ما الذي يقوله فقهاء الحنفية في علم الكلام؟
ـ قال الفقيه الحنفي برهان الدين بن مازه المتوفى سنة 616 في كتابه المحيط البرهاني: قال أبو يوسف: لا تجوز الصلاة خلف المتكلم وإن تكلم بحق. لأنه بدعة، فلا تجوز الصلاة خلف المبتدع.
ـ نقل الفقيه الحنفي ملا خسرو المتوفى سنة 885 في كتابه درر الحكام عن الفقيه الحنفي الحسن بن منصور الفرغاني الأوزجندي المعروف بقاضي خان المتوفى سنة 592 أنه قال في فتاويه: “رجلٌ خرج في طلب العلم بغير إذن والديه فلا بأس به ولا يكون عقوقا”. وعقب عليه شارحا وموضحا فقال: “مراده بالعلم العلمُ الشرعي وما يُنتفع به فيه، دون علم الكلام وأمثاله، لما رُوي عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: لأن يلقى اللهَ عبدٌ بأكبر الكبائر خير من أن يلقاه بعلم الكلام. فإذا كان حال علم الكلام المتداول في زمانهم هكذا فما ظنك بالكلام المخلوط بهذيانات الفلاسفة المغمور بين أباطيلهم المزخرفة؟!”.
ـ قال الفقيه الحنفي ابن نُجيم في كتابه البحر الرائق: “في الخانية: وعن بعض أهل الفضل: رجل أوصى بأن تُباع كتبه ما كان خارجا من العلم وتُوقَف كتب العلم، ففُتش كتبه، فكان فيها كتب الكلام، فكتبوا إلى أبي القاسم الصفار، فكتب أنَّ كتب الكلام تُباع، لأنها خارجة عن العلم”. الفتاوى الخانية هي فتاوى قاضي خان. أبو القاسم الصفار البلخي هو الفقيه الحنفي أحمد بن عصمة المتوفى سنة 326.
ـ وقال ابن نجيم في البحر الرائق كذلك: “في الخلاصة عن الحَلواني: يُمنع عن الصلاة خلف من يخوض في علم الكلام ويناظر صاحب الأهواء. وحمَله في المجتبى على من يريد بالمناظرة أن يزل صاحبه”.
كتاب الخلاصة هو خلاصة الفتاوي لافتخار الدين طاهر بن أحمد بن عبد الرشيد البخاري المتوفى سنة 542. الحَلواني هو شمس الأئمة عبد العزيز بن أحمد من أهل بخارى، إمام أصحاب أبي حنيفة بها في وقته، تُوفي سنة 450 تقريبا.
كتاب المجتبى هو شرح مختصر القُدوري لمختار بن محمود الزاهدي المتوفى سنة 658، وهذا له اشتغال بعلم الكلام واتـُّهم بمذهب المعتزلة.
ـ قال الشلبي في حاشية تبيين الحقائق: [بخط الحَلواني: “تُمنع الصلاة خلف من يخوض في علم الكلام ويناظر أصحاب الأهواء”. كأنه بناه على ما عن أبي يوسف أنه قال: “لا يجوز الاقتداء بالمتكلم وإن تكلم بحق”. قال الهندواني: يجوز أن يكون مراد أبي يوسف من يناظر في دقائق علم الكلام. وقال صاحب المجتبى: أما قول أبي يوسف لا تجوز الصلاة خلف المتكلم فيجوز أن يريد الذي قرره أبو حنيفة حين رأى ابنه حمادا يناظر في الكلام، فنهاه، فقال: رأيتك تناظر في الكلام وتنهاني؟!. فقال: “كنا نناظر وكأن على رؤوسنا الطير مخافة أن يزل صاحبنا وأنتم تناظرون وتريدون زلة صاحبكم، ومن أراد زلة صاحبه فقد أراد أن يكفر، فهو قد كفر قبل صاحبه”. فهذا هو الخوض المنهي عنه، وهذا المتكلم لا يجوز الاقتداء به].
ـ قال محمد بن أبي بكر المرعشي الشهير بساجقلي زاده المتوفى سنة 1145 رحمه الله في كتابه ترتيب العلوم: “مِن المؤلفات في بعض مسائل الكلام: رسالة إثبات الواجب للدواني، ولها شرح وحاشية على الشرح يشتغل بمدارستها بعض الطلبة مقدار سنة، ومضمونها مسألة واحدة، هي أن للعالم إلها واجب الوجود، مع أدلة طويلة واهية، ومجادلات كثيرة لا ينتج عن الاشتغال بها إلا توهين العقيدة وإيراد الوساوس المهلكة، ومن شك في الله سبحانه فهيهات له اليقين من تلك الرسالة، بل الاشتغال بها يورث شكا لأرباب اليقين ويزيد شكا للشاكِّين”. وقال: “كما هجر الغزاليُّ الكلام كذلك هجرتُه وتبرأتُ وتبتُ منه إلى الله تعالى الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وأسأل الله أنْ لا يحشرني يوم القيامة مع المتكلمين، وهذا القول مني بعد اشتغالي بالكلام وتأليفي فيه نشر الطوالع، والآن أتمنى أن أجمع نسخه المنتشرة وأحرقها بالنار لئلا يبقى مني أثر في الكلام، لكني لا أقدر على ذلك”. ثم قال: “قال صلاح الدين في حاشية شرح العقائد: الاشتغال بتفاصيل علم الكلام يقسي القلب، ولذا نرى أكثر طلبته تاركي الصلاة ومرتكبي الكبائر ومضيعي العمر فيما لا يعنيهم”. وعقب على هذا بقوله: “أما قسوة القلب فقد وجدناها بلا شك عند الاشتغال بها، فنسأل الله أن يقيلنا عثراتنا”. ونقل عن شرح الفقه الأكبر للملا علي القاري أنه قال: “إن أدلة المتكلمين لا تشفى عليلا ولا تروي غليلا، فمآلها إلى الحيرة”. كتبت هذه النبذة في 22/ 9/ 1440.
صلاح الدين المشار إليه هو صاحب حاشية على شرح سعد الدين التفتازاني على العقائد النسفية، وهو معلم السلطان بايزيد بن محمد خان. كذا في كشف الظنون.
* ـ قد يقول قائل: هل يوجد فرق بين علم الكلام وعلم الكلام الإسلامي؟.
أقول: أصل علم الكلام هو مما تكلم به غير المسلمين قبل الإسلام، وبينه وبين الفلسفة تداخل، فقد قال الإمام الغزالي رحمه الله في إحياء علوم الدين: “الفلسفة ليست علما برأسها، بل هي أربعة أجزاء، أحدها الهندسة والحساب، الثاني المنطق، وهو بحث عن وجه الدليل وشروطه ووجهِ الحد وشروطه، وهما داخلان في علم الكلام، الثالث الإلهيات، وهو بحث عن ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته، وهو داخل في الكلام أيضا، والفلاسفة لم ينفردوا فيها بنمط آخر من العلم، بل انفردوا بمذاهب بعضها كفر وبعضها بدعة، والرابع الطبيعيات، وبعضها مخالف للشرع والدين والحق”.
كثير من مسائل علم الكلام كانت موجودة في أبحاث الفلاسفة السابقين من اليونانيين وغيرهم، شأنها في ذلك شأن علم المنطق وغيره من فروع الفلسفة، وتسربت إلى الفكر الإسلامي مع حركة الترجمة من كتب الثقافات القديمة إلى اللغة العربية.
الأبحاث التي تناولها البحث في علم الفلسفة بما يشمل علم المنطق وعلم الكلام وغيرهما لا تعني في حد ذاتها الإيمان أو الكفر، ومنها مسألة الجزء الذي لا يتجزأ، ومسألة هل الكون في أقصى مداه خَلاء أو مَلاء أو لا خَلاء ولا مَلاء؟، ونحو ذلك، فبعض الفلاسفة أقر بعد كل تلك الأبحاث بأن لهذا الكون خالقا عظيما لأنه لا يمكن أن يكون من تلقاء ذاته، وبعضهم وقف مع الإنكار والجحود أو الحَيرة، والعياذ بالله تعالى.
هل كل تلك المعارف هي حقائق؟ أو مجرد ظنون؟ أو فيها وفيها؟، أمَّا بعدَ إذ أنار الله عز وجل بصائرنا بنور الوحي فكل ما جاءنا منهم موافقا لنصوص الوحي فهو حق، وما جاء مناقضا لها فهو باطل لا مرية فيه، وما سوى ذلك فالذي دلَّ الدليل العقلي على صحته صحيح، وما جاء مناقضا لأدلة العقول باطل، وما لم يكن على إثباته أو نقضه دليل عقلي فهو ظن من الظنون التي لا تعنينا، وإن الظن في مثل هذا الباب لا يغني من الحق شيئا.
علماء الكلام المسلمون استفادوا من الطرق الفلسفية والمنطقية والكلامية في تأييد صحة العقائد الإيمانية للرد على أصناف من الكفار وأهل البدع، وذلك إلى جانب الأدلة العقلية المستنبطة من النصوص القرآنية والحديثية.
لكن معظم ما اشتمل عليه علم الكلام مما يُطلق عليه أنه أدلة وبراهين لا يعدو أن يكون تزويقات كلامية للرد والرد المضاد.
أستغربُ جدا ممن يدعي أنه حنفي ماتُريدي ولا يعرف أقوال أئمته في علم الكلام.