نبذ مهمة جدا من كلام ابن تيمية
قال ابن تيمية رحمه الله في معرض حديثه عن الكافرين: “قد تحْصلُ للرجل موادَّتُهم لرحِمٍ أو حاجة فتكون ذنبا ينقصُ به إيمانُه ولا يكون به كافرا“. [كتاب الإيمان الأوسط ص 70. مجموع الفتاوى 7/ 522].
وقال ابن تيمية رحمه الله: “لا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلا من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله سبحانه وتعالى كسوالف البادية وكأوامر المُطاعين فيهم، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة، وهذا هو الكفر، فهؤلاء إذا عُرِّفوا أنه لا يجوز الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار، وإلا كانوا جهالا، وقد أمر الله المسلمين كلهم إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى الله والرسول، فقال تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}، فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن، وأما من كان ملتزما لحكم الله ورسوله باطنا وظاهرا لكن عصى واتبع هواه فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة، وهذه الآية مما يحتج به الخوارج على تكفير ولاة الأمر الذين لا يحكمون بما أنزل الله ثم يزعمون أن اعتقادهم هو حكم الله”.
من الواضح أن قوله “مَن كان ملتزما لحكم الله ورسوله باطنا وظاهرا لكن عصى واتبع هواه” لا يعني به الالتزام العملي، إذ لو كان هذا الحاكم ممن يعمل بأحكام الله جل وعلا ويلتزم بها التزاما عمليا لمَا كان عاصيا متبعا لهواه، وإنما عنى الشيخُ رحمه الله بالالتزام الباطن والظاهر الانقيادَ لحكم الله تعالى ليس بدعوى اللسان فقط بل بالقلب واللسان. ولا بد من فهم كلام الشيخ على هذا النحو، لدلالة السياق وصونا له عن التناقض.
وقال ابن تيمية في موضع آخر: “من بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في دار الكفر وعلم أنه رسول الله فآمن به وآمن بما أنزِل عليه واتقى الله ما استطاع ـ كما فعل النجاشي وغيره ـ ولم يمكنه الهجرةُ إلى دار الإسلام ولا التزامُ جميع شرائع الإسلام لكونه ممنوعا من الهجرة وممنوعا من إظهار دينه وليس عنده من يعلمه جميع شرائع الإسلام: فهذا مؤمن من أهل الجنة، كما كان يوسف الصديق عليه السلام مع أهل مصر، فإنهم كانوا كفارا ولم يكن يمكنه أن يفعل بهم كلَّ ما يعرفه من دين الإسلام، فإنه دعاهم إلى التوحيد والإيمان فلم يجيبوه، قال تعالى عن مؤمن آل فرعون {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا}، وكذلك النجاشي، فهو وإن كان ملِكَ النصارى فلم يطعْه قومُه في الدخول في الإسلام، بل إنما دخل معه نفر منهم، وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها، لعجزه عن ذلك، فلم يهاجر ولم يجاهد ولا حج البيت، ونحن نعلم قطعا أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن، والله قد فرض على نبيه بالمدينة أنه إذا جاءه أهل الكتاب لم يحكم بينهم إلا بما أنزل الله إليه، والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن، فإن قومه لا يقرونه على ذلك، وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها”.
فمناط الأحكام التي ذكرها ابن تيمية رحمه الله في عدم تكفير من لا يحكم بين الناس بما أنزل الله هو عدم الاستحلال، وفي عدم الحكم بالمعصية هو عدم الإمكان، ولو كان قد ذكر أحكاما مجردة عن الإشارة للعلل لكان من الممكن أن يقال لعل مراده أن هذه الأحكام هي لجماعة لم يسبق لهم الدخول في الدين، وأن أحكام من سبق لهم الدخول في الدين مختلفة، ولكن حيث إنه قد ذكر تلك الأحكام مقرونة بالإشارات الدالة على العلل فلا بد من تفهمها وإجراء الأحكام في محالِّ وجود العلل.