حديث قتلوه قتلهم الله

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وله الحمد في الأولى والآخرة.

 

حديث “قتلوه قتلهم الله”

 

ـ هذا الحديث رواه ابن حنبل والدارمي وأبو داود والطبراني في الكبير والبيهقي من أربعة طرق عن الأوزاعي أنه قال: بلغني أن عطاء بن أبي رباح قال إنه سمع ابن عباس يخبر أن رجلا أصابه جرح في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أصابه احتلام، فأمِر بالاغتسال، فمات، فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم  فقال: “قتلوه!، قتلهم الله، ألم يكن شفاء العي السؤال؟!”.

ورواه عبد الرزاق عن الأوزاعي عن رجل عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس به نحوه، وجاء عنده “قتلتموه؟!، قتلكم الله، ألم يكن شفاء العي السؤال؟!”. ورواه الطبراني في الكبير من طريق عبد الرزاق به.

في هذا الإسناد انقطاع بين الأوزاعي وبين عطاء، أو بينهما راو مبهم، والأمر سيان، فهذا الإسناد ضعيف.

ـ ورواه أبو يعلى والطبراني في الكبير والحاكم وأبو نعيم في الحلية من طريق هِقْل بن زياد وأيوب بن سويد ومحمد بن كثير المصيصي عن الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس به. والرواية هكذا لا شك في أنها من باب الوهَم، وأيوب بن سويد ومحمد بن كثير المصيصي ضعيفان جدا، فلا يستغرب منهما أن يوْهَما بمثل هذا، ولكن هِقْل بن زياد ثقة، والخطأ في روايته هو منه أو ممن روى عنه.

ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمار عن عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين عن الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح به. [هشام بن عمار دمشقي صدوق ثقة كبر فتلقن ومات سنة 245. عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين دمشقي بيروتي صدوق ثقة فيه لين، مات بعد سنة 180. الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو ثقة إمام مات سنة 157].

في هذه الطرق الأربعة عن الأوزاعي وهَم ظاهر، حيث إنه يصرح في الطرق الثابتة عنه بأنه لم يسمع هذا الحديث من شيخه عطاء بن أبي رباح وأنه تلقاه بواسطة راو طوى اسمَه ويأتي هؤلاء الأربعة فيسوون الإسناد ويجعلونه عن الأوزاعي عن عطاء!.

ـ ورواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم عن أبي عبد الله محمد بن عبد الله عن محمد بن معاوية القرشي عن إسحاق بن أبي حسان الأنماطي عن هشام بن عمار عن عبد الحميد بن أبي العشرين عن الأوزاعي أنه قال حدثنا عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس.

[محمد بن عبد الله بن حكم أبو عبد الله، سمع أبا بكر محمد بن معاوية القرشي المعروف بابن الأحمر، وثقه ابن حزم، كما في جذوة المقتبس. محمد بن معاوية بن عبد الرحمن، المعروف بابن الأحمر، قرطبي ثقة، طال عمره ومات سنة 358، كما في تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي. إسحاق بن إبراهيم بن أبي حسان الأنماطي بغدادي ثقة مات سنة 302].

وهذا الطريق قد أوغلَ في الوهَم، إذ تقدمت رواية هشام بن عمار عن عبد الحميد بن أبي العشرين عن الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح بدون ذكر السماع بين الأوزاعي وبين شيخه عطاء، وتقدم بيان الخطأ الذي فيها، فجاءت الرواية هنا من الطريق عينه لتضيف ذكر السماع بينهما، فلا شك أنها رواية منكرة الإسناد.

ومما يؤكد وقوع الخطأ في رواية هشام بن عمار عن عبد الحميد بن أبي العشرين أن ابن أبي حاتم سأل أباه وأبا زرعة عن هذا الحديث فقالا: “روى هذا الحديثَ ابن أبي العشرين عن الأوزاعي عن إسماعيل بن مسلم عن عطاء عن ابن عباس، وأفسدَ الحديث”. فهذا الكلام يدخل بين الأوزاعي وبين عطاء رجلا ويسميه إسماعيل بن مسلم. [إسماعيل بن مسلم هو أبو إسحاق المكي بصري الأصل ضعيف منكر الحديث].

ـ ورواه الحاكم عن أبي العباس محمد بن يعقوب عن أبي عثمان سعيد بن عثمان التنوخي عن بشر بن بكر عن الأوزاعي أنه قال حدثنا عطاء بن أبي رباح أنه سمع عبد الله بن عباس. [محمد بن يعقوب بن يوسف بن معقل أبو العباس الأصم، له رحلة واسعة، نيسابوري ثقة، ولد سنة 247 ومات سنة 346. سعيد بن عثمان التنوخي حمصي لين، مات قبل سنة 270، قال ابن أبي حاتم محله الصدق، وضعفه الدارقطني. بشر بن بكر التنيسي ثقة ولد سنة 124 ومات سنة 205].

فهذا الطريق ضعيف، ومنكر نكارة شديدة، لمخالفته لروايات الثقات الذين بينوا الانقطاع في السند بين الأوزاعي وعطاء.

ـ ورواه أبو داود والدارقطني والبيهقي عن موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي عن محمد بن سلمة عن الزبير بن خُريق عن عطاء عن جابر به نحوه. [موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي صدوق. محمد بن سلمة الحراني ثقة مات سنة 192. الزبير بن خُريق الجزري لم أجد في الرواة عنه سوى راويين، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال عنه الدارقطني ليس بالقوي]. فهذا الطريق لين.

ـ ورواه ابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي عن اثنين عن عمر بن حفص بن غياث عن أبيه عن الوليد بن عبيد الله بن أبي رباح عن عمه عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس به. [عمر بن حفص بن غياث كوفي ثقة فيه لين مات سنة 222. أبوه حفص بن غياث ثقة يدلس الإسناد ساء حفظه بعدما استُقضي ومات سنة 195. الوليد بن عبيد الله بن أبي رباح ذكره ابن حبان في الثقات، وضعفه الدارقطني، وكذا البيهقي في السنن 6/ 10]. فهذا الطريق ضعيف.

وجاء عقب هذه الرواية في صحيح ابن خزيمة وابن حبان والمنتقى لابن الجارود قول أحد رواة السند: [شك في “ابن عباس”، ثم أثبته بعد]. ولم تبين المصادر مَن القائل ومَن الذي وقع له الشك في ذكر ابن عباس، والذي يظهر لي أن القائل هو حفص بن غياث، وأن الذي وقع له الشك هو الوليد بن عبيد الله، وهذا يعني أن الوليد سمع الحديث من عطاء ثم قع له تردد هل روى عطاءٌ له الحديث مرسلا أو أسنده عن ابن عباس؟، وأنه استقر وهْمه بعد التردد على أن في السند ابن عباس.

ـ ورواه عبد الرزاق عن ابن المبارك عن جرير بن حازم عن النعمان بن راشد عن زيد بن أبي أنيسة أنه قال: كان برجُلٍ جُدَرِي فأصابته جنابة فأمروه فاغتسل. الحديثَ. [جرير بن حازم بصري ثقة فيه لين مات سنة 170. النعمان بن راشد الجزري الرقي ضعيف. زيد بن أبي أنيسة الجزري الرهاوي ثقة فيه لين مات سنة 125]. فهذا الإسناد ضعيف.

ـ ورواه ابن أبي شيبة عن عبد السلام بن حرب عن إسحاق بن أبي فروة عن عطاء به مرسلا. [عبد السلام بن حرب كوفي معمر ثقة فيه لين مات سنة 187. إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة مدني متروك الحديث واتهم بالكذب، ومات سنة 144]. فهذا الإسناد تالف.

ـ ورواه عبد الرزاق عن ابن سمعان عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري عن رجل عن ابن عباس. [عبد الله بن زياد بن سليمان بن سمعان مدني متروك الحديث متهم بالكذب. عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر الأنصاري مدني ثقة مات سنة 134]. فهذا الإسناد تالف.

ـ وروى ابن عدي والبيهقي في الخلافيات من طريق عمرو بن شمر عن عمرو بن قيس عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: أجنب رجلٌ مريضٌ في يومٍ باردٍ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال “مالهم؟! قتلوه؟، قتلهم الله، إنما كان يجزئ من ذلك التيمم”. عمرو بن شمر متروك الحديث واتهم بالكذب. فهذا الإسناد تالف.

ـ خلاصة القول: أن طريق الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح منقطع لا يصح، وأن طريق الزبير بن خُريق الجزري عن عطاء لين، وأن طريق الوليد بن عبيد الله بن أبي رباح عن عطاء ضعيف، وأن ما سوى ذلك شديد الضعف، والظاهر أن عطاء بن أبي رباح روى هذا الحديث مرسلا ولم يسنده، فأخذه بعض الضعفاء فجعلوه عن عطاء عن ابن عباس.

فما كان له شاهد فيرتقي لمرتبة الحسن، وهو جواز التيمم لمن وجب عليه الغسل وبه جراحة يُخشى عليه بسببها من استعمال الماء، والشاهد هو موافقة ظاهر الآية الكريمة من قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسِكم وأرجلَكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون}.

وأما ما ليس له شاهد وهو قوله “قتلوه قتلهم الله” فيبقى ضعيفا.

والقرائن تدل على أن مثل هذا القول لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله لمن أخطأ في اجتهاده، فقد روى البخاري عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحُرَقة، فصبحْنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال لا إله إلا الله، فكف الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا أسامة، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟!. قلت: كان متعوذا. فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.

وروى ابن حنبل من طريق رباح بن الربيع عن أخيه حنظلة الكاتب أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها وعلى مقدمته خالد بن الوليد، فمر رباح وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة، فوقفوا ينظرون إليها، حتى لحقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، فانفرجوا عنها، فوقف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “ما كانت هذه لتقاتل”. وقال لأحدهم: “الحقْ خالدا فقل له لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا”.

والله أعلم.

وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 19/ 3/ 1437، الموافق 30/ 12/ 2015، والحمد لله رب العالمين.