نبذة من كتاب عقائد الأشاعرة في الجولة الثانية من الحوار
هذه المباحثات العلمية هي نوع من المناظرة، وقد بيَّن الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في إحياء علوم الدين ما قد يقع في كثير من المناظرات من آفات، فأقتبسُ من بعض مقاصد كلامه رحمه الله فأقول:
قال رحمه الله: «ينبغي أن يكون الغرضُ من المناظرة المباحثةَ لإظهار الحق، فإن الحق مطلوب، والتعاونَ على النظر في العلم وتواردِ الخواطر بغية الوصول للحق مفيد، وهو من الدين، ولكن ينبغي أن يكون المناظِر مجتهدا لا مقلدا، بحيث إذا ظهر له الحق تركَ ما كان يعتقده وانتقل إلى ما ظهر له رجحانُه، فأما المقلد الذي ليس له رتبة الاجتهاد فلو ظهر له ضعف مذهبه لم يتركه، وكلما لاح له ما يوافق مذهب غيره يقول لعل عند أصحاب مذهبنا جوابا عن هذا، فأي فائدة لمثل هذا في المناظرة؟!، كما ينبغي أن يكون المناظِر في طلب الحق كناشد ضالة، لا يفرِّق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه، ويرى من يناظره رفيقَ دربه ومعينا له للوصول إلى الضالة المنشودة، لا خصما، بل يشكره إذا عرَّفه وجه الخطأ وأظهر له الصواب، كما لو أخذ طريقا في طلب ضالته فنبَّهه صاحبه على أنها في طريق آخر، فإنه يشكره ولا يذمه، بل يكرمه ويفرح به».
وما أجمل قوله «ينبغي أن يكون المناظِر مجتهدا لا مقلدا، بحيث إذا ظهر له الحق ترك ما كان يعتقده وانتقل إلى ما ظهر له رجحانه، فأما المقلد الذي ليس له رتبة الاجتهاد فلو ظهر له ضعف مذهبه لم يتركه، وكلما لاح له ما يوافق مذهب غيره يقول لعل عند أصحاب مذهبنا جوابا عن هذا». فرحمه الله رحمة واسعة.
وقال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد: «أما اتباع العقل الصِرف فلا يقـْوَى عليه إلا أولياء الله تعالى الذين أراهم الله الحق حقا وقوَّاهم على اتباعه، وإن أردتَ أن تجرب هذا في الاعتقادات فأوردْ على فهم العامي المعتزلي مسألة معقولة جلية فيسارع إلى قبولها، فلو قلت له إنه مذهب الأشعري لنفر وامتنع عن القبول وانقلب مكذبا بعين ما صدَّق به مهما كان سيئ الظن بالأشعري، إذْ كان قَبُحَ في نفسه ذلك منذ الصِبا، وكذلك تقررُ أمرا معقولا عند العامي الأشعري ثم تقول له إن هذا قول المعتزلي فينفر عن قبوله بعد التصديق ويعود إلى التكذيب، ولست أقول هذا طبْع العوام! بل طبْع أكثر مَن رأيته من المتوسمين باسم العلم!، فإنهم لم يفارقوا العوامَّ في أصل التقليد، بل أضافوا إلى تقليد المذهب تقليد الدليل، فهم ـ في نظرهم ـ لا يطلبون الحق، بل يطلبون طريق الحيلة في نصرة ما اعتقدوه حقا بالسماع والتقليد، فإن صادفوا في نظرهم ما يؤكد اعتقادهم قالوا قد ظفرنا بالدليل، وإن ظهر لهم ما يضعف مذهبهم قالوا قد عرضت لنا شبهة، فيضعون الاعتقاد المُتَلَقَّف بالتقليد: أصلا، وينبزون بالشبهة كلَّ ما يخالفه وبالدليل كلَّ ما يوافقه، وإنما الحق ضده!، وهو أن لا يعتقد شيئا أصلا وينظرَ إلى الدليل ويسمي مقتضاه حقا ونقيضه باطلا، وكل ذلك منشؤه الاستحسان والاستقباح بتقدم الإلف والتخلق بأخلاقٍ منذ الصبا».
وقال ابن تيمية رحمه الله: «من صار إلى قولٍ مقلدا لقائله لم يكن له أن ينكر على من صار إلى القول الآخر مقلدا لقائله، لكن إن كان مع أحدهما حجة شرعية وجب الانقياد للحجج الشرعية إذا ظهرتْ، ولا يجوز لأحد أن يرجح قولا على قول بغير دليل، ولا يتعصبَ لقول على قول ولا لقائل على قائل بغير حجة، بل من كان مقلدا لزِمَ حكمَ التقليد فلم يرجِّحْ ولم يزيِّفْ ولم يصوِّبْ ولم يخطِّئْ، ومن كان عنده من العلم والبيان ما يقوله سُمع ذلك منه، فقـُبل ما تبين أنه حق، ورُدَّ ما تبين أنه باطل، وتُوُقف فيما لم يتبين فيه أحد الأمرين». وقال رحمه الله «فإن التقليد لا يورث الجزم».
وقال رحمه الله: «مسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة وإيضاح المحجة، لا الإنكار المجرد المستند إلى محض التقليد، فإن هذا فعل أهل الجهل والأهواء». فرحمه الله رحمة واسعة.