّ بها الإمام البخاري هذا الحديث من طريق أبي هريرة فالظاهر أنه كان سيحكم له بالقبول، بل لو لم يعلم الإمام البخاري نفسه بالرواية التي أعلـَّه هو بها فالظاهر أنه كان سيحكم له بالقبول كذلك، وهذا يرشدنا إلى ضرورة إعمال المنهج الذي ارتضاه هذان الإمامان وسائر كبار الأئمة النقاد رحمهم الله، وإلى جعْل هذا المنهج الذي ارتضَوه حاكما على أحكامهم الجزئية.
وحسب النص المنقول هنا عن العراقي فإننا يجب أن نقول للإمام أحمد ابن حنبل المتوفى سنة 241 وللبخاري المتوفى سنة 256 ولمسلم المتوفى سنة 261 ولأبي زرعة الرازي المتوفى سنة 264 ولأبي حاتم الرازي المتوفى سنة 277 وللعُقيلي المتوفى سنة 322 وللدارقطني المتوفى سنة 385: لا نستطيع أن نأخذ بقولكم لأن عندنا من هو أعلم بالحديث منكم!.
وكذا يجب أن نقول ـ حسب ذلك النص ـ لمن بعدهم، ومنهم أبو عبد الله الحاكم المتوفى سنة 405 وأبو يعلى الخليلي المتوفى سنة 446 والخطيب البغدادي المتوفى سنة 463، ثم لابن رجب المتوفى سنة 795 ولابن حجر تلميذ العراقي المتوفى سنة 852.
الذي قاله العراقي المتوفى سنة 806 قاله قبله ابن الصلاح المتوفى سنة 643 والنووي المتوفى سنة 676، وسبقهم من القائلين به آخرون، لكنهم لا يُقارنون بالأئمة الكبار المتقدمين.
ـ أما مذهبي الذي أعتقده فهو أن الأئمة الذين شهد لهم علماء الأمة وأطبقوا على أنهم هم المرجوع إليهم في علم الحديث هم الأئمة المتقدمون.
ومن أراد أن يعرف مقام كل واحد من العلماء في العلم وأن ينزل الناس منازلهم فليقرأ تراجمهم.
* ـ أما كلام أهل الفقه والأصول في صحة الروايات وعدم صحتها فهذا منهم فضول، إلا من جمع بين الحديث والفقه، ولو أنصفوا لقالوا مثل ما قال الإمام الشافعي للإمام أحمد رحمهما الله: “أنتم أعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث صحيحا فأعلموني حتى أذهب إليه”.
* ـ ثم قال الحافظ العراقي رحمه الله: “سعيد بن أبي أيوب وعبد الرحمن بن شريح كلاهما ثقة، وسعيد الذي رفعه أولى بالقبول لأمرين: أحدهما: أنه لم يُختلف في توثيقه، وأما عبد الرحمن فقال فيه ابن سعد منكر الحديث، الثاني: أن معه زيادة علم على من وقفه”.
أقول:
سعيد بن أبي أيوب وثقه ابن معين، وقال ابن حنبل: ليس به بأس. وقال ابن سعد: كان ثقة ثبتا.
وعبد الرحمن بن شريح وثقه ابن معين والعجلي، وقال ابن حنبل: ثقة ليس به بأس. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وقال ابن سعد: منكر الحديث.
ولكن في باب الإعلال فإن رواية عبد الرحمن بن شريح هنا تعلُّ رواية سعيد بن أبي أيوب وإن كان عبد الرحمن دونه في المرتبة، وذلك لأن الخطأ في الروايات يكون غالبا برفع الموقوف ووصل المرسل، وليس العكس، لأن السند المرفوع والمتصل هو الجادة المسلوكة.
إن من مفاخر أئمة الحديث هذا الشيء العجيب في دراسة النفس الإنسانية ومعرفة أين يقع الخطأ، وكذا في التنبه إلى أن الجادة المسلوكة التي تتوارد عليها الروايات بصفة عامة تصبح أقرب إلى أن يذهب إليها ذهن الراوي فيخطئ في الرواية.
وهذا النوع من دقة الانتباه إلى وقوع الخطأ في الرواية يصعب أن تجده عند غير الأئمة الكبار من المحدثين، ولا يمكن أن يدركه اليومَ إلا من أوتِي حظا وافرا في الدراسات النفسية.
قد يستغرب البعيدون عن علم علل الأسانيد عند المحدثين كيف يتم ترجيح رواية عبد الرحمن بن شريح هنا على رواية سعيد بن أبي أيوب على الرغم من أن عبد الرحمن دون سعيد في المرتبة، لأنهم لا يقدرون مدى دقة المحدثين في التوقي عن الأخطاء التي قد تقع في الأسانيد والتي لا ينفك عنها البشر غالبا مهما أوتوا من قوة الحافظة.
وهذا أحد الأمثلة من عمل الأئمة المحدثين في الإعلال:
روى النسائي في السنن الكبرى من طريق خالد بن الحارث عن حسين بن ذكوان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة من أهل اليمن أتت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وبنتٌ لها في يد ابنتها مَسَكتان غليظتان من ذهب. الحديثَ. ورواه من طريق المعتمر بن سليمان عن حسين بن ذكوان عن عمرو بن شعيب أنه قال: جاءت امرأة ومعها ابنة لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يد ابنتها مَسَكتان. مرسلا. وعلق على اختلاف الروايتين حيث أعل الموصولة بالمرسلة فقال: خالد بن الحارث أثبت عندنا من المعتمر، وحديث المعتمر أولى بالصواب.
ـ الفرق بين عمل الأئمة من المحدثين وبين عمل المتأخرين هو كالفرق بين عمل كبار الأطباء الجِراحيين المتخصصين وبين تلامذة كلية الطب الذين بدؤوا يأخذون التقارير الطبية من أولئك لكتابتها وتنسيقها، ثم يجد كل واحد منهم نفسه غير قادر على الاستمرار فيتوقف مكتفيا بما هو عليه، على اختلافٍ بينهم في مقدار الدرجة التي استطاع أن يصل إليها.
ـ من أراد أن يوازن بين درجة الأئمة من المحدثين وبين درجة العلماء المتأخرين في الحديث فليرجع إلى تراجم هؤلاء وهؤلاء، ومن المتأخرين الحافظ عبد الرحيم بن الحسين العراقي من كبار شيوخ الحافظ ابن حجر رحمهما الله، وله ترجمة طويلة في الضوء اللامع، وسيجد أنه لم يبق في هذا الوقت من علم علل الحديث سوى شذرات يسيرة جدا.
حفظك المولى بعنايته ورعايته، وسامحني على الإطالة.
وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 8/ 11/ 1439، الموافق 21/ 7/ 2018، والحمد لله رب العالمين.