مقام الداعية ومقام الحاكم أو القاضي
قد يقول بعض الناس: يوجد فيمن يدَّعون الإسلام منافقون وزنادقة ومرتدون يتظاهرون بأنهم يصلون ويصومون مع المسلمين، فهل هؤلاء إخوة لنا في الدين ويجب علينا أن نعاملهم كما نعامل المسلم الصادق في إيمانه؟!.
أقول:
شتان بين التعامل مع الإنسان الذي يصلي ويصوم مع المسلمين ولم يظهر عليه ما يخالف ذلك مما لا يحتمل تأويلا وبين الذي ظهرت عليه علامات النفاق القطعية التي لا تحتمل التأويل، ولكلٍّ حكمه.
ثم إن هناك مقامَ الدعوة وتأليفِ القلوب واحتمال الأذى والعدوانِ والتهجيرِ والتشريد ومقامَ محاسبة المجرمين على جرائمهم إذا كان هنالك دولة وقانون وقضاء:
فإذا كنتَ في مقام الداعية فانظر إلى الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله عن خباب بن الأرت رضي الله عنه أنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟!، ألا تدعو الله لنا؟!. فقال: “كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيُجعل فيه فيُجاء بالمنشار فيُوضع على رأسه فيُشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون”.
وانظر كذلك إلى الشطر الأول من الحديث الذي رواه البخاري ومسلم رحمهما الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: بعث عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذُهَيبة في أديم مقروظ، فقسمها رسول الله بين أربعة نفر، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحقَّ بهذا من هؤلاء. فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: “ألا تأمنوني وأنا أمين مَن في السماء يأتيني خبر السماء صباحا ومساء؟!”. فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناشز الجبهة كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار فقال: يا رسول الله اتقِ الله. قال: “ويلك، أولست أحقَّ أهل الأرض أن يتقي الله؟!”. ثم ولـَّى الرجل، فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟!. قال: “لا، لعله أن يكون يصلي”. فقال خالد: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه!. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم”.
وإذا كنتَ في مقام القاضي إذا كانت هناك دولة وقانون ونظام قضائي فانظر إلى الشطر الثاني من هذا الحديث، فتتمته هي أن أبا سعيد الخدري قال: ثم نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مقفٍّ فقال: “إنه يخرج من ضِئْضِئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد”.
وتأمل الفرق بين ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذي اعترض على قضائه وأظهر عدم الرضا بحكمه مع التماس العذر له بأنه لعله أن يكون يصلي، وبين ما قاله عن الذين يخرجون من نسله ويتلون كتاب الله رطبا.
وتأمل قولَ خالد بن الوليد رضي الله عنه: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه!. وجوابَ النبي صلى الله عليه وسلم له وقد أقره ولم يعترض عليه: “إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس”.
إشكال آخر وجواب:
قد يقال: الظاهر أن قتل ذاك المعترض على النبي صلى الله عليه وسلم في قسمة القطعة الذهبية أولى من قتل الذين سيخرجون من نسله فيما بعد، لأن ذلك المعترض كفر كفرا واضحا بيِّنا باتهامه للنبي صلى الله عليه وسلم بالمحاباة وعدم العدل، وقوله له “كنا نحن أحقَّ بهذا من هؤلاء”. وقوله له كذلك “يا رسول الله اتقِ الله”. والذين خرجوا من نسله فيما بعد اعترضوا على حكم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قبوله التحكيم ولم يعترضوا على رسول الله!.
أقول:
ظاهر الأمر هو كذلك، وهنا يظهر السر في التفريق بين مقام الداعية ومقام الحاكم أو القاضي.
فالنبي صلى الله عليه وسلم رجَّح في ذلك الموقف مقام الداعية، حيث إن ذلك المعترض رجل واحد ليس وراءه جماعة كبيرة متمردة تساعده في ذلك على تهديد الأمن، ولم يأذن لخالد بن الوليد رضي الله عنه في قتله، وعلمَ ـ بإعلام الله تعالى إياه ـ أنه سيخرج من نسل ذلك المعترض قوم غلاظ عتاة بغاة يعْميهم ما هم عليه من الكبْر والجهل والاستخفاف بالخليفة الراشد ويستجرهم إلى الخروج عليه وتهديد الأمن والاستقرار، وفي مثل تلك الحال يحْسُن ترجيح مقام الحاكم أو القاضي الذي يمنع هؤلاء القوم من التمادي فيما هم عليه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم “لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد”. وهذا ما فعله أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.
تعليق من فضيلة الشيخ جمال الدين السيروان حفظه الله
تحليل دقيق أفضى إلى إيضاح موقف الداعية (فقولا له قولاً ليناً) وموقف الحاكم (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) شكر الله لكم وأجزل مثوبتكم.