الحوار 1 حول كلام الشيخ الكشميري عن حديث إلصاق المنكب بالمنكب
بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين
* ـ يظن بعض الباحثين أن التنبيه على أخطاء بعض العلماء في أبحاثهم العلمية هو إساءة كبرى لهم، وهذا غير صحيح، بل هو من الإحسان لهم.
* ـ يصف بعض الباحثين الشيخ محمد أنور الكشميري رحمه الله بأنه العالم العلامة الرباني الألمعي الكبير، وأنه صاحب التعليقات على فتح القدير لابن الهمام وأحد شراح صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن الترمذي، وأنه ممن قرأ الكتب الستة وأقرأها لطلابه مرات ومرات.
أقول:
إن كان ذلك صحيحا وكان له صواب كثير فليس من مكافأته السكوت عما أخطأ فيه، وإلا فستبقى الأخطاء تتراكم دون تصحيح.
* ـ يرى بعض الباحثين أنه قد وقع خلاف في مسألة إقامة الصفوف وتسويتها في الصلاة، وأن محور الخلاف هو إلصاق قدم المصلي بقدم جاره الذي عن يمينه وجاره الذي عن شماله أثناء القيام في الصف، وقال: [لقول أنس رضي الله عنه: “كنا نفعل ذلك حتى يلتصق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم”. فالقائلون بظاهر هذا النص فسروا الإلصاق بمعناه الحقيقي، وهم يرون أنه لا بد من إلصاق قدم المصلي بقدم جاره عن يمينه وعن شماله إلصاقا حقيقيا يتماس به القدمان ويتلاصق الكعبان، أما مخالفوهم في الرأي فيرون أن الإلصاق الحقيقي لا يتأتى إلا بالمناكب فقط، أما إلصاق القدم بالقدم فهو إلصاق مجازي يكفي فيه أن يكون قدم المصلي قريبا من قدم جاره وإن لم يتماسَّ القدمان، وهذا هو رأي الكشميري، الذي أيده بأدلة من اللغة والرواية وعمل جمهور الأمة].
أقول:
الباحث يعنيني ويعني مقالتي “كلام الشيخ محمد أنور الكشميري حول حديث إلصاق المنكب بالمنكب”، وفي كلامه وقفات:
لم أقل بإلصاق قدم المصلي بقدم جاره الذي عن يمينه وجاره الذي عن شماله أثناء القيام في الصف بهذا الإطلاق.
الذي قلته هو أنه يُسن للمصلي أن يلصق منكبه بمنكب جاره وقدمه بقدمه من كلتا الجهتين وأن هذا لا يتحقق إلا إذا كان الآخرون حريصين على إقامة هذه السنة كذلك، وأنه إن لم يكونوا حريصين فيُسن له أن يلصق منكبه بمنكب جاره من الجهة التي فيها الإمام، وأن تأخذ قدماه على الأرض مسافة مساوية للمسافة التي بين منكبيه، وأن تكون القدمان متجهتين للقبلة على سمْت المنكبين، فإذا فعل الآخرون مثل ذلك اتصل الصف واستوى وسُدت الفُرج بين كل مصلٍّ وجاره.
قال الباحث “وهم يرون أنه لا بد من إلصاق قدم المصلي بقدم جاره”، وأنا لم أقل “لا بد”.
قال الباحث “إلصاقا حقيقيا يتماس به القدمان ويتلاصق الكعبان”، وأنا لم أذكر في مقالتي “ويتلاصق الكعبان”.
ـ قول الباحث “أما مخالفوهم في الرأي فيرون أن الإلصاق الحقيقي لا يتأتى إلا بالمناكب فقط، وهذا هو رأي الكشميري” هو تقويل للكشميري ما لم يقله، إذ إنه لم يذكر أن إلصاق المنكب بالمنكب ينبغي أن يكون إلصاقا حقيقيا قط، بل الذي قاله هو خلاف ذلك إذ يقول “أي أنْ لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثا”، فهل هذا كلام من يقول بأن إلصاق المنكب بالمنكب ينبغي أن يكون إلصاقا حقيقيا؟!!، وليت الكاتب يراجع النص في كتاب الكشميري.
لا أدري لمَ وقع تقويله ما لم يقله؟!، بل تقويله خلاف ما صرح به؟!.
ـ قال الباحث “هذا هو رأي الكشميري الذي أيده بأدلة من اللغة والرواية وعمل جمهور الأمة”، وهذا غير صحيح:
ـ الكشميري لم يذكر معنى الإلصاق ولا معنى التراصّ في اللغة، وإذا كان عالما بمعنى اللفظتين فلمَ فسر الحديث بخلاف معناهما؟!.
قد يُقال: هو يرى أن الإلصاق والتراص يُراد بهما هنا المعنى المجازي.
لكن المجاز هو من إخراج اللفظ عن معناه الظاهر منه والعدولُ به إلى معنى آخر لقرينة، أما أن يكون هذا بغير قرينة دالة عليه فهو غير جائز عند أهل العلم.
قال تاج الدين السبكي رحمه الله في جمع الجوامع: “لا يجوز ورود ما يُعنى به غيرُ ظاهره إلا بدليل”. وقال: “الظاهر ما دل دلالة ظنية، والتأويل حمْل الظاهر على المحتمِل المرجوح، فإن حُمل لدليل: فصحيحٌ، أو لِما يُظن دليلا: ففاسدٌ، أو لا لشيء: فلعبٌ”.
ـ أين أيد الشيخ كلامه بالرواية وعمل جمهور الأمة؟!. بل الروايات وعمل جمهور الأمة بخلاف ما فهمه من الحديث.
* ـ ثم قال الباحث:
“المعنى المجازي لإلصاق القدم بالقدم هو الأقرب لروح التشريع، وعندما تقرأ رد الكاتب على هذا الكلام يُخيل إليك أن رأي الشيخ في هذه المسالة مخالف للصورة التي كان عليها فعل الصحابة الكرام، وهذه الصورة كما يتخيلها الكاتب ويراها مثالية هي الاصطفاف القائم على قاعدة المداعسة فإما أن يكون المصلي في الصف داعسا على قدم جاره أو مدعوسا”.
أقول:
المعنى الحقيقي لإلصاق القدم بالقدم هو الأقرب لروح التشريع إذا فهمنا النص وحقيقة تطبيقه، أما ذلك الإلصاق عند الذين شوهوا صورة السنة فهو البعيد عن روح التشريع.
ـ رأي الشيخ في هذه المسالة مخالف للصورة التي كان عليها فعل الصحابة الكرام، ليس في ذلك شك، فالشيخ يقول “أي أنْ لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثا”، وأنس بن مالك يقول كما في صحيح البخاري “كان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه”. وقال أنس كما في مصنف ابن أبي شيبة ومسند أبي يعلى: “لقد رأيت أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه، ولو ذهبتَ تفعل ذلك لـَتَرى أحدهم كأنه بغل شَمُوس”.
ـ قول الباحث “الصورة التي يتخيلها الكاتب ويراها مثالية هي الاصطفاف القائم على قاعدة المداعسة فإما أن يكون المصلي في الصف داعسا على قدم جاره أو مدعوسا” هو افتراء محض. والله حسيبه.
* ـ قال الباحث:
[الكشميري رحمه الله كان على صواب حين قال في كتابه فيض الباري “ليس عندهم – أي ليس عند القائلين بلصق القدم بالقدم في الصلاة- إلا لفظ الإلزاق”].
أقول:
كلام الشيخ هنا غير صحيح، بل عندهم هذا اللفظ واللفظ الآخر الذي هو التراصّ، وهذه الكلمات الثلاثة “الإلزاق والتراصّ وعدم ترك الفُرُجات” تعبر عن حالة واحدة.
* ـ قال الباحث:
[لا ينبغي أن يقال هنا إن قول أنس رضي الله عنه “وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه” هو نص في المسالة لا يجوز خلافه، فالشأن ليس كذلك، لأن المراد من لفظ الإلصاق دائر بين الحقيقة والمجاز، ثم إنه لم يتكلم عن إلصاق الأقدام سوى أنس بن مالك والنعمان بن بشير رضي الله عنهما، وسكت عنه غيرهما، ويمكن القول بأنه ليس هنالك أي حديث قولي عنه صلى الله عليه وسلم يأمر فيه بإلصاق القدم بالقدم وأن أقدام السلف كانت متقاربة في الصف وليست متلاصقة كما يفسر الإلصاق من يفسره على هواه].
أقول:
لفظ الإلصاق دائر بين الحقيقة والمجاز، شأنه في ذلك شأن غيره من الألفاظ، والشيخ يرى أن لا يترك المصلي بينه وبين جاره في الصلاة فرجة تسع فيها ثالثا، وهذا يعني أنه يقول بالإلصاق المجازي في المناكب وفي الأقدام بصورة مجازية بعيدة كل البعد عن الإلصاق الحقيقي والإلصاق المجازي، وأين القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي؟!.
ـ الباحث يقول “الإلصاق الحقيقي لا يتأتى إلا بالمناكب فقط أما إلصاق القدم بالقدم فهو إلصاق مجازي” فأين القرينة الصارفة في مسألة الأقدام دون مسألة المناكب؟!.
ـ قول الباحث “لم يتكلم عن إلصاق الأقدام سوى أنس بن مالك والنعمان بن بشير رضي الله عنهما وسكت عنه غيرهما” ما الذي يعنيه؟:
كأنه يريد أن يقول وردتْ أحاديث كثيرة في تعديل الصفوف وتسويتها ولم يأت إلصاق الأقدام إلا في حديثين فقط وأن هذا كافٍ في ترك العمل بها!، وهذا غير صحيح البتة، فلا يُشترط في كل هيئة من هيئات الصلاة أن تأتي موضَّحة في كل رواية من الروايات التي ذكرتْها ولو بالإجمال.
فالمجمل يؤخذ بيانه من المبيَّن، ولا يجوز ترك المبين وحمله على المجمل ليُتوصل بذلك إلى ترك البيان.
ـ قول الباحث “ليس هنالك أي حديث قولي عنه صلى الله عليه وسلم يأمر فيه بإلصاق القدم بالقدم” كلام غريب، كأنه يرى أن أي هيئة من هيئات الصلاة لا يكفي أن يصف فيها صحابي عمل الصحابة وهم خلف النبي صلى الله عليه وسلم! وأنه لا يُعمل بها حتى يرِد في المسألة حديث قولي!.
ـ حديث أنس رضي الله عنه ليس موقوفا عليه فقط، بل هو حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم من إقراره، وليس من شروط صحة العمل بالحديث أن يكون من قوله أو فعله صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك أنه قال: أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: “أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري”. وحيث إنه رآهم وهم يلصقون المنكب بالمنكب والقدم بالقدم وأقرهم على ذلك فهذا حديث نبوي بالإقرار.
ـ فمَن الذي يفسر الحديث على هواه إذًا؟!. هل الذي يقف مع الحديث النبوي وعمل الصحابة أو الذي يقف في الطرف الآخر؟!.
* ـ قال الباحث:
[أراد الكشميري أن يستأنس باللغة العربية في تأويل قول أنس رضي الله عنه، فاستدل بالإلصاق المجازي الذي في باء الإلصاق عند النحاة على أن الإلصاق الذي تحدث عنه أنس والنعمان بن بشير إنما هو إلصاق مجازي أيضا، وأورد الشاهد النحوي “مررت بزيد”، ولا يكون مرور المار ملصقا بزيد إلا إذا كان المار نفسه قريبا منه، فهل في هذه الباء مادة لاصقة تجعل من الممكن إلصاق المرور بزيد إلصاقا حقيقيا؟؟، إن هذا غير ممكن البتة، لاختلاف الماهية بين العَرَض والجوهر].
أقول:
ـ إذا كان مراد الكشميري أن يستأنس بالمثال المذكور ليثبت أن هنالك إلصاقا مجازيا في اللغة فلا داعي لذلك، فاللغة فيها مجاز، وكان يكفيه أن يقول هذا مجاز ويذكرَ ما يدل على إرادة المجاز، وإذا كان مراده أن يستأنس بالمثال ليثبت أن الإلصاق المذكور في حديث أنس هو إلصاق مجازي فلا دليل له فيه، لأن العدول باللفظ من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي لا بد فيه من قرينة تدل عليه في محل البحث لا في مكان آخر.
هل كان يريد أن يقنع قارئ كتابه بأن وجود إلصاق مجازي في المثال الذي ذكره كافٍ في إثبات أن الإلصاق في حديث أنس هو إلصاق مجازي؟!. وهذا إذا سُلم له جدلا أن الإلصاق في المثال المذكور هو مجازي.
ـ قول الباحث “لا يكون مرور المار ملصقا بزيد إلا إذا كان المار نفسه قريبا منه لاختلاف الماهية بين العَرَض والجوهر” قول غريب، كأنه لا يكون الإلصاق في اللغة إلا بين جوهر وجوهر، وهذا غير صحيح، لأن الإلصاق بين العَرَض والجوهر موجود في اللغة، واستعماله كثير، ومنه: “ألصقت التهمة بالمتهم”.
* ـ قال الباحث:
[لقد ملأ الكاتب صفحتين من النقول في الرد على هذه الفقرة من كلام الشيخ ردا خارج الموضوع تماما، وواضح هنا أن الكاتب لم يفهم عبارة الشيخ، لأنه اجتزأها من السياق، فأخطأ في فهمها مرتين، وقام بناء على ذلك باتهام الشيخ بتهمتين، والشيخ منهما براء، واليكم البيان الذي يطرد الشيطان: اتهمه بتأكيد عدم استحبابه إلصاق المنكب بالمنكب، وهو اتهام باطل، وارجعوا بنا ثانية إلى عبارة الشيخ رحمه الله في سياقها العام لنرى أن البخاري رحمه الله قال “باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف”، فعلق ابن حجر رحمه الله قائلا “المراد بذلك المبالغة في تعديل الصف وسد خلله”، فعلق الكشميري على كلام ابن حجر قائلا “وهو مراده عند الفقهاء الأربعة”، والضمير “هو” في عبارة الكشميري يعود على تعديل الصف وسد الخلل، ففسر الكشميري الخلل بترك فرجة فاحشة تسع فيها ثالثا، فهو يعتبر الفرجة خللا في الصف، فكيف يدعو إلى هذا الخلل ويتبناه؟!، وكيف فهم الكاتب عبارة الكشميري على نقيض معناها!!، يا سبحان الله!!، إن العجلة من الشيطان].
أقول:
ـ قول الباحث “لقد ملأ الكاتب صفحتين من النقول في الرد على هذه الفقرة من كلام الشيخ ردا خارج الموضوع تماما” يضطرني إلى أنقلها لإظهار مقدار عدم الدقة في هذا الكلام. وهي هذه:
[روى أبو يوسف تلميذ الإمام أبي حنيفة في كتاب الآثار عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول: “سووا صفوفكم، سووا مناكبكم، تراصوا”. ولم يعلق عليه بشيء. وروى محمد بن الحسن تلميذ الإمام أبي حنيفة في كتاب الآثار عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم أنه كان يقول: “سووا صفوفكم، وسووا مناكبكم، تراصوا”. قال محمد: وبه نأخذ، لا ينبغي أن يُترك الصف وفيه الخلل حتى يسووا، وهو قول أبي حنيفة. وقال مجد الدين ابن الأثير المتوفى سنة 606 في كتاب الشافي في شرح مسند الشافعي بعد ذكر حديث “أقيموا صفوفكم وتراصوا”: قال الشافعي في رواية حرملة: هذا ثابت عندنا، وبهذا نقول. وقال الخطابي المتوفى سنة 388 في كتابه أعلام الحديث: قوله “تراصوا” معناه تدانَوا وتضامُّوا حتى يتصل ما بينكم ولا ينقطع، ومنه قول الله تعالى {كأنهم بنيان مرصوص}. وقال ابن بطال المتوفى سنة 449 في شرح صحيح البخاري بعد ذكر عدة روايات ومنها “كان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه”: هذه الأحاديث تفسر قوله عليه السلام “تراصوا في الصف”، وهذه هيئة التراصِّ. وقال الباجي المتوفى سنة 474 في المنتقى: تسوية الصفوف من هيئات الصلاة، وهو يتصل بمقام المأمومين من الإمام، فإذا كانوا عددا لزم فيهم إقامة الصفوف وهو تقويمها ونماؤها والتراص فيها. وقال التوربشتي المتوفى سنة 661 في كتاب الميسر في شرح مصابيح السنة: ومنه حديث “أقيموا صفوفكم وتراصوا”، أي تلاصقوا حتى لا يكون بينكم فُرَج. الفُرْجة: انفتاح بين شيئين. وقال النووي في شرح صحيح مسلم: قوله صلى الله عليه وسلم “أقيموا الصف في الصلاة”: أي سووه وعدلوه وتراصوا فيه. وقال مظهِر الدين حسين بن محمود الزيداني الحنفي المتوفى سنة 727 في كتابه المفاتيح في شرح المصابيح: قوله “أقيموا صفوفكم”: أي سووا وأتموا صفوفكم، “وتراصوا”: أي ليقرُبْ كلُّ واحد منكم بجنب صاحبه بحيث تتصل مناكبكم، تراصَّ الشيئان إذا انضما ولزق أحدهما بالآخر. وقال العيني المتوفى سنة 855 في عمدة القاري: قوله “وتراصوا” معناه تضامُّوا وتلاصقوا حتى يتصل ما بينكم ولا ينقطع، وأصله من الرص، يقال رص البناءَ يرصه رصا إذا لصق بعضه ببعض، ومنه قوله تعالى {كأنهم بنيان مرصوص}. وأما ابن حجر فخالف الجمهور في هذه المسألة، حيث أورد احتمالا في معنى “تراصوا” يخرجها عن المعنى اللغوي، فقال في فتح الباري: قوله “وتراصوا” بتشديد الصاد المهملة: أي تلاصقوا بغير خلل، ويحتمِل أن يكون تأكيدا لقوله “أقيموا”، والمراد بِ “أقيموا” سووا].
هذا ما قال عنه الباحث “لقد ملأ الكاتب صفحتين من النقول في الرد على هذه الفقرة من كلام الشيخ ردا خارج الموضوع تماما”، فهل هي خارج الموضوع؟!.
وإنما أوردتُ هذه النقول التي هي في صلب الموضوع لأنها تبين أقوال جماعة من العلماء على مر العصور على وَفق ما جاء في الحديث الصحيح.
ـ أتمنى أن يتصور الباحث ومن معه صفوف المصلين وبين كل مصلٍ وجاره فرجة لكنها أقل من أن تتسع لشخص ثالث بينهما!. هل هذه الصورة في صفوف الصلاة هي ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم؟!، وهل هي ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم والعلماء الذين من بعدهم وخاصة الذين نقلت أقوالهم؟!.
ـ يقول الباحث عقب ذلك: “وواضح هنا أن الكاتب لم يفهم عبارة الشيخ، لأنه اجتزأها من السياق، فأخطأ في فهمها مرتين، وقام بناء على ذلك باتهام الشيخ بتهمتين، والشيخ منهما براء، وإليكم البيان الذي يطرد الشيطان”.
مَن الذي لم يفهم عبارة الشيخ؟!، عبارة الشيخ واضحة تمام الوضوح، وهي هذه:
قال الشيخ محمد أنور الكشميري في شرح هذا الحديث: [قال الحافظ: المراد بذلك المبالغة في تعديل الصف وسد خلله. قلت: وهو مراده عند الفقهاء الأربعة، أي أنْ لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثا]. هذا نص كلامه بحروفه.
فأين محل الشيطان الذي يطرده البيان؟!!.
وأما الباحث فالله حسيبه، وما يوم الجزاء بين يدي أحكم الحاكمين ببعيد.
ـ يرى الباحث أنني اتهمت الشيخ الكشميري بعدم استحبابه إلصاق المنكب بالمنكب، وأن هذا اتهام باطل، وأنني فهمت عبارة الكشميري على نقيض معناها!.
بنى الباحث قوله هذا على أن الشيخ يرى استحباب تعديل الصف وسد الخلل، وأنه فسر الخلل بترك فرجة تسع فيها ثالثا، وأنه يعتبر الفرجة خللا في الصف فلا يمكن أن يدعو إلى هذا الخلل ويتبناه!.
كلام الشيخ معناه واضح، يرى استحباب تعديل الصف وسد الخلل، ويفسر الخلل بترك فرجة تسع فيها ثالثا، ويعتبر الفرجة خللا في الصف، وهو لا يدعو إلى هذا الخلل ولا يتبناه، لكن ما الخلل عنده؟، الخلل عنده يكون بترك فرجة تسع فيها ثالثا، فهو منسجم مع فهمه الذي فهمه من الحديث، كما هو واضح. فهل أنا فهمت كلامه على نقيض معناه؟!!. ومَن صاحب الاتهام الباطل؟!.
ـ كلام الشيخ مناقض للحديث الصحيح الصريح في استحباب إلصاق المنكب بالمنكب وبالتراص، وهذا ما لا يستطيع الباحث تصوره على ما يبدو. فهل كان الشيخ في حالة ذهول عن معنى التراص؟، أو إنه يحمله حسب فهمه على التراص المجازي إن كانت كلمة التراص تحتمِل المجاز.
وتقدم أن الباحث جعل الشيخَ من الذين يرون أن الإلصاق الحقيقي لا يتأتى إلا بالمناكب فقط، وأن إلصاق القدم بالقدم هو إلصاق مجازي، وأكد على هذا بقوله “هذا هو رأي الكشميري”. والشيخ لم يذكر أن الإلصاق الحقيقي لا يتأتى إلا بالمناكب، لا من قريب ولا من بعيد.
ـ فعُلم مما تقدم أن الباحث لم يفهم كلام الكشميري أصلا، وأن القوة الغضبية أظهرت كوامن ما في النفس وجعلته يرمي البريء بما هو بريء منه!.
لا أملك سوى أن أقول للباحث: اتق الله في نفسك، فأنت مسؤول عن كل كلمة.
قال الله عز وجل: {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا}.
ـ وددتُ لو صرف الباحث جزءا من الوقت لقراءة كلام الشيخ الكشميري بدقة وتأملٍ ليعرف مدى الخلل الذي وقع فيه الشيخ، وليعرف هذا الباحث مدى الخلل الذي وقع هو فيه فأوقعه في اتهام من هو بريء منه.
قال الله عز وجل: {ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا}.
* ـ قال الباحث:
“المتبادر إلى الذهن من كلام الشيخ الكشميري رحمه الله أنه يكفي عنده أن يقترب المصلي من جيرانه في الصف حتى يمس المنكب المنكب، ولا بأس من التراص اليسير بالمنكبين، لأنه ثابت بالنص، ومع ذلك فهو مقيد بأن لا يترتب عليه مضايقة تفسد الخشوع”.
أقول:
لم يقل الشيخ بأن يقترب المصلي من جيرانه في الصف حتى يمس المنكب المنكب وأنه لا بأس من التراص اليسير بالمنكبين، ولو كان يقول بهذا لمَا فسر المبالغة في تعديل الصف وسد خلله بأن لا يترك المصلي في البين فرجة تسع فيها ثالثا.
* ـ قال الباحث:
“أما بالنسبة لإلصاق القدم بالقدم فالأقرب إلى روح الشريعة أن يكون المراد بذلك ما قاله الكشميري رحمه الله أنه لا يمكن إلزاق المنكب مع إلزاق القدم إلا بعد ممارسة شاقة، وفي هذا حرج، {وما جعل عليكم في الدين من حرج}”.
أقول:
الحرج والمشقة إنما يأتيان من محاولة بعض المصلين أن يلصق قدمه بقدم جاره المصلي الذي يضم قدميه إلى بعضهما وهو لا يدري أن هذا غير مطلوب منه، وأما إذا حاول المصلي أن يلصق القدم بالقدم من الجانبين بالجارين اللذين يضمان القدمين إلى بعضهما فالحرج والمشقة شديدان، فإذا أضاف إلى إلصاق الأقدام إلصاقَ الكعبين أصبح الأمر في غاية الضيق والحرج إن لم نقل هو أشبه بالمستحيل.
هذا الفعل المشوه المتطرف المخالف للسنة هو الذي دفع بعض الناس للتطرف في الجانب الآخر، لدرجة أن بعضهم يرى أنه لو ترك المصلي بينه وبين جاره فرجة ليست فاحشة بحيث إنها لا تتسع لشخص ثالث بينهما فهو غير مخالف للسنة، وكان لا بد ـ على هذا الفهم ـ من محاولة تأويل النصوص والعدول بمعاني الألفاظ عن المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي ولو بدون قرينة، ولو فُهمت النصوص على وجهها السليم لمَا احتاجوا إلى كل هذا.
* ـ قال الباحث:
“ثم إنه قد يكون في أرجل بعض المصلين مرض خطير كالفطر والأكزما والصدف، وقد يتحسس بعضهم من ملامسة قدمه بأقدام الآخرين، فيشغله ذلك عن صلاته”.
أقول:
إذا وقعت مثل هذه الحالات فالشريعة لا تطلب من المصلي أن يفعل ما فيه ضرر، فالحديث واضح كل الوضوح “لا ضرر ولا ضرار”. لكن الضرورة التي تدفع الضرر تُقدر بقدرها، فلا يجوز أن تُتخذ ذريعة لإلغاء العمل بالأصل حيث لا ضرورة.
* ـ قال الباحث:
“كاتبُ البحث سمى ملاحظاته على الشيخ مؤاخذات، ومعلوم أن المؤاخذة زلل يستحق صاحبه العقوبة، ولا تعني الملامة أبدا، قال في لسان العرب: آخذه بذنبه مؤاخذة: عاقبه، وفي التنزيل العزيز “فكلا أخذنا بذنبه”، وفي الحديث “من أصاب من ذلك شيئا أخِذ به”، يُقال أخِذ فلان بذنبه أي حُبس وجُوزي عليه وعوقب به”.
أقول:
ذكر ابن منظور في لسان العرب هنا معنى “آخذه بذنبه” سواء أكان الذنب مذكورا بالتصريح أو التلميح، وما قاله صحيح، ولكنه لم يذكر معنى كلمة “آخذه”، وهي لا تعني إذا كانت مجردة عن ذكر الذنب تصريحا أو تلميحا أن هناك زللا يستحق صاحبه العقوبة.
ـ قال موسى عليه السلام للعبد الصالح {لا تؤاخذني بما نسيت}، ولم يكن يستسمح بقوله هذا عن زلل يستحق صاحبه العقوبة.
ـ وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة تأبير النخل “إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا، فلا تؤاخذوني بالظن”. ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسمح بقوله “فلا تؤاخذوني بالظن” عن زلل يستحق صاحبه العقوبة.
ـ فقول الباحث “ومعلوم أن المؤاخذة زلل يستحق صاحبه العقوبة ولا تعني الملامة أبدا” غير صحيح، وهو تحريف للغة العرب.
* ـ قال الباحث:
“على الرغم من كون الكاتب تصنع الأدب واللين إلا أن رده كان قاسيا بكل ما تعنيه القسوة من معنى، وكوفئ هذا الإمام بمقال هجاء لم يغادر فيه كاتبه ساقطة ولا لاقطة من المثالب إلا وألصقها به”. وقال: “لهذا تنمَّر عليه وتقمَّص هيئة المعلم الذي يصوب خطأ لأحد طلابه الصغار”. وقال: [ما كان ينبغي – في رأيي – أن يُرد على الكشميري هذا الرد الجافي المطول الذي حاول فيه كاتبه إخفاء جفائه بمثل قوله “رحمه الله”، و”سامحه الله”، ولكن ضاعت هاتان اللفظتان في خضم استخفافه بالشيخ وتعاليه عليه في الخطاب].
أقول:
هل أنا أتصنع الأدب واللين مع الشيخ رحمه الله؟!، هل مقالي هو مقال هجاء لم أغادر فيه ساقطة ولا لاقطة من المثالب إلا وألصقتها به؟!، هل أنا تنمَّرت على الشيخ وتقمَّصت هيئة المعلم الذي يصوب خطأ لأحد طلابه الصغار؟!، هل تبييني لما أخطأ فيه الشيخ هو رد جافٍ حاولت فيه إخفاء جفائي له مع الاستخفاف بالشيخ والتعالي عليه في الخطاب؟!.
ألا تتقي الله يا من تتكلم على ما في قلوب الناس وضمائرهم وكأنك تشارك الله عز وجل في الربوبية وعلم الغيب؟!، ألا تتقي الله في كتابة هذا الكلام وهو محض كذب وافتراء؟!، أسأل المولى تعالى أن يجازيك في الآخرة بما تستحق، والملتقى بين يدي أحكم الحاكمين يوم العرض الأكبر.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 27/ 2/ 1440، الموافق 5/ 11/ 2018، والحمد لله رب العالمين.